اخترنا لك
عالم قمر: تكرار ومُبالغة بالنشاط والوكالة
اخترنا لك: كتب
نص: نجوى زريق، رسومات: فاتن جريس
إصدار: دار أطافيل للنشر
يحكي كتاب عالم قمر عن تجارب الطفلة قمر خلال أيامها الطويلة والمُفعمة بالنشاطات الغنية بالحياة والحرية. في كل صفحة في الكتاب، تجد الطفلة القارئة أو المستمعة، فرصة للتعرّف على نشاطات قمر اليومية التي تتميّز بلانهائيتها واستمرارها "طوَيلًا، طوَيلًا" فهي مثلًا " تَسْأَلُ، وَتَسْأَلُ، وَتَسْأَلُ، حَتّى يَمْتَلِأَ رَأسُها بِعَلاماتِ تَعَجُّبٍ وَاسْتِفْهامٍ!" أو "تَرْسُمُ، وَتَرْسُمُ، وَتَرْسُمُ... فَتَصنَعُ عالَمَاً جَديدًا كُلُّهُ إبْداعٌ وَخَيالٌ" و" وتَبَقْى هكذَا وقَتْاً طوَيلًا، طوَيلًا..".
كافة النشاطات المذكورة في الكتاب تتميّز بالتكرار المتواصل كل على حِدَةٍ. هذا التكرار هو أحد ميّزات الأطفال التي يشعر الأهالي والمربّين بصعوبة تفهّمها أو فهم مغزاها، كون البالغ ينسبه للملل. لكن التكرار عند الأطفال هو حاجة نفسية تؤدي بهم للأمان والطمأنينة. عمليًا، يخوض الطفل تجارب عديدة وطويلة خلال أيام طفولته كونه يتعلم الكثير وينكشف إلى عشرات، بل مئات المُحفّزات الجديدة في كل يوم. لهذا فالتكرار يُعطي الطفل الشعور بالطمأنينة من كونه يعرف ما سيأتي ولا يتفاجئ منه، مما يقدّم له امكانية الشعور بالسيطرة. هذا الشعور يزيد من الأمان عند الأطفال، ولذلك هو هام جدًا في سياق أدب الأطفال الذي يقدّم للطفل حيّز آمن.
لكن عالم قمر لا يكتفي بالتكرار، بل يضيف ميّزة أخرى هامة جدًا للأطفال، وهي المبالغة. هذه المبالغة، تُمكّن قمر من خوض تجارب لا نهائية ومعدومة الحدود الذهنية. موضوع الحدود هو موضوع شائك في سياق الأطفال في الفئات العمرية التي يتوجه إليها الكتاب، 3-6، بل وأكثر من ذلك. لكن الكتاب لا يتطرق إلى أهمية الحدود الأخلاقية وحضورها، بل يضفي الضبابية على حدودية المشاعر وحدودية الأحلام والامكانيات عند الأطفال. هذا الكتاب يدعو الأطفال لكسر السقف الزجاجي الذي قد يبلوره المجتمع وتنظمه الظروف الاجتماعية الأسرية عند الأطفال، وخاصة عند الطفلات. قمر تتجاهل السقف الزجاجي لأحلامها ونشاطها، بل تقوم كذلك بتحطيمه دون تردد وبثقة كبيرة. لكن قمر ليس بطلة خارقة، بل تواجه كذلك الحُزن والغضب والتحدّيات والمشاعر المعقدة التي يواجهها الأطفال في حياتهم – ولكن حتى في هذا السياق فقمر لا تتنازل عن تكرارها ومبالغتها وحرية مشاعرها.
تظهر المُبالغة عند الأطفال في سياقات أخرى، مثلًا في حديثهم التخيّلي أو القصصي. أحيانًا ينسب البالغين هذه المُبالغة إلى الكذب ولكن مصدر هذه المُبالغة عند الأطفال يكون خيالهم وامكانيتهم على تصميم الواقع البديل في أذهانهم وليس محصورًا بالكذب. هذا التصميم المجدد للواقع، يمكنه أن يتحول أداة احتجاجية أو دفاعية في يد الأطفال الذين يواجهون تحديات - مهما كانت نفسية، أسرية، اجتماعية أو حتى سياسية. هكذا تنكشف الطفلة القارئة إلى شخصية طفلة لا تخشى المُبالغة، بل تجنّدها من أجل أن تصبح ناشطة ومُنتجة. علم الاجتماع يتبنّى مصطلح الوكالة لعرض قدرة الفرد على التفكير والنشاط والتصرّف بشكل مستقل وبإرادة حرة – وهكذا هي قمر بامتياز.
أما عن الرسومات، فهي قمة فنّية رائعة تمكّنت من عرض النص بأفضل صورة ممكنة. بتقنيات قص وإلصاق مجردة، تتمكن الرّسامة من وصف المُبالغة بأدوات فنية مُفاجئة ومُبدعة جدًا. مثلًا عندما تبكي قمر "وَتَفيضُ الدُّنْيا بَحْرًا مِنَ الدُّموعِ"، نجد الرسومات تعرض الطفلة في وسط أمواج البحر، ومن خلفها تجد مدينة يافا شامخة وكأنها تنادي قمر لتعود إليها. أو عندما تلف قمر الكرة الأرضية، نجدها ترافق القمر في رحلة جوية-فضائية، وخلفها يمتد شعرها كحبل أفكار أو ذكريات يعرض أبرز أبراج ومعالم العالم. لكن أوضح مثال على هذه المُبالغة، يظهر عندما تتأرجح قمر "حَتّى تَدُقَّ رِجْلَاها أبْوابَ الغُيومِ"، فهنا تتحدّى الرسامة حدود الكتاب وتعرض حركة قمر من خلال دفعها إلى خارج صفحات الكتاب. في الرسمة يمكننا رؤية رجلي قمر ترتفعان لتلامسا الغيوم، ولكن باقي جسدها يبقى خارج الكتاب. إضافة إلى هذه الأمور، تضيف لنا الرّسامة امكانية التناص مع الفن المُعاصر من خلال اقتباس لوحة الفنان سلفادور دالي، "إصرار الذاكرة"، بالذات في صفحة تشكك في خطيّة الوقت.
كتاب عالم قمر يناسب الكتاب شتى أجيال الطُفولة حيث تتلاءم قراءته مع المرحلة العمرية التي تعايشها الطفلة القارئة أو المستمعة، فقد تركّز فيها على التكرار في أجيال 2-4، وقد تجد فيه سحر الخيال والمُبالغة في أجيال 4-8. وفي أجيال أكبر، تجده القارءات هدية مميّزة مُفعمة بالحب والحرية والنشاط والوكالة.
- التاريخ: 24/01/2023
- كلمات مفتاحية: كتب