اخترنا لك
الشّجرة المعطاءة: حول مفهوم الوالديّة والتضحية
اخترنا لك: كتب
هذا الكتاب هو كتابٌ مصوّر للأطفال صدر عام 1964 للكاتب شيل سيلفتر شتاين، وترجم إلى العديد من اللّغات، ولاقى نجاحًا منقطع النّظير في كافّة أنحاء العالم. وتصدّر أيضًا قائمة الكتب الأكثر مبيعًا والأكثر تأثيرًا في أدب الأطفال، وقد بيع منه في عام 2011 أكثر من 11 مليون نسخة، إلى جانب أنّه أثار جدلًا واسعًا في موقع Goodreads حول قصّته وحبكته والمعاني الّتي يقدّمها للطّفل، وكتبت حوله مقالات لاذعة وأخرى مؤيّدة. فلماذا إذًا يثيرُ كتابٌ مصوّر لا تتعدّى قصّته 650 كلمة كلَّ هذا الجدل وكلّ هذه الأهمية؟
ينقسم الأشخاص الذّين قرأوا الكتاب إلى قسميْن: القسم الأوّل يشدّد على أهميّة المبادئ الّتي تمنحنا إياها القصّة، فهي تدور حول شجرةٍ أحبّت ولدًا، وكان الولد يأتي إليها كلّ يوم ليجلس في ظلّها ويتحدّث إليها. وعندما كبر قليلًا طلب منها أخذ ثمارها إلى السّوق من أجل بيعها، ثمّ عاد لاحقًا وقصّ أغصانها، لينتهي به المطاف بقصّ جذعها من أجل بناء سفينة ليجوب بها العالم، ولم يبقَ من الشّجرة المعطاءة شيءٌ سوى الجذع المقصوص في الأرض، فيعود الولد في نهاية القصّة إليها ليخبرها بأنّه رغم ابتعاده واغترابه واستنزافه لها، إلّا أنّه ما زال بحاجة لوجودها، فيستلقي على جذعها المقصوص من دون أن يكترث للأيام الّتي تركها فيها حزينة ووحيدة. وما يثير الانتباه أنّ الشّجرة رغم وحدتها وتضحيتها بكلّ ما تملك إلّا أنّها ظلّت وفية ومخلصة للولد حتى النّهاية، وشعرت دومًا بالسّعادة لأنها تمنحه كلّ هذه الهبات.
يقول القسم الأوّل من القرّاء إنّ الطّفل يستطيع تعلّم قيم كالتّضحيّة والعطاء للآخر من دون انتظار مقابل، وهذا نادرٌ جدًا في زمان اليوم، وهذا بالّذات ما ينتقده القسم الآخر من القرّاء، بحيث ذكرت إحدى الناقدات في صحيفة "هآرتس" أنّ الكتاب استنزف شيئًا ما فيها أثناء القراءة، وأنه لا يقوم بتعليم الأولاد سوى الأخذ اللانهائي من دون العطاء، وهذا مرفوضٌ كليًا في تربية الطّفل.
بإمكاننا كقرّاء بالغين إسقاط عدّة تأويلات على سبب اختيار شجرة. فالشّجرة متجذّرة في مكانها ونادرًا ما يتم نقلها من مكانٍ لآخر، ولديها صفاتٌ تشبه صفات الأمهات المتجذّرات في نفوس أبنائهنّ، فلا يمكن التنكّر لهنّ والاستغناء عن وجودهنّ، عدا عن الصعوبة التي تواجهها الأمّ في العيش بعيدًا عن أولادها، وتفضّل مصلحتهم ولو على حساب مصلحتها. والشّجرة في النّهاية هي أنثى، والأنثى طبعها الغالب هو العطاء والتّضّحية لأجل الأشخاص الّذين تحبّهم، عدا عن كون هذا الجانب يبدو رومانسيًا ومقنعًا، إلّا أنّ هناك فكرة أخرى تشير إلى عدم إلزام الأنثى بالتّضحيّة في علاقاتها مع الذّكور في حياتها، سواء أكانوا أبناءها أم زوجها أم حتى والدها. فلماذا يختار الكاتب الشّجرة الأنثى لإسقاط هذا الحمل المجتمعيّ عليها، فتقوم بالتضّحيّة حتى التَّفَتُت؟
يظهر استعلاء الولد الّذي عاد عجوزًا في نهاية القصّة إليها، حيث يبدو واثقًا أنه مهما سبّب لها من أذى فإنّ هذا لن يمنعها من تقديم هذا الحضن الآمن، ودعمه طيلة الوقت، ومنحه كلّ الأشياء حتى لو لم تمتلكها.
يظهر الكاتب الطّفل على أنه المحور الرئيس في الكتاب، ومن الطّبيعيّ أن يكون كذلك لأنه مخصّصٌ للأطفال، ولكن من غير الطّبيعيّ أن يظهر الكاتب للأطفال بأنّ طلباتهم بإمكانها أن تتحقق دائمًا، وبدون مقابلٍ أيضًا. فمنذ البداية يعتاد الولد على أخذ ما يريد من الشّجرة، ولا ترفض الشّجرة في أيّ يومٍ طلبًا له، ولا يكتفي الولد من الطّلب، بل يظلّ يطلب حتى يستنزف كلّ طاقتها على العطاء.
بينما على العلاقة مع الأطفال أن تكون علاقة أخذٍ وعطاء، فمن غير المعقول أن يأخذ الطّفل من والديْه كلّ الأشياء من دون أن يقوم بعملٍ ما في المقابل. ولا يقتصر الأمر على العلاقة مع الأهل؛ فالعلاقات في الحياة تحتاج هذه التّبادليّة، والأصدقاء، والأخوة، والمؤسّسات، والدّولة.. حتى أصغر الأشياء تقوم على الأخذ والعطاء، وأيّ علاقة فيها أخذ فقط، هي علاقة تستنفذ الشّخص المعطاء في مرحلةٍ ما، كما حدث للشّجرة في نهاية القصّة.
في إحدى المقابلات مع الكاتب يقول: "الكتاب يحكي قصّة علاقة بين شخصيْن، أحدهما يعطي كلّ ما لديه، والآخر يأخذ فقط". وفي حياتنا الاجتماعيّة وعلاقاتنا المُركّبة الكثيرة، ثمّة الكثير من الأشخاص الّذين يجيدون الأخذ فحسب.
ويمكننا بكلّ بساطة تأويل القصّة على أنها تحاكي علاقة الإنسان مع الطّبيعة؛ فمنذ سنواتٍ طويلة يحاول الناشطون في مجال الحفاظ على البيئة زرع قيمٍ جديدةٍ للبشر من أجل أهميّة الحفاظ عليها، وعدم اقتلاع الأشجار، وعدم رمي البلاستيك وحرقه ودفنه في التراب، ومحاولة التّصالح مع أهمية كون الطبيعة نظيفة من أجل الحفاظ على مستقبلٍ أفضل للإنسان. فربما يحاول الكاتب من خلال دور الولد الأنانيّ، غير المعطاء، المعتاد على الأخذ من دون المنح، أن يخبرنا كم أنّ الطبيعة متسامحة معنا، لكنها لن تستمرّ بذلك للأبد. فرغم نهاية القصّة بقول الشّجرة إنها سعيدة، إلّا أن حزنًا عميقًا يخرج من بين دفتيّ الكتاب ويؤثر عليك على المدى البعيد.
عند قراءة هذا الكتاب مع الأطفال قبل النّوم، من الضّروريّ إجراء نقاش معهم حول قيم المحبّة، وكيفيّة تقديم المحبّة للآخرين، وبشكلٍ أساسيّ- كيفيّة احترام الذّات ومحبّتها من دون التّضّحيّة بالنّفس من أجل أيٍّ يكُن؛ فالمحبّة للمفارقة هي أن تحبّ نفسك أوّلًا، ثمّ أن تمنح للمقرّبين منك كلّ شيء. من المهم مناقشة أنانية الطّفل في القصّة، ورغبته في الحصول على كلّ الأشياء من دون تقديم شيء، وربط هذه الصّفات مع الحياة الواقعيّة للأولاد، واستحضار أمثلة، والتّشديد على أهميّة الأخذ والمنح في الحياة اليوميّة، على المدى الطّويل.
- التاريخ: 20/11/2020
- كلمات مفتاحية: كتب