Image Background

اخترنا لك

يونس: بين رومانسيّة الطّرح وعقلانيّته

اخترنا لك: كتب


يونس: بين رومانسيّة الطّرح وعقلانيّته
حنان أبو جارور
عن الكتاب

تدور أحداث قصة "يونس" حول الطفل يونس المصاب بمتلازمة داون، والذي يهوى ممارسة اهتمامه الخاصّ في المطبخ. يحبّ يونس أن يوزّع ما يصنعه من حلوى على الأطفال ويلصق على كلّ صنف من الحلويات رسمًا للعلامة الخاصة به: العصفور الأزرق.
ذات يوم تختفي الحلويات من على أبواب الأطفال فيبحثون عن السبب ليجدوا أنّ يونس مريض وعندها يكتشفون سرّ يونس وسرّ العصفور الأزرق! يجيء الأطفال جميعاً للاطمئنان عليه. فيما بعد، يكبر حلم يونس ويحقّقه فيصبح لديه مخبز خاصّ به سمّاه "العصفور الأزرق"، أكبر وأشهى مخبز للحلويات في تلك الانحاء.

عن الغلاف

ألوان الغلاف ترابيّةٌ جميلة. عنوان الكتاب (يونس)، كجذع شجرة مورقٍ ومزهر. أول ما يجذبك اليه هو نظره الطفل يونس الثاقبة الوادعة والبريئة في آنٍ واحدٍ.
تشعر بأنّ يونس يخاطبك من دون أن يُكلّمك، فهو ينظر إليك، ويبتسم لك ويمدّ يده نحوَك بلطف، حاملًا كعكة مُميّزة بزخرفتها الفنيّة. ابتسامة يونس التي تتراءى بتناغم في امتدادها مع حركة النباتات الخضراء الممشوقة الى أعلى بأزهارها وثمارها.
يتراءى العصفور الأزرق الجالس على رأس يونس كأنه جزء لا يتجزّأ من تفاصيله وملامحه، تمامًا كعينيْه المشدودتيْن من الجوانب، تمامًا كثخن رقبته، تمامًا كمتلازمته. ويُبقيك هذا المشهد متسائلا: ماذا بين العصفور ويونس؟
تعود معاني مجازيّة العصفور الأزرق مرة أخرى تمامًا في الصفحة لأولى (وفي صفحات أخرى لاحقة)، وبينما ظهر على لوحة الغلاف بوضعية سكينة وهدوء، يظهر فيما بعد ديناميكيّا أكثر.

النكهة الفلسفيّة الجمالية

أبهرتني كلمات الكتاب الأولى، وخاصّةً أنّها تُخاطب الأطفال. فوجدتني أكرّرها مرة تلو المرّة. فأتذوّق في قصّة "يونس" رّشاقة أدبية بنكهة فلسفية جمالية حالمة مُنسابة: "السحر موجود في قلوب الحالمين. والحالمون أناس يستيقظون ليحققوا احلامهم حين ينام الجميع".
وفي الرسم، يُبحر يونس في بحر من النجوم على حزّ برتقال برفقة عصفوره الأزرق الى حلمه.
الكثير من الصفحات تنتشي بالتّشبيهات الأنيقة التي لا تنفكّ تعزّز حضور الطبيعة القويّ وسحرها الأخّاذ: "بينما كان الليل يهبط بطيئا في أقاصي الغابات الخضراء، كانت الطبيعة تنام رويدًا رويدًا، كحوتٍ يغطس في موجاتٍ الى قاع المحيطات".
ورغم ما تظهر به الطبيعة هنا من جماليّة وعنفوان، الا أنّها تخضع لدائرة الحياة بين حركةٍ وصخبٍ ونهار، وبين ركودِ وهدوء وليل، إلّا يونس الذي تدبّ فيه الحماسة ليلا، فيستيقظ ليحقق أحلامه حين ينام الجميع. هذا التّضاد وعدم الامتثال لسلطة الحياة ونظامها يضفيان على شخصيّة يونس عمقا على محور الحرّية والتّحرّر. التحرّر ممّا تمليه عليه الأنظمة المجتمعيّة والآراء التنميطيّة والسعي نحو ما يستهويه قلبه وتُبدعه يداه. اسمعوا صوت يونس ينادي فينا: كونوا أنتم!

يونس صاحب متلازمة داون

يختلف النموّ والأداء المعرفيّ بين المصابين بمتلازمة داون من شخص لآخر، لكنّهم يتّسمون إجمالًا بالتأخّر اللغويّ والعقليّ، وبصعوبات التواصل والتأثيرات الشكلية التي تخصّهم. كان يونس هو الواحد "المختلف" من بين كلّ الأطفال في القصّة، ولكنّه كان قادرًا أن يخلق كَمًّا هائلا من التّنوع الكبير والكثير من الحلوى ليهبها إلى الأطفال. أيّ طفل بهذه المحدوديّة، الذي لديه القدرة على خلق هذا التعداد الكبير من صنوف الحلوى، صنوف المشاعر وصنوف المعاني الإنسانية الفريدة!
بالتأكيد تذكرون ذلك الشّخص الذي ترك في قلوبكم شيئا مميّزا لأنه كان يحضر أكلاته ويقدّمها لكم بشكل لا يُنسى وبلمسته الخاصة لأنّه كان يقدّمها لكم بكلّ الحبّ. وهكذا هو يونس، الذي يغلّف الحلويات بطريقة مميّزة ويضع على كلّ غلاف رسمًا يدويًّا لعصفور أزرق. إنّها علامته. اِسمعوا صوت يونس ينادي فينا: اصنعوا وصفاتكم بحبّ! وأعتقد جازمةً أنّ يونس تجاوز مساحة وصفات الطّعام، الى مساحات إنسانية وجوديّةٍ أكبر: "لا شكّ أن الوصفات المليئة بالحب، تترك أثرا في القلب".
تظهر في القصّة علاقات الصداقة والمحبة التي تربط الإنسان مع الآخر، إلى جانب مفاهيم الاحترام والصدق والتفاني وقبول واحترام الآخر، إضافةً الى تعزيز المهارات الحياتيّة والقدرات الشّخصيّة والثقة بالنفس.
يا إلهي! ماذا فعل هذا الكروموزوم الاضافيّ الواحد الأوحد بيونس وبنا!

يونس بين رومانسيّة الطّرح وعقلانيّته

هل تضعنا قصة يونس مرةً أخرى أمام فكرة التعامل مع الأطفال والنّاس ذوي الاحتياجات الخّاصة تحت منهج الشّفقة والتّساهل والانقاص، فنغدو لطيفين وودودين ومحتوين لهم برومانسية تعامليّةٍ خادعة؟
يستحضرني خلال تناول قصّة يونس انتشار حركات تحسين النسل، واعتماد برامج التعقيم الإجباريّ للأشخاص المصابين بمتلازمة داون أو بحالات مشابهة، كنوع من السياسات العامة التّي انتهجتها النّازية الألمانية ضمن برنامج القتل المنهجي، والتي توقّفت بعد الرفض العام من المجتمع والتطوّر العلمي بعد الحرب العالمية الثانية. وانبثقت عنه فيما بعد دعوة قوية للاهتمام بالأطفال المصابين بمتلازمة داون بأساليب متنوعة وعديدة لمسْتها بشكل جلي في قصة يونس مثل:
- التعليم الإضافي: بتعزيز هواية صنع الحلويات واكتساب مهارات حياتية وتمكين قدرات تجريبية ومعرفية عديدة.
- تحسين معرفة ومهارة الوالدين في التعامل مع هذه الحالة: حيث يظهر الوالدان في القصة بنمط والديّ مُحبّ داعم واعٍ ومتقبل، حيث كان هذا سببًا رئيسًا في نجاح يونس.
- سياسة الاندماج المجتمعي: وجود يونس بين عائلته ينمو ويكبر ويتعلم في بيئة سويّة برفقة وبوجود الأطفال وعدم إفراده في مؤسّسات خاصة.
- خطوات عديدة في التعليم والمنازل والأنظمة الاجتماعية لخلق بيئة ملائمة وداعمة لأطفال متلازمة داون: يحقق يونس الحلم ويفتتح أكبر وأشهى مخبز للحلويات. ولكن، لم يكن النجاح مقتصرًا على الصعيد الشخصيّ ولم يتوقف عنده فقط؛ بل توسّع الى تأهيل وتعليم وتدريب أطفال موهوبين آخرين أصحاب متلازمة داون. وهذا هو النجاح الأكبر في تمكين واندماج عدد أكبر وأكبر من أصحاب الاحتياجات الخاصّة على نطاق مُجتمعيّ عمليّ وواعٍ على اعتبار أنّهم يتعرّضون لمواقف من التمييز العنصريّ والإساءة في المحيط الاجتماعيّ الأوسع.
ولهذا، أعتقد أنّ المؤلّفة أمل ناصر نجحت وبشكلٍ كبيرٍ جدا، في طرح أنموذج يونسيّ توعويّ كبير وناجع، جاء لتبديد الصورة النمطية عن المرض، وتحديدًا زيادة الوعي به وخاصّة أنّ جميع الفئات العرقية والاقتصادية معرّضة لمواجهة متلازمة داون.
وبينما حوصرنا في طفولتنا بقصص الفقير البائس والنازح الفاشل والأرملة المرضعة واليتيم المتشرّد، يأتي يونس لينثر التضادّ مرّة أخرى فينتفض بسلاسة جميلة وقويّة على ما كان، ويرفع صوته فنسمعه يُنادي فينا مرّة أخرى: "أنا صاحب متلازمة الحبّ، كُلوا حلويّاتي فإنها مفعمة بالأحلام"!
القصة ملائمة للأجيال 4 وما فوق مع تحفّظي الكبير على العمر لأنني أجدها ملائمة للكبار أيضًا.

نص: أمل ناصر
رسوم: أنيتا بارغجياني
اصدار: دار كلمات للنشر والتّوزيع

  • التاريخ: 26/05/2019
  • كلمات مفتاحية: كتب