اخترنا لك
الأسد الملك: دروس في السياسة وقيادة الثورات
اخترنا لك: أفلام
الأسد الملك هو فيلم ديزني الملحمي الـ32، ويعتبر الفيلم الخامس في فترة النهضة لاستديوهات وولت ديزني، حيث صدر عام 1994. الأسد الملك من إخراج روجر أليرز وروب مينكوف. حاز الفيلم على العديد من الجوائز ويُعتبر أحد أهم وأعظم أفلام سينما الأطفال في التاريخ.
يمكننا اجراء العديد من التحليلات والقراءات النقدية للفيلم في شتى المجالات والمواضيع، من القراءات الجندرية والنفسية والتربوية، وحتى القراءات العلمية لعالم الحيوان ومعنى دورة الحياة. في هذه المادة سأحاول التطرّق للدروس السياسية فقط، التي قد نقرأها في الفيلم، ولهذا فلن أتطرق لموضوع العرق أو الجندر أو الدراسات الاجتماعية والاقتصادية- وربما في مادة أخرى سأتعامل مع البعض منها.
الأسد الملك يحكي قصة أمير الأسود الشاب سيمبا منذ ولادته في مملكة الأسود في أرض العزّة، وحتى وصوله إلى كرسي الحكم. في المشهد الأول للفيلم، بعد الاحتفال بولادة المولود الجديد سيمبا، نتعرف على الملك مُفاسا وعلى أخيه سكار (ندبة). في هذا المشهد يكشف ميزان القوى في أرض العزّة حلم سكار في الوصول إلى الحكم بنفسه. مباشرة بعد هذا المشهد تُشرق شمس الغد على أرض العزّة ويخرج سيمبا مع والده مُفاسا لأول درس في مدرسة العائلة المالكة لشرح نظرية الحَراك السياسي في البلاد.
اقتباس من درس مُفاسا في اللهجة المصرية:
- شوف يا سيمبا، كل حاجه تحت الشمس تبقي تبع مملكتنا.. والملوك زي الشموس يوم شروق ويوم غروب. وهيجي يوم يا سيمبا شمسي فيه راح تغيب وشمسك انت تطلع تنوّر دولة الملك الجديد...
- مش الملك يقدر يعمل اللي هوّا عايزه؟
- الحكم انك تؤدي واجباتك. مش بس تطيع رغباتك.
- ازاي بقى؟
- سيمبا.. كل حاجة في الوجود منسجمة مع بعضها في توازن دقيق. والحاكم، ضروري يفهم التوازن ده ويحترم كل المخلوقات. من أول نملة، لحاد البقرة.
- مش احنا بناكل البقرة؟
- ايوا مناكلها. تعرف لي؟ لما منموت، جسمنا بيتحول لأعشاب. والبقرة بتاكل الأعشاب دي. وبالشكل ده كلنا متّصلين في دائرة الحياة الكبيرة.
في هذا الاقتباس من درس مُفاسا يمكننا فهم نظرية الحكم التي يؤمن بها، وقراءة أولية وبسيطة لهذا النص تذكرنا بسهولة بنظريات أبرز منظري الدراسات السياسية في الحكم الملكي – نيكولو ماكيافلي وتوماس هوبز. ماكيافيلي يعرض لنا فلسفته السياسية في كتاب "الأمير" عام 1513، ويقترح على الحاكم أن يحكم بقسوة وشدة ويشجّعه على أن ما هو مفيد فهو ضروري، وهي عبارة عن صورة مبكّرة للنفعية والواقعية السياسية. بالاضافة إلى فكرة تبرير جميع الوسائل بالغاية العظمة، وهي غاية الحفاظ على السلطة. أما هوبز في كتابه "اللفياتان" من عام 1651، فقد طور وأثنى على نظام الملكية المطلقة في حكم الملك، الذي يجب أن يكون مطلقًا ويتمثل بسلطة مطلقة على كافة جوانب حياة رعاياه.
يمكننا أن نجد درس مُفاسا في كلا النظريتين، ومنها كذلك بأن فكرة تبرير "أكل البقر"، أو تبرير التنكيل برعايا المملكة في أرض العزّة، هي مجرد نشر لايديولوجيا ووعي كاذب مغطى بثوب علمي من عالم الطبيعة والحيوان هو "دائرة الحياة الكبيرة".
سكار يتمكن، بمساعدة الضباع، من التحايل على مُفاسا ويقتله، ويخدع سيمبا باقناعه بأنه المسؤول عن قتل الملك- والده. سيمبا يهرب خائفاً من ردود فعل عائلته على قتل أبيه ويخرج من أرض العزة إلى الصحراء. هكذا، بعد التخلص من الملك ومن وليّ العهد، يفتح سكار الطريق أمامه لاستلام الحكم وبداية تحقيق الإصلاحات التي وعد الضباع بها عندما أقنعهم الانضمام إليه للثورة.
في خطاب تتويج الملك الجديد، يعرض الملك سكار فلسفته السياسية الخاصة على العائلة المالكة قائلاً: "موت مُفاسا، مأساة بشعة. لكن فقد سيمبا اللي في بداية حياته، بالنسبة لي شخصياً خسارة فادحة. ورغم كل الهموم، حقبل مكان مُفاسا. وبالرغم من كل الأحزان لازم نبدأ فجر عقد جديد تتعايش فيه الأسود والضباع. نتقدم معاً نحو الانتصارات، والمستقبل الزاهر". وبهذه الكلمات، ولأول مرة في تاريخ أرض العزّة، هناك من يقترح مساواة بين جميع المواطنين. هناك من يتقبّل الضباع، الكائنات التي كانت حتى هذا الخطاب، كائنات منفية من أرض العزّة وتسكن الأراضي "المظلمة". أو كما عرّفها زازو، ذو المنقار الأحمر (red-billed hornbill) ومستشار الملك مُفاسا: "حرمية وأغبية وعندهم جرب وأنمية". عندما يصف مستشار الملك طبقة اجتماعية كاملة بهذه الكلمات، فهو ليس عنصريًّا وفاشيًّا بشكل شخصيّ فحسب، إنما يمثّل سياسة كاملة في ظهره تتلاءم مع درس مُفاسا لابنه.
أحداث إسقاط الملك وإعدامه والتخلص من ولي العهد تذكّرنا جداً بالثورة الفرنسيّة التي فيها ثار الشعب على الملك، لوي السادس عشر، بداية بتحرير أسرى سجن الباستيل الذين زرعوا الفوضى في البلاد وزعزعوا الحكم بأكمله، كما حصل في الفيلم عندما هددت الضباع قطيع البقر الذي ثار وهدّد استقرار البلاد. محاولات الملك لإدارة ثوران البقر أبت كلها بالفشل حتى أسقطه قائد الثورة، سكار، وحكم عليه بالاعدام، تماماً كما فعل روبسبيير في الملك لوي السادس عشر. طرد سمبا إلى الصحراء والتوقع أن يموت جوعًا هو تماماً ما فعله روبسبيير في ولي العهد الفرنسي عندما سجنه حتى مات جوعاً ومرضاً. إلا أنّ سيمبا لم يمت – وعاد بعد عشرات السنين لاستلام الحكم مجدداً بـ "انقلاب عسكري" على الملك الحاكم – ربما بتمثيل معين لنابليون بونابارت الذي استلم الحكم بانقلاب عسكري وحول فرنسا إلى امبراطورية أو بتمثيل لوي الثامن عشر، الذي عاد ليحكم فرنسا بعد التخلص من نابليون.
قراءة أخرى مختلفة تماما للأحداث تعرض لنا توجّه سكار كتوجّه ماركسي شيوعي يحاول محو التخلص من الحكم الطبقي في المجتمع وفرض الشيوعية بكافة أشكالها "من فوق". أي من داخل الحكم، كما حاول أن يفعل القائد الشيوعي لينين. دعت هذه الأيديولوجية إلى المساواة الاقتصادية، والقضاء على الطبقات، والقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بشكل مشابه لإصلاحات سكار في أرض العزة. فجلّ ما استعمله سكار كان تطبيق ديكتاتورية البروليتاريا المتمثلة بالضباع على اللبؤات البرجوازية. بالاضافة إلى هذا كان تمثيل سكار في أغنيته استعدوا، ووقفته أمام جماهير الضباع الضائعة بسحره وكاريزماته، تحاكي حكم النظام النازي وقائده أدولف هتلر في وقفته أمام الجماهير رافعاً يده بالتحية النازية المعروفة.
كلا المحاولات باءت بالفشل وتمثلت بمشهد المجاعة المعروف فيه تأتي الضباع لسكار وتشكي له ضنك حياتها وبداية ثورة اللبؤات:
شانزي: سكار، مفش لا أكل ولا مية..
بانزاي: أيوا، جي وقت الغدا ولازم ألاقيلي حاجة أفطر بيها
سكار: وأنا مالي؟ الصيد شغلة حريم الأسود..
بانزاي: رافضين يطلعو للصيد
لم تكن سنوات سيمبا في المنفى سنواتٍ من المجاعة والسجن كما توقعت الضباع، بل كانت سنوات طويلة من الترف والسَطَل والسَكر. في هذه السنوات، تعرّف سيمبا بتيمون وبومبا اللذيْن يتبنيان شبل الأسود هذا بسعادة وسرور طامعين بقوته وشراسته المستقبلية لكونه أسدًا. تيمون وبومبا هما ذكران يسكنان معاً بسبب نبذ مجتمعاتهما لهما، ويمثلان زوجًا مثليًّا يسكن بالمنفى منفصلاً عن المجتمعات التي نبذته. ففي حديثه مع سيمبا حول نفيه إلى الصحراء يقول تيمون:
تيمون: "باين عليك منبوذ زيّنا"
بومبا: "انت عامل عملة؟"
سيمبا: "حاجة فظيعة، مبحبش أجيب السيرة دي".
وبما أننا نعلم جيداً ما هي هذه "الحاجة الفظيعة" التي يظن سيمبا أنه فعلها (فهو قاتل أبيه)، لابد من أن نتساءل عن الحاجة الفظيعة التي فعلها تيمون وبومبا. عملياً تيمون وبومبا ليسا أول زوج مثلي في سينما الأطفال، بل هما الزوج الثاني، إذ كان الأول باغيرا وبالو في كتاب الأدغال عام 1967.
في هذه السنوات التي يعيشها سيمبا برفقة تيمون وبومبا، يعلمانه فلسفة حياتهما الغريبة بعض الشيء، فلسفة "الهاكونا ماتاتا". هاكونا ماتاتا هي مصطلح باللغة السواحلية معناه "لا تقلق". اشتهر هذا المصطلح عام 1982، عندما أصدرت فرقة ذا ماشرومز الموسيقية من كينيا أغنية بالسواحلية بعنوان "جامبو بوانا" ("مرحبا سيدي")، فيها تتكرر عبارة "هاكونا ماتاتا" كلازمة. وأعادت اصدارها وغناءها المغنية الألمانية بوني إم بعد عدة سنوات.
تبعاً لتيمون وبومبا، فلسفة "الهاكونا ماتاتا": حكمة نغمها لذيذ // هاكونا ماتاتا // إرمي الماضي اللي يغيظ! // إنساه والمستقبل اديه كل التركيز // هذا هو البهريز، الفلسفي // هاكونا ماتاتا!
بعد تعليم سيمبا فلسفتهما النظرية، يأخذانه لتلقينه تعاليمهما العملية في بيتهما ويبدآن في الطعام. يسأل سيمبا عن الطعام الذي ربي على تناوله في البيت مثل الفيل والسيد قشطة والبقر، ولكن تيمون سرعان ما يقوله له إنّ هذه الأصناف ليست للأكل هنا، بل "ان كنت ناوي تعيش هنا، لازم توكل من أكلنا" وهو الدود والحشرات. هذا الطعام والطريقة التي يلتهمانه فيها يذكراننا بتناول أليس للفطر الذي يجعلها تنسى جميع همومها ويغيّر شكلها وحجمها. كذلك سيمبا الذي ينسى كلياً جميع همومه في اللحظة التي يتناول فيها الحشرات مع تيمون وبومبا. وهكذا تمضي عليه سنوات طويلة وهو في غفلة وسطل شديد، يتمثّل ببلوغه على جذع الشجرة عندما ينسى كلياً نفسه وتاريخه ويقفز وراء تيمون وبومبا في الماء.
هذه السنوات قد تمثّل فترة الستينات التي فيها انفصل الشباب عن المجتمع في حراكات الهيبيز وحلموا فقط بـ"مكان الحرية، لا قانون ولا مسؤولية"، كما يقول تيمون. لكن بالنسبة لسيمبا هي سنوات فيها رمى الماضي وراء ظهره وعاش الحاضر كل يومٍ من جديد.
سيمبا يعرض هذه الفلسفة التي يؤمن بها أمام نالا، رفيقته، عندما تأتي للبحث عنه: "هاكونا ماتاتا، دي حكمة تعلمتها هنا.. لما تقابلني مواقف وحشة، ومقدرش أتصرف فيها. أشيل همها لي؟".
فلسفة الهاكونا ماتاتا تتفكك تماماً عندما يأتي القرد رفيقي ويواجه سيمبا بفلسفة جديدة واقعية أكثر من ناحيته. فلسفة تبدأ بأسئلة سقراطية حول تعريف الهوية الشخصية لكل من الشخصيات. رفيقي يسأل سيمبا عن نفسه وعن هويته، ويطيح بوجهه كونه نسي نفسه وماضيه، ويعرفه بثلاث كلمات تزعزع كيانه: "انت ابن مُفاسا!".
عندها يشجّعه على استدعاء روح والده من داخله ليحاوره حول معنى الذاكرة والنسيان. روح مُفاسا تعرض فلسفة الهوية بقوله: "أنت نسيتني. أنت نسيت انت مين، وبالشكل ده انت نسيتني. بُصّ جواك يا سيمبا. انت أكبر كثير ممّا تتصور. لازم تسترد مكانتك في دائرة الحياة. تذكر انت مين. انت ابني. انت الملك الحقيقي."
وهكذا بعاطفية الذكرى ورومنسية القومية، يسترد سيمبا "صوابه" ليعود إلى أرض العزّة لمواجه الماضي؛ فالماضي يؤلم أحياناً، والامكانيات أمامنا هي إمّا الهرب منه أو التعلّم منه (تبعاً لفلسفة رفيقي). ما يستردّه سيمبا بحقّ هو الايمان بحقه القانوني لتولي الحكم. أي أنّه يستيقظ من حلم الهيبيز وسَطَ قلة المسؤولية التي تميّز حياة الشباب والمراهقين، ليتقبّل قوانين حياة البالغين بعدما رفضها تماماً لكي لا يواجه مسؤولية قتل والده.
عند وصول سيمبا لأرض العزّة، يقف سيمبا ويتأمّل بلاده بعاطفية ورومنسية هو وأصدقاؤه، وعندها يسأله تيمون: ده بقا اللي حتحارب عمّك على شانه؟ خرابة يلزمها تعمير؟ فيجابه سيمبا بفخر وعزّة يلخص ولادة هويته الجديدة ويحوّله إلى قائد النضال الجديد: أيوا يا تيمون، دي بلدي!
دي بلدي. كلمات يقولها سيمبا قبل مشهد واحد من جملة والدته سارابي التي تدعو سكار بترك أرض العزّة:
"سكار مفش أكل، القطعان هربت... خلاص انتهى. مفضلش أيّ حاجة، مقدمناش إلّا حل واحد. لازم نسيب أرض العزّة".
توجهان مختلفان تماماً للأرض والوطن. الأول يرى الوطن بمفهومه الرومانسي والعاطفي جاء بعد سنوات طويلة من الترف، والثاني بمفهومه الواقعي والبقائي جاء بعد سنوات طويلة من المعاناة. ترك الوطن وأرض العزّة أو النضال من أجلها، هي سؤال يواجهه كل شعب قامع تحت احتلال، وكما في الفيلم، فقط من يتمكّن من توظيف قيادة قوية للثورة والنضال يتمكّن حقاً من التغيير. ولكن التغيير يجب أن يجلب معه كذلك تغييرًا في النظام، وليس عليه أن ينادي بأطلال النظام السابق كما يفعل سيمبا في الفيلم الثاني، ولكن لهذا الموضوع تطّرق مفصّل في آونة أخرى.
محاولات تحليل الفيلم هذه وقراءته بصور مختلفة قد تُكسبنا أدوات لفهم تاريخ البشرية وتدريسه للطلاب، بالاضافة إلى محاولة توظيف التجارب الذهنية والقراءة النقدية في عالم التربية والتدريس.
في الكثير من الأحيان بعد محاولات قراءة نقدية كهذه لنصوص من ثقافة الأطفال، يتساءل القراء والمستمعون عمّا إذا كان الأطفال يفهمون هذه الأمور والرمزيات والاستعارات في ثقافتهم، فأجيب مجدداً كما أجيب كل مرة: لا يمكننا أن نعرف. لربما يفهمون هذا وأكثر، ولكن ليس لديهم الكنز اللغوي الكافي للتعبير عنها. ولربما يكتسبون هذه المعارف كتجارب شخصية يتعلّمون منها ويستعدون لتجارب واقعية في حياتهم. في كلا الحالتين، لا يمكنني أن نعرف حقاً ما يجري في رأس الطفل - فنكتفي بالتوقعات والتخيّل أنه مثلنا - أحياناً نفهم الأمور بعمق، وأحياناً نتابعها ونتعامل معها على أنها مجرد ترفيه.
لمشاهدة الفيلم: اضغط هنا
- التاريخ: 19/01/2018
- كلمات مفتاحية: أفلام