اخترنا لك
النَّشَّالُ الصَّغِيرُ: من الضّجر إلى التعرّف على العالم
اخترنا لك: كتب
حِكاية النَّشَّالُ الصَّغِيرُ
النَّشَّالُ الصَّغِيرُ قصة قصيرة للكاتب والرسّام أڤنِر كاتس، وترجمها إياد مداح. وقد استخدم المترجم أسلوبَ السجع في رواية القصّة، ما أعطاها نغمًا موسيقيًّا يُمتّع القارئ ويُطربه، ويجذب انتباه المتلقّي لما يُقال، وهذا أحد الأسباب التي قد تثير اهتمام الأطفال الصغار وتجذبهم.
إضافة إلى ذلك استخدم الكاتب الحيوانات لسرد أحداث قصّته وايصال أفكارهِ، فكان أبطال قصتنا من الكناغر: الأب والأم وعلى رأسهم الكنغر الصغير، الذي لا يعجبه العيش في جيب أمه فيقرّر الرحيل، وتجربة أماكن أخرى للعيش بها ظنا منه أنها ستكون الأفضل. فهرب من البيت وبدأ بالتسلل الى حقائب وجيوب الآخرين كالنشال الصغير، وكلما لم يعجبه بيت قفز إلى آخر؛ فتارة نراه في جيب امرأة جميل وذي رائحة زكية، ومن الجلد الفاخر، ومليء بمستحضرات التجميل، وبهذه الأوصاف إشارة إلى العيش في بيوت الأغنياء، وتارة أخرى نراه في جيب أحد المتسكّعين فلا تعجبه رائحته ويهرب منه، ثم نراه في جيب أحد الفقراء يصفه قائلا: للأسف ليس فيه شيء، ثم ينتقل فيجرّب جيب الفنان، ثم جيب التلميذ، ثم جيب فتاة تحبّ الطعام كثيرًا وتملأ حقيبتها بالنقانق، بعدها نراه في جيب الطبيب. كُلّ هذه الجيوب لم تعجبه كبيت بديل عن جيب أمه، فينتهي به الحال في مشهد أخير داخل جيب عازف يعزف لحنا أطرب أذنه كما يقول، وأثارت به الألحان والأغاني الشوق فركض مسرعا إلى البيت بسرعة البرق.
أشار الكاتب في وصفه لأحداث تَنقُّل الكنغر بين الجيوب إلى عدة شخصيات مختلفة، وفي ذلك فرصة للقارئ الصغير بأن يتعرّف إلى أنماط مختلفة من البشر وعلى بعض المهن، فيرى الغنيّ والفقير والمتسكّع والتلميذ المجتهد والفتاة المُحبّة للطعام، والطبيب والفنان والعازف... إلّا أنّ للكاتب هدفًا أعمق من هذا، يريد إيصاله لنا من وراء السطور حسب رأيي، ألا وهو تسليط الضوء على الفكرة التي تراود الكثير من الأولاد، وهي الرغبة في ترك بيوتهم بحثًا عن أماكن أخرى للعيش فيها ظنًّا منهم أنها ستكون أفضل!
تطرح القصّة موضوعًا غاية في الأهمية قد يواجه كلّ طفل أو فتى في مرحلة ما من حياته، وهو الرغبة في ترك البيت الذي نشأ فيه وترعرع. الأسباب التي تدفع الأطفال للتفكير بهذا الأمر مختلفة ومتنوّعة، وفي قصتنا على سبيل المثال، أراد الكنغر الصغير الهرب بسبب الملل والضجر وبسبب تجاهل والديه له. وأقول والديه رغم أنه لم يذكر بالنص سوى أمّه، لأنّ الرسمة صفحة رقم 5 تبرز لنا وجود الأب والأم واقفين مع بعضهما البعض بوضوح، وهنا إشارة من الكاتب إلى أنّ انشغال الوالديْن -وخاصّة الأم- عن أطفالهما وغفلتهما عن وجودهم وإهمالهم لاحتياجاتهم، قد تؤدّي إلى نتائج وخيمة مثل التفكير في ترك البيت واستبداله بآخر!
وهذا يُذكّرني بالفيلم العبقري Inside out (قلبًا وقالبًا) عندما أرادت بطلة الفيلم "رايلي" الهَرَبَ لأنّها لم تستطع التأقلم مع البيت الجديد الذي انتقلت إليه مع والديها والانسجام مع الحياة الجديدة، والمدرسة الجديدة وفرقة التزلّج الجديدة، حيث اشتاقت لبيتها القديم، وبلدتها السابقة، ورفاقها القدامى، ولاحقتها الذكريات، وكان والداها مشغولين بأمور النقل الجديدة، فلم ينتبها لها ولاحتياجاتها وللمشاعر المتناقضة التي كانت تشعر بها، ما حملها على التفكير بالهرب من البيت والعودة إلى بلدتها السابقة.
احتاجت "رايلي" للحزن كي تتخلى عن فكرة العودة الى البيت القديم والهرب من والديها، كما حصل مع بطل قصتنا الكنغر الصغير، حينما أثارت فيه الألحان والأغاني الشجنَ، فاشتاق إلى والديه وإلى بيته الأول، جيب أمه!
ومن أهم حاجات الصغار التي لمّح إليها كاتب القصة، والتي قد يسبب الحرمان منها غضب الصغار وحزنهم وسخطهم على واقعهم، كانت الحاجة إلى الحركة، ويظهر ذلك جليًّا في النصّ والرسمة صفحة رقم 6، إذ يقول الكاتب على لسان الكنغر الصغير: "لماذا، حين تريد أمّي أن تأخذ استراحة، تطلب منا جميعًا أن نتجمّد كالمنظر؟ وماذا عنّي أنا، ألستُ أيضًا كنغر؟" وفي هذا القول تعبير صريح عن أهمّ حاجة لدى الصغار التي يحاول الكبار غالبًا حرمانهم منها، ألا وهي الحركة متمثلة باللعب والقفز وغيرها ممّا يُمتع الصغار ويُبهجهم.
إضافة لما ذُكر سابقا، شعرتُ في نهاية القصة بأنّ الكاتب يُلمح لأمر إضافيّ هام وهو دعم الأب للأم ومشاركته إياها في عملية التربية، ما دفعني لأشعر بهذا هو الرسمة صفحة رقم 28 عندما عاد الكنغر إلى البيت؛ في بداية القصة ظهرت لنا الأم مشغولة ومنهمكة بالعمل تقف مقابل الزوج وهو ينظر إليها، بينما في النهاية، تظهر الام وهي تحتضن طفلها الصغير بحُبّ، وأدوات العمل التي كانت تحملها في بداية القصّة بيد زوجها، وقد يكون بهذا إشارة من الكاتب إلى أنّ مشاركة الأب في عملية رعاية الأطفال والبيت، قد تتيح للأم الفرصة للاهتمام بأطفالها بشكل أفضل. قد يكون الكاتب قصد هذا أو لا، لكن الرسمة الأخيرة توحي بهذا المعنى المهم جدًّا لمن يتعمّق بها.
في نهاية المطاف صوّر لنا الكاتب في هذه القصة ما قد يلاقيه الطفل في الخارج عندما يهرب من البيت بألطف صورة، بينما قد يلاقي الطفل في الخارج ما هو أبشع من ذلك وأفظع! هذا بالتساوي مع تصويره لما قد يلاقيه أيّ طفل صغير في بيته من إهمال وسوء رعاية وتربية، بل ما هو أبشع من ذلك بكثير. لكن الرسالة الأساسية هي أنّ الهروب كالنشال الصغير والتنقّل بحثا عن بديل، لن يكونا الحلّ أبدًا.
- التاريخ: 16/05/2019
- كلمات مفتاحية: كتب