Image Background

اخترنا لك

أرنوبيَّة: من كآبة الفقدان إلى الإبداع في الذكرى

اخترنا لك: كتب


أرنوبيَّة: من كآبة الفقدان إلى الإبداع في الذكرى

كتب: لؤي وتد
"أرنوبيَّة" (Rabbityness)، كتاب جديد من مشروع مكتبة الفانوس ودار نشر مكتبة كل شيء. صدر الكتاب في الإنجليزية سنة 2012، وحاز على وسام دور النشر المستقلة (IPPY) سنة 2013. الكتاب من تأليف جو إمبسون، الكاتبة والرسامة لأدب الأطفال، الحاصلة على ماجستير في الرسم للأطفال من جامعة كامبريدج البريطانية. تستوحي جو رسوماتها بالأساس من عالم الطبيعة، الذي تدمج فيه المشاعر بألوان مميّزة، كما يمكن أن نرى في غلاف الكتاب. صدر الكتاب بالعربية سنة 2016، وترجم الكتاب المترجم وكاتب أدب الأطفال إياد مداح وكانت المراجعة والتدقيق اللغوي لمنى سروجي.
أرنوب هو أرنب مميز عن باقي الأرانب، كونه يحبّ أن يقوم بأعمال مختلفة، تسمّيها الكاتبة "أعمالًا غير أرنوبيَّة"، مثل الرسم بالألوان وعزف الموسيقى. تميّز أرنوب يجعله أرنباً محبوباً يجلب السعادة لقلوب باقي أصدقائه أرانب الغابة. في أحد الأيام، يختفي أرنوب من الغابة، فتفتقده باقي الأرانب وتبحث عنه في كلّ مكان. يسود الحزن في الغابة لاختفاء أرنوب، إلا أنه سرعان ما يتلاشى عند إيجاد ما تركه أرنوب لأصدقائه. لقد ترك لهم ألوانه وأدواته الموسيقيّة. ترك لهم ذكرى لما كان يميّزه وأعطاهم فرصة لاستعمال هذه الألوان والأدوات الموسيقيّة لإعادة الفرح إلى الغابة، حتى بعد غيابه.
في موقع مكتبة الفانوس، يمكن ايجاد العديد من النصائح والاقتراحات للحديث والنشاط حول الكتاب مع الأطفال البستان، مثل:
"- ممكن أن ندمج النّشاط الموسيقي مع الأطفال بنشاط مسرحي حركي ممتع وباستخدام قطع القماش الملوّنة تعبيرًا عن بقع الدّهان التي ينثرها الأرانب في الغابة وفي جحر أرنوب.
- يساعد أرنوب أصدقاءه في "اكتشاف" مواهبهم وطاقاتهم. تحدّثي مع الأطفال في مجموعاتٍ صغيرة حول أعمال يحبّون القيام بها وتمنحهم المتعة."
أو نصائح للأهالي لنشاط في العائلة مع القصة، مثل:
"- نتحدّث مع طفلنا عن نشاط يحبّ أن يقوم به كغيره من الأطفال، وعن نشاطٍ خاصّ يتميّز به ويمنحه متعة. قد نرغب نحن أيضًا بمشاركة طفلنا أنشطة أو هوايات نتميّز بها.
- أوراق الشّجر اليابسة في كيس مغلق، أو حبّات الحمّص الجافّة في علبة لبن مستعملة ومغلقة جيّدًا، توفّر لنا أدواتٍ موسيقيّة ممتازة للتّمتع بنشاط موسيقيّ مع الأطفال!"
في هذه الاقتراحات نجد مغزى هامًا للقصة، وهو التمييز في العمل "غير الأرنوبيّ". أي أنّ أرنوب وجد البهجة والسعادة وجلبها إلى الغابة لمجرد أنه فكر خارج الصندوق، وهو لم يأخذ الأعمال الأرنوبيَّة كمطلقة وحتميّة وحصريّة على الأرانب، بل أحبّ أيضاً الرسم والعزف- وهي أعمال لا تعتبر أرنوبيَّة. أرنوب لم يستبدل أعماله الأرنوبيَّة، مثل القفز وفتل الشوارب ودسّ الرأس بين الأعشاب والنوم، بل أحبّها أيضاً وأضاف إليها أعمالًا أخرى. هذا هو الإبداع بأطهر صوره. أن يأخذ الفرد امكانياته وقدراته إلى الأمام، وإلى مكان يمكنه الازدهار فيه، حتى لو كان غير مفهوماً ضمناً.
لكن في كل تعامل مع "أرنوبيَّة" لا بدّ من التطرق إلى موضوع الفقدان؛ فهو فكرة أساسية يتعامل معها الكتاب بشكل مباشر. لا يقتصر الفقدان على الموت بل يشمل كذلك السفر أو الانفصال أو غيرها من أحداث الواقع الحتميّة والطبيعيّة. عند الأطفال يتوسع معنى الفقدان ليشمل أكثرَ من الأشخاص، بل كذلك الحيوانات الأليفة التي يعتني بها الطفل، أو ضياع ألعابه التي يلعب بها بشكل مستمر.
تعاملت ثقافة الأطفال مع الفقدان بأشكال مختلفة على مرّ السنين؛ ففي سينما الأطفال نجد فقدان الأقارب في سيمبا عندما فقد والده، وبامبي الذي فقد والدته، ونجد كذلك فقدان الألعاب وصعوبة التعامل معه في "حكاية لعبة" وحتى فقدان الصديق الخيالي في "قلباً وقالباً". كلها قصص مركزية في ثقافة الأطفال، وتضع الفقدان في مركز الحبكة في كل قصة.
في "أرنوبيَّة"، نرى اختفاء أرنوب بالرسومات حتى قبل قراءة الكلمات التي تعبر عنه. فجأة تتحوّل الصفحات إلى بيضاء وتختفي منها الألوان، ولا يبقى سوى بضع أوراق شجر وغابة شاحبة، كانت قبل أرنوب وستبقى بعده. ما فقده الأطفال في هذه الصفحات هو الألوان الجذّابة التي كانت حاضرة مع حضور أرنوب. فالرسم جعلهم يعيشون الفقدان بشكل مبسّط قدر الامكان. وكما جاء في موقع مكتبة الفانوس: "إنّ التّعامل المباشر والدّاعم للطّفل على نحوٍ يتيح له التّعبير عن مشاعر الحزن والغضب أحيانًا، مهمّ جدًا من أجل أن يتجاوز الطّفل هذه المرحلة بأقلّ ما يمكن من أذًى عاطفيّ، وأن يطوّر قدراته النفسيّة في مواجهة أزماتٍ عاطفيّة على نحوٍ إيجابيّ وصحّي".
في دخول الأرانب إلى جحر أرنوب، تعرض المؤلفة فكرة مميّزة جداً، وهي هذا التعامل المباشر مع الاكتئاب الناتج عن الفقدان. تعامل ذكره علم النفس منذ نهاية القرن التاسع عشر في التحليل النفسي، عندما بدأ باكتشافه وبلورته زيغموند فرويد. في القصة لم تهرب الأرانب من الجحر الذي بقي خلف أرنوب، بل دخلته لتواجه المجهول من دون تردّد. في الجحر، الذي قد يرمز للحالة النفسية التي واجهت الأرانب، لم تجد الأرانب أرنوبًا بنفسه، ولكنها وجدت هديته لها. وجدت ألوانه وآلاته الموسيقية. "وكأنّه يهمس لكلّ واحدٍ منهم: حاول أن تقوم بعمل جديد، مختلف، قد تكتشف أنّك مبدعٌ به، ويمنحك والآخرين من حولك الكثير من الفرح". ليس هذا فحسب، بل كذلك نرى أنّ أرنوب نفسه لم يختفِ حقاً من الغابة، فذكراه بقيت. وبالذات في هذه النقطة، قد نجد قراءة تربويّة جديدة للقصّة، تتجه لفئة الكبار وأصحاب المناصب التدريسيّة، أكثر ممّا هي مخصّصة للأطفال.
وكما يقولون: "إذا أعطيتني سمكة فقد أطعمتني مرة، ولكن إذا علّمتني صيد السمك فقد أطعمتني إلى الأبد". تكمن هذا المقولة كنصيحة تربوية كذلك في "أرنوبيَّة". فكان يمكن لأرنوب أن يعزف طيلة الوقت للأرانب ويفرحهم بهذه الموسيقى والألوان كلّ مرة من جديد، ويخفيها عند اختفائه، عندها ستفتقده الأرانب أكثر. ولكن هذا لم يكن هدفاً عند أرنوب، بل هو علّم باقي الأرانب كيفية التعامل مع الآلات والألوان قبل اختفائه. أي أنّه علّمها المهارة نفسها للحصول على الفرح والبهجة في الغابة. في الأساس، هذا المعنى المركزيّ من التدريس، إقتناء المهارة والتمكّن منها، وليس تلقين أيّ شيء من المواد أو المعلومات أو البهجة اللحظية. أرنوب علّم الأرانب كيفية إنتاج البهجة بأنفسهم، من دون أيّ حاجة إليه. وقد يكون تركهم ليعلّم هذه المهارة لأرانب في غابة أخرى.
"أرنوبيَّة" هي قصة رائعة، أبدعت مكتبة الفانوس في التعامل معها. تتعامل القصة مع عدة مواضيع في مركزها الفقدان والذكرى، من المواضيع الأكثر صعوبة للتعامل عند الكبار والصغار على حدّ سواء. برسومات وألوان جذابة تدعو كل طفل للإبداع والتجربة، تحيك لنا جو إمبسون قصة رائعة تضمّ التعامل مع الفقدان والذكرى والاكتئاب والإبداع والإنتاج والعطاء.

في دخول الأرانب إلى جحر أرنوب، تعرض المؤلفة فكرة مميزة جداً، وهي التعامل المباشر مع الاكتئاب الناتج عن الفقدان
وجد أرنوب البهجة والسعادة وجلبهما إلى الغابة، لمجرد أنه فكر خارج الصندوق
  • التاريخ: 15/09/2016
  • كلمات مفتاحية: كتب