اخترنا لك
فتاة طويلة: مركزيّة الجسد ونماذج الجمال في الثانويات
اخترنا لك: أفلام
فيلم "Tall girl" هو فيلم أمريكيّ من إنتاج "نتفليكس"، عُرض أوّل مرّة في أيلول الماضي 2019. يحكي الفيلم قصّة جودي، الفتاة المراهقة في عمر السادسة عشرة، من عائلة ثريّة ومحبّة وداعمة، وهي تسكن في بيت أشبه بقصر مع والدها القلق ووالدتها الواثقة، وأختها الكبيرة التي تتنافس على مرتبة ملكة جمال المراهقين.
تعاني جودي معضلة يوميّة داخل المدرسة، وتسبب لها الحرج الدائم، ما يجعلها تنزوي في دورة المياه أثناء الاستراحة. تكمن مشكلة جودي في أنّ طولها يبلغ 1.86 سم، وهي أطول من كلّ الذكور والإناث في مدرستها، وتعرّضها هذه الميزة لسخرية يوميّة ودائمة من الجميع؛ فالجميع يطلق عليها الألقاب، والسؤال حول أحوال الطقس لديها يتكرّر يوميًا في أروقة المدرسة، ويُقلّل معنوياتها بشكل ملحوظ. وليس هذا فحسب؛ بل يقف طولها حاجزًا منيعًا في إمكانية وقوعها في الحبّ.
يسلّط الفيلم الضوء على القلق الناتج داخل العائلة جرّاء وجود ميزة غير عاديّة لدى أحد أفرادها، عندما يشذّ بعض الأطفال عن النمو الطبيعيّ المعتدل لأبناء جيلهم، فتُؤخذ هذه الميزة وكأنها صفة سلبيّة، أو معضلة أبديّة سيضطرّ الطفل(ة) لمواجهتها طيلة حياته. هذا القلق الأبويّ يدفع الأب للتوجّه إلى الطبيب باحثًا عن عقاقير توقف النموّ الجسديّ لجودي، الطفلة الصغيرة ذات السنوات الثلاث، غير مكترثٍ للعوارض السلبيّة للدواء، الذي بإمكانه أن يتسبّب بأضرار كثيرة، أهمها العقم. يستمرّ هذا القلق الأبويّ حتى عندما تكبر جودي فيحاول الأب طيلة الوقت اختلاق أجواء وأحداث ومناسبات ليجمع فيها أشخاصًا طوال القامة لتشعر جودي بأنها ليست مختلفة، إلا أنّ المبالغة في عرض ما هو طبيعيّ يجعله يبدو أكثر غرابة، ما يجعل طلب الأب الدائم بأن تشعر جودي بأنها فتاة عاديّة كباقي الفتيات يبدو غير منطقيٍّ، لأنه هو بحدّ ذاته يعجز عن تقبّل طولها الملحوظ.
ولا ينفكّ الفيلم يوجّه نقدًا ساخرًا كوميديًا نحو الفتيات اللاتي يوّجهن كافّة اهتمامهن لأجسادهن، وذلك عن طريق عرض شخصيّة شقيقة جودي الكبيرة التي تتنافس على لقب ملكة جمال المراهقين، ما يجعلها تتصرّف تصرّفات مضحكة، كارتداء فستان يصغر مقاسها بمقاسيْن لبضع ساعات يوميًّا حتى تتمكّن من الحصول على خصر رفيع ومقاس أصغر للملابس، أو بأن تطلب من جودي أن تصفعها كلّما رأتها تأكل الحلوى. ورغم ذلك، لا نجد أنّ المجتمع ينتقد هذه التصرفات المبالغ بها للحفاظ على المظهر الجسديّ، بينما جودي التي تعمل طوال الوقت على تعبئة رأسها بالقراءة والمطالعة والتعلّم فتظلّ دائمًا على الهامش. نرى ذلك برغم سلبيته واقعًا نعايشه يوميًا في المحيط، لإجابة ستظلّ مجهولةً للسؤال: ما هي المعايير التي تحدّد وجود شخصية ما في المركز، وأخرى في الهامش؟
وككُلّ مرّة تعجز العائلة عن تفهّم الصعوبات التي يعاني منها الفرد، يظلّ الأصدقاء هم من يُقدّمون عونًا كبيرًا لنا في اجتياز المواقف الصعبة وفي الحثّ المتكرّر في تقبّل الذات، وينعكس هذا في الصداقة المتينة بين جودي وصديقتها ذات البشرة الداكنة فريدا، وصديقها جاك الذي يبدو فرق الطول بينهما واضحًا للغاية. ورغم الاختلاف في المظاهر والانتماء والهُويّة، فإنهما يدعمانها طوال الوقت، ويدافعان عنها عندما تتعرّض للمضايقة في وجودهما، ويتعرّضان للضرب في حمايتها في غيابها، وتأتي هذه المواقف لتبيّن أنّ الأصدقاء الحقيقيّين ليسوا أولئك الذين يشبهوننا في المظهر الخارجيّ، بل أولئك الذين يساندوننا في كلّ الأوقات، ويكونون صادقين معنا، ويصدقوننا ويمسكون بأيدينا عندما نوشك على الانهيار.
ولا يمكن رواية قصّة تقع داخل جدران المدرسة من دون التطرّق للتنمّر الّذي يحدث هناك؛ فتتعرّض جودي لتنمّر يوميّ من طلاب المدرسة، لكن ردّة فعلها تكون مخففة بعض الشيء، فنراها تنزوي في دورة المياه لتتابع قراءة كتاب، وتتوقف عن عزف البيانو حتى لا تكون محطّ أنظار الجميع، ولا تغضب بشكل مبالغ به، ولا تبكي أو تنتحب، ويبدو أن ذلك مقصود حتى لا يؤثّر على المشاهد المراهق الذي من الممكن أن تقترب قصّة وشخصية جودي مع تجربته الخاصة، وذلك يربطنا مباشرة مع مسلسل "13 reasons why" الذي دفع الكثير من المراهقين لسلك ذات المسار الذي سلكته الشخصيّة الرئيسة فيه، وهو الانتحار، لعدم القدرة على التصدّي للتنمّر الناتج من المدرسة. يُضاف إلى ذلك أنّ الهيئة التدريسيّة مغيّبة كليًّا عن مشاكل الطلاب في الفيلم، فلا نجد أيّ موقف مع أيّ معلّم يلاحظ تكاتف الطلاب ضدّ جودي. فالحدث يظلّ داخل المجموعات الطلابيّة ولا يتفشّى إلى الهيئة التدريسيّة كما حدث في فيلم "13 reasons why"، ولا بدّ لهذا التجاوب الخفيف مع التنمّر للحفاظ على مشاعر المشاهدين أن ينعكس سلبيًا على الفيلم، فيُذيب امكانيّة التعاطف مع الشخصيّة التي من المفترض أن يكون ألمها بارزًا لنا حتى نتمكّن من التماهي معها.
يحدث تغيير حادّ في شخصية جودي عند انضمام طالب جديد من السويد إلى الصفّ، هذا الطالب الذي يضاهيها في الطول، فلا يلحظ أبدًا مدى اختلافها، فهو قادم من الدولة التي تزخر بالعمالقة. يضيف وجود شخصية الطالب الجديد زاوية نظر جديدة للمشاهد، إذ يكشف بأنه يلقى استحسانًا كبيرًا وإعجابًا كبيرًا في أمريكيا بسبب هيئته الخارجيّة، بينما هو في بلاده يعدّ "أخرقَ" في نظر المجتمع لأنه لا يلبّي امتيازات الجمال هناك، ما يدفعنا للتفكير في أنّ جميع التغيّرات التي من الممكن إحداثها على مظهرنا الخارجيّ ستكون دومًا في تغيّر الأمكنة وتبدّلها أمرًا غير كافٍ. إلا أنّ جودي تنصاع فورًا وراء محاولة تبديل المظهر بزيارة دور الأزياء، وتغيير تسريحة الشعر، لتكتشف في نهاية الأمر أنّ هذه أمور غير كافية للحصول على حبّ حقيقيّ وصادق.
يحظى الفيلم بانتقاد واسع ومتفاوت. فيرى جزء كبير من الجمهور بأنّ من المهم الحديث أمام المراهقين عن تقبل الجسد والذات، لكن أن تعرض المشكلة فتاة ثريّة وشقراء وذكيّة، فإن معضلة الطول والتنمر تخبو بعض الشيء. فهناك طلّاب مراهقون يمرّون بتجارب تنمّر أفظع وفي ذات الوقت يعيشون في ظروف ماديّة صعبة، ولا يحظون بأهل داعمين، كما أنّ الفيلم لا يعرض أيّ وسائل تواصل أو استخدام للهواتف، إلّا في لقطة واحدة، وهذا يقلّل من جودته؛ فالتنمر في الوقت الراهن يبدأ وينتشر ويتوسّع داخل نطاق هذه الشبكات. وحتّى عندما قرّرت جودي تقصّي البحث حول إجراء "جراحة لتقصير الطول" سرعان ما تجاوزت هذه المحنة. فالبطلة كانت واثقة من نفسها لكنها تعجز عن توضيح ذلك، ومجدّدًا نعود إلى مسلسل "13 reasons why" الذي احتوى على جميع ما ذكر، من تأثير وسائل التواصل، وضعف وانهيار البطلة كلّما ازداد التنمر وتكثّف، والتي كانت من دون أصدقاء داعمين أو إخوة، وكانت تعيش في وضع اقتصاديّ صعب كان قد تسبب بشكل غير مباشر أيضًا بالنهاية.
ومع ذلك يبقى من المهم أن يشاهد المراهقون أفلامًا تتحدّث عن مشاكلهم وحيواتهم وصعوبات من الممكن أن تعترض طريقهم، مع النهايات المفعمة بالأمل بأن كلّ شدّة ستزول، وبأننا نقدر في كثير من الأحيان على إنقاذ أنفسنا من الهلاك بطريقة بسيطة جدًا، وهي أن نحبّ ذواتنا كما هي، وأن نجتهد في صنع دواخلنا، فهي الأهم.
- التاريخ: 10/03/2020
- كلمات مفتاحية: أفلام