اخترنا لك
دنيا وأميرة حلب: الحرب واللجوء والتشافي بالحكايات
اخترنا لك: أفلام
"دنيا وأميرة حلب" هو فيلم رسوم متحرّكة من إخراج الفنانة ماريا ظريف، وتعود بدايته إلى حلقات مسلسل تلفزيونيّ كرتونيّ للأطفال عُرض على شاشة "تلفزيون كيبيك" عام 2020، ثم صدر في كتاب أطفال يحمل عنوان "دنيا والبذور السحريّة" (2021). أمّا الفيلم فقد صدر عام 2022 بإنتاج كندي-فرنسي مشترك، وقامت ظريف بكتابته وإخراجه بمشاركة رسام الكاريكاتير الكندي الفرنسي أندريه قاضي في الإخراج. الفيلم ناطق بالفرنسيّة، ويمزج فيها العربيّة بلهجة سوريّة-حلبيّة في بعض المشاهد المُغنّاة.
"دنيا وأميرة حلب" هو فيلم مؤثر يمزج ببراعة العناصر الخياليّة مع قضايا العالم الحقيقيّ، ما يخلق قصّة ساحرة تنال إعجاب كلّ من الجمهور العائلي وعشاق الرسوم المتحركة البالغين على حدّ سواء. تدور القصة حول دنيا البالغة من العمر ستّ سنوات، والتي تنطلق في رحلة محفوفة بالمخاطر مع جدّها وجدّتها، مدفوعة بالقصص السحريّة والخياليّة التي توفر العزاء في مواجهة المأساة التي اضطرتها الخروج من بيتها ووطنها.
يتناول الفيلم ببراعة موضوعات حسّاسة مثل الهجرة ومحنة اللاجئين ببساطة تجعل هذه المفاهيم في متناول المشاهدين الصّغار. إنّ شخصية دنيا هي شهادة على المرونة والتفاؤل، وتوفر نقطة دخول يمكن ربطها بالجماهير التي ليست على دراية بأخبار الشرق الأوسط، وأخبار سوريا بشكل خاصّ.
ما يميّز "دنيا وأميرة حلب" استخدامه السّاحر للعناصر الثقافيّة، وخاصة مركزيّة الطعام والموسيقى في حياة الشخصيات، إلى جانب العناصر الاجتماعيّة في تمثيل العلاقات بين الطوائف الدينيّة المُختلفة في حلب، ويعرضها بصورة تناغم طبيعيّ وفطريّ. يجسد الفيلم نكهات حلب بشكل جميل من خلال وصفات الجدّة والعطّار، الذي يحفظ أسرار خلطاته من والده آملًا بنقلها إلى ابنه، ما يضيف لمسة من التوارث العاطفيّ للثقافة المُجتمعيّة. كذلك إدراج بذور البركة السّحريّة وارتباطها برحلة دنيا يوفر عنصرًا خياليًا مُبهجًا، ما يوفر توازنًا بين الحقائق القاسية للعالم والروح المتفائلة لدى البطلة.
ينسج الفيلم بمهارة نسيجًا من القصص الشعبية من الثقافة العربية، وبشكل خاصّ الثقافة السّوريّة بطريقة استثنائيّة. وما يميّز الفيلم هو قدرته الرائعة على دمج الحكايات الشعبيّة التي تمتدّ عبر العصور التاريخيّة المختلفة، ومزجها بسلاسة في قصّة سينمائية مُتماسكة. وكما هو موضّح في الفيلم، تنبض الحياة بقصص شعبيّة متنوعة، بما في ذلك قصة الصّراع بين الحجارة والحرب بين شعبين، وحكاية سرّ "حبة البركة" السّاحرة، وملحمة عشتار، وأبرزها طبعًا قصة ليلى أميرة حلب. تتكشف كلّ هذه الروايات ضمن السياق الشامل للقصة الإطار في الفيلم وهي الحرب في سوريا، والدمار الذي لحق بحلب وإسقاطاته وتأثيره العميق على سكان المدينة.
في إطار نظريّات عديدة في علم النفس، تمثّل الحكايات الشعبيّة قنوات مِفصليّة في معالجة الصّدمات النفسانيّة، خاصّة بين أوساط الأطفال الذين يمرّون بتجارب حرب وتهجير وعنف متطرّف. تُشكّل هذه الحكايات، المتجذرة في اللاوعي الجَمعيّ، ما يشبه المرايا الرمزية التي تعكس المشاعر والتجارب مُتعدّدة الأوجه المُتأصّلة في نفسيّة الناجين من الحروبات. من خلال نقل هذه الحكايات بين الأجيال، يجد الأطفال ملاذًا علاجيًا إذ أنَّ العوالم الخياليّة للفولكلور توفّر العزاء والمواساة كوسيلة لتنظيم وفهم الفوضى الناجمة لما يدور حولهم.
توفر الشخصيات النموذجية في الحكايات الشعبية مفردات رمزية للتعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه، ما يسمح للأطفال بالتعامل مع تعقيدات الصّدمة بطريقة تتجاوز حدود التعبير اللفظيّ. فمثلًا، لا يمكن تفسير وقوف الطفلة دنيا في وجه حرس الحدود من ناحية عقلانيّة؛ فهي طفلة وهم مجموعة بالغين مسلّحين، كذلك لا يمكن للعقلانية والمنطق تفسير الاحتفال والرقص والموسيقى المبتهجة التي دارت في المخيم، بينما كل من كان فيه كان نازحًا وفاقدًا لكلّ ما يملك سوى نفسه. هذه الظروف غير القابلة للتفسير المنطقي، تتعدّى حدود العقل، فيتمكن الطفل من تفسيرها عبر توظيف العوالم الخياليّة التي يعرفها من الأدب الشعبيّ- بالضبط كما فعلت دنيا في الفيلم، ووظّفت حبّة البركة في كلا الحدثين.
هكذا تصبح الحكايات الشعبيّة، بقدرتها الفطريّة على التكيّف، أدوات وآليات ديناميكيّة للتوظيف الثقافيّ والنفسانيّ، لمواجهة مُخلّفات الحرب. إنّ الصدى العميق للحكايات الشعبيّة في المجال النفسانيّ لا يكمن في جاذبيتها السّرديّة فقط، بل في قدرتها التحويليّة لتسهيل التشافي والترميم وتنمية العلاقات والقوى الجماعيّة بين أوساط أصغر ضحايا الصراع.
ممّا لا شكّ فيه أنَّ الفيلم يعتمد كذلك التناصّ مع ماضٍ عريق من سينما الأطفال، إذ يضيف هذا التناصّ -وهو جانب مهم في "دنيا وأميرة حلب"- طبقة أخرى من العمق إلى رواية الفيلم. المحادثة بين دنيا ووالدتها ليلى (أميرة حلب)، قد تذكّرنا بحوار سيمبا مع والده موفاسا في فيلم "الأسد الملك"، إذ إنّ هذه المحادثة بين الطفل وبين والده المتوفّى، قد تكون واقعيّة أو متخيّلة، ولكنها آلية الطفل النفسانيّة للتعامل مع كل ما هو صعب وتراجيديّ في حياته، بل يعطيه كذلك أملًا. هذا طبعًا إلى جناب سياق الأميرات عامةً في تحوّل الأم المتوفاة إلى أميرة في قصص الأب وفي مخيّلة الطفلة. أو التناص في توظيف بذور البركة، المشابه للتدخل الخيري الساحر الذي ألفناه عند جنيّة سندريلا التي كانت تنقذها في ساعات المأزق. هذا التناصّ لا يثري تجربة المشاهدة فحسب، بل يؤكد أيضًا على عالمية الفيلم، لأنّه يقدم قصة أطفال سورية أصلية منسوجة بشكل معقد في النسيج الأوسع لثقافة الأطفال العالميّة. من خلال الاعتماد على هذه المراجع السينمائيّة، سواءً أكان مقصودًا أم لا، تربط المخرجة بمهارة بين الخصوصيّة الثقافيّة للسَّرد السوريّ والتجارب المشتركة الأوسع للأطفال في جميع أنحاء العالم، ما يعزّز الشعور بالألفة والصدى بين جماهير متنوّعة. وهذا التفاعل بين الخصوصيّة الثقافيّة والمفاهيم العالميّة يُعزّز قدرة الفيلم على إيصال رسائله بفعالية.
إلى جانب التناصّ، يساهم أسلوب الرّسوم المتحركة في سحر الفيلم، إذ يصوّر المواقف القاتمة بابتسامات دافئة، تكاد تحتضن المشاهد، وتمسح دموعه وتواسيه، ما يعكس نظرة دنيا المتفائلة كمجازية للمستقبل في نظر الجيل القادم. إنَّ استخدام الموسيقى العربية، والآلات كالعود والمزمار في المقطوعات الموسيقيّة، يُعزّز النهجًّالاحتفاليّ للفيلم في الحياة، ما يجعله تجربة جذابة بصريًّا وسمعيًّا. هذه الاحتفالية، رغم كآبة قصة الإطار، تذكّرنا بألوان وأنغام فيلم كوكو (ديزني وبيكسار، 2017)، الذي يحوّل الموت والفقدان إلى مفهوم ثقافيّ صُوريّ احتفاليّ معتمدا على مفهوم الموت في المكسيك وجنوب أمريكا. "دنيا وأميرة حلب" يقوم بنشاط شبيه من خلال تحويل فقدان الوطن إلى فرصة لترجمته من الحيّز العملي المتمثّل في المكان إلى الحيّز المعنويّ المتمثّل في الثقافة والمجتمع.
"دنيا وأميرة حلب" ليس مجرد فيلم للأطفال؛ إنه استكشاف مؤثر للمرونة والأمل وقوة الخيال الدائمة في مواجهة الشّدائد. فهو يجمع بنجاح بين العناصر الخياليّة وقضايا العالم الحقيقيّ، ما يخلق تجربة سينمائيّة لا تُنسى، وذات صدى عاطفي.
- التاريخ: 22/01/2024
- كلمات مفتاحية: أفلام