Image Background

اخترنا لك

"ماما تحلّق": أمومة قوية ونقد لمعتقدات مجتمعية

اخترنا لك: كتب


"ماما تحلّق": أمومة قوية ونقد لمعتقدات مجتمعية
أسماء أبو اسماعيل

"ماما تحلّق" قصة قصيرة من تأليف ورسومات الكاتبة جين كوين فليتشر، ومن ترجمة وسام عبد الله. تروي لنا الكاتبة جين على لسان طفل صغير قصة أمه وآلة تحليقها العجيبة التي تخوض بواسطتها وايّاه مغامرات عديدة، لنكتشف مع تقدم الأحداث أنّ الأمّ من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وأنّ آلة التحليق العجيبة هي كرسيّ العجلات الذي تتنقل بواسطته من مكان إلى مكان حاملة طفلها بحضنها. أعتقد أنّ القصة تلائم أجيال من 4-7 سنوات.
نجد في القصة توجّهًا مختلفًا؛ فبينما كبرنا مع الفكرة التي تقول إنّ كرسي العجلات هو كرسيّ المعوقين أو المقعدين، ومن يستخدمونه بحاجة للمساعدة ولا يستطيعون فعل شيء وحدهم، تروي لنا الكاتبة على لسان طفل صغير حكاية أخرى. في "ماما تحلق" كرسي العجلات هو "آلة عجيبة للتحليق"، يقوم صاحبه بأعمال قد يقوم بها أيّ شخص لا يجلس على كرسي عجلات... فتارة يكون في نزهة في المروج الخضراء كأنه حصان سباق وتارة فوق مياه الأمطار كأنها سفينة في بحر، وتارة أخرى على رصيف الشارع كأنها سيارة سباق... ومثل ذلك الكثير من النشاطات!
لم يكن توجه الكاتبة مختلفًا بالنسبة لي فقط في تصويرها لكرسي العجلات على أنّه "آلة تحليق"، بل تجلّى ذلك في أفكار كثيرة ظهرت في أحداث القصة وتفاصيلها الصغيرة، منها فكرة أنّ بطلة القصّة صاحبة آلة التحليق العجيبة هي، في الوقت ذاته، زوجة وأمّ لطفل صغير يراها أفضل أمّ في الدنيا! تملك زوجا يحبّها كما هي والأهم من ذلك كله يحترمها ويساندها. فالمجتمع الذي ترعرعنا به لم يصور لنا يومًا أنّ فكرة الزواج بامرأة لا تستطيع المشي والتنقل إلّا بواسطة كرسي العجلات ممكنة، فهي بنظره لا تستطيع القيام بواجباتها كزوجة فما بالك كأمّ! عدا أن تجد زوجًا داعمًا لا يتخلّى عنها فهذا شيء نادر؛ فالاعتقاد السائد يقول إنّ الرجل لا يرتبط بامرأة كهذه وإن ارتبط بها وهي بصحتها، وطرأ عليها خلال فترة الزواج طارئ صحي منعها من المشي فإمّا أن يتركها أو أن يتخذ عليها زوجة أخرى!
كل هذه الأحداث والتوجهات والتفاصيل الصغيرة التي عرضت في القصة لم تكن عبثا ولا عشوائية، بدءًا من اختيار بطلة القصة كأنثى (الأم)، إلى اختيار رواية القصة على لسان طفلها الصغير. فبالاختيار الأول دلالة على أنّ الكاتبة تناصر قضية المرأة الى جانب تضامنها مع شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة، وقد ظهر ذلك جليا في صفحة رقم 19 عندما قال الطفل: "ماما تملك ذراعيْن قويّتيْن بسبب تحليقنا المستمرّ"، مع رسمة توضيحية للأم تحمل طفلها على ذراعها، وفي طيّات هذه الرسمة الكثير؛ فتلك الحركة التي تقوم بها الأم تعبّر عن صوت المرأة وتذكّرنا بواحد من شعارات الحركات النسوية "we can do it"، وكأنّ الأم في الرسمة تبتسم ساخرة بكل من يستخف بقدراتها، وتصرخ قائلة: أنا قويّة أنا أقدر، أنا أستطيع!

وأما باختيار رواية القصة على لسان الطفل الصغير، فكأنها تقول لنا ليتنا نرى الدنيا بأعين الصغار، فنستطيع اكتشاف الجانب الجميل والمشرق في كلّ شيء.. ليتنا حافظنا على فطرتنا البريئة الخالية من الأحكام المسبقة، المتحرّرة من الأفكار المشوّهة والمدشنة في العقول من المحيط الذي نترعرع فيه ونكبر من دون إرادة منّا أو اختيار!
ويلوح في الافق السؤال ما الذي دفع الأم على تحويل كرسيها المتحرك إلى آلة تحليق؟ من أين أتت بكلّ ذلك الانطلاق فوق الطريق الوعر كعربة، وعلى الممرّ الخشبي الممتدّ على الشاطئ كموجه تحمل صغيرها في حضنها؟ ما الذي دفعها لتكون ما كانت عليه من قوة وعزيمة وإصرار؟! برأيي لم يأتِ كل هذا من فراغ؛ إنها التضحية فطرة الأمهات، قلوب الأمهات عظيمة ولم يُقَل عبثا إنّ "الجنة تحت أقدام الأمهات"!
نعم كان قلب بطلة القصة كقلوب عامة الأمهات، فالأمهات بشكل عام مضحيات بالفطرة ومليئات بالعطاء بطبعهن، ولكنها كانت حتى بأمومتها مميزة ومختلفة، فهي لم تختَر عيش دور الضحيّة، وبينما تخلت الكثير من الأمهات مِمّن يعشنَ مع كرسي عجلات أو بدونه عن أداء واجبها اتجاه اطفالها، وانطوينَ على أنفسهن في غرف مظلمة مغلقة بحجة ضعفهن وقلة حيلتهن، وقفت هي وقالت كلمتها: ها أنا ذا بضعفي أقوم بدوري ولا أتخلف عن ممارسة أمومتي، وهذا ما جعل طفلها الصغير يرى بما يراه الآخرون ضعفا، نعمة وميزة تستحق الشكر والتقدير والافتخار.
وتنتهى القصة بجملة ذكية تحمل في طياتها رسآلة عميقة: "ماما تحلق بي بأشكال متعدّدة طوال اليوم، وعندما يحين موعدُ النوم، تكون، فقط، ماما التي تحتضنني، وهذا ما أحبّه أكثر من أيّ شيءٍ آخر". لقد حملت هذه الرسالة معنى صريحًا يوضح كيف أنّ الأطفال لا يطلبون الكثير من أمهاتهم ولا ينتظرون منهن التحليق في الأفق من أجلهم، يكفيهم منهنّ أن يكُنّ أنفسهنّ، وأن يكُنّ الماما التي تحبهم وتحتضنهم في نهاية اليوم هذا ما يحتاجونه أكثر من أي شيء اخر.

ماما تملك ذراعين قويتين بسبب تحليقنا المستمر
كرسي العجلات هو "آلة عجيبة للتحليق"
  • التاريخ: 21/03/2019
  • كلمات مفتاحية: كتب