اخترنا لك
أبي يهرب مع السيرك: الأسرة والحداثة وإعادة صياغة الترتيب الاجتماعي
اخترنا لك: كتب
هل هناك شكل ثابت للحياة الأسريّة؟ وما هي العوامل التي تشكّل هذه الصيغة المنتشرة اجتماعيًّا لوظيفة كل فرد من أفراد العائلة؟ أسئلة كثيرة تبادرت الى ذهني عند قراءة قصّة" أبي يهرب مع السيرك" للمرة الأولى؛ أذهلني حبّ أطفالي للقصة وطلبهم المتكرّر بإعادة سردها عليهم عدة مرات، وفي كل مرة يعيدون الاندماج كأنها المرة الأولى. وأثار اهتمام أطفالي بالقصة وتفاصيل أحداثها في ذهني، كذلك، أسئلة حول القصّة الجيدة ومُركّباتها وقدرتها على استفزاز عقل ومشاعر الطفل في كل مرة يقرأها فيها. في هذه المقالة سأعرض لكم قصة "أبي يهرب مع السيرك"، وهي من تأليف إتجار كيرت وروتو مودان وترجمة لؤي وتد. وسأتناول القصة من عدة أبعاد، اجتماعية ونفسية وأسريّة.
تدور أحداث القصة في جو مليء بالحركة والإثارة تعكسه ألوان القصة البارزة والقوية بالإضافة الى رسومات الكومكس كثيرة التفاصيل. تبدأ الأحداث بمشهد دخول الأب ليلا بكلّ حماس وبشكل مفاجئ إلى غرفة أطفاله ليخبرهم بأنّ السيرك سيحضر إلى بلدتهم وبأنهم سيذهبون جميعا لمشاهدته. لا يقابل الأبناء حماس والدهم بمثله بل إنّ قلقهم من أن يوقظ والدهم المتحمس جدا الجيران بصوته المعلن عن قدوم السيرك كان أكبرَ. يستمرّ الأب بحماسه وبحركاته البهلوانية في صباح اليوم التالي، والتي أحدثت فوضى كبيرة أثناء تناول الأطفال لفطورهم. يستمر الأب في أداء هذه الحركات البهلوانية بفرح ويستمرّ الأطفال بتناول طعام فطورهم ومشاهدة اندفاع والدهم الكبير. في عصر ذلك اليوم وبعد عودة الأم من عملها وأثناء انشغالها بأداء بعض المهام على حاسوبها النقال، ينشغل الوالد بتحضير أطفاله وبتجهيزهم للذهاب إلى السيرك، مع أنّ الأطفال لم يُبدوا أيّ حماس تجاه الذهاب- حيث يذهبان فقط من أجل والدهما.
عند وصولهم الى السيرك، يفاجَأ الأطفال بأنّ خيمة السيرك كبيرة ولكنها شبه فارغة وبأنها بدت في قصص والدهما ووصفه أجمل وأكثر إثارة. إلّا أنّ الأب ينفعل كثيرا مع فعاليات السيرك التي دفعته لتغطية أعين طفليه عند رؤيتهم لبعض المشاهد المخيفة بحسب اعتقاده. وفي نقطة حاسمة في القصة يتجادل الأب والأم بعد انتهاء العرض فتعود الأم الى السيارة لتقول إنّ والدهما قرر تركهم والذهاب مع السيرك. بعد ذهابه مع السيرك يبدأ الوالد بالتواصل مع أطفاله وإرسال الصور والرسائل من رحلاته مع السيرك، ويُعجب الأطفال كثيرا بما يقوم به والدهم من عروض أثناء جولاته ولكنهما يرغبان أكثر في عودته. يعود الاب هذه المرة مع السيرك ولكن عودة السيرك كانت مختلفة، إذ يأتي الناس بأعداد أكبر لمشاهدة العروض والاستمتاع بها لأنّ الوالد هو الذي قام بالعروض. وفي النهاية يعود الأطفال الى البيت مع والدهم ووالدتهم ويقول الطفل الذي يقصّ علينا هذه القصة إنّ الأمور عادت الى طبيعتها كما كانت سابقا مع بعض التغييرات، حيث أصبح السيرك جزءا من نسيجهم الأسري.
من أهم ما يلفت النظر في هذه القصة أنها تروى بلسان الأطفال، تحكي لغتهم، وتصور لنا الحياة من وجهة نظرهم. رسومات الكومكس الهزلية في القصة تدفعنا الى الدخول بسرعة الى عالمهم الذي يصوّر الحياة كأنّها رحلة جميلة ستكون في النهاية على ما يرام. يتحدث الأخ الصغير راويًا لنا مغامرات أبيه ومحاولته لإقناع أطفاله بفعاليات السيرك، وفي أثناء حديثه، يؤكّد الطفل لنا كلّ مرة أنّ للأطفال رغبات لا توافق رغبات الاهل ولكنهم بالنهاية مضطرون لمسايرتهم إرضاءً لهم. وقد استطاع مؤلفا القصّة أن يصوّرا بطريقة خلاقة عالم الطفل الذي يدور في رأسه بمنأى عن تفكير الكبار المختلف كليا. يقول الطفل معبّرا أنه وأخته اضطرا للتغيب عن دروس الجودو والاستمتاع بمشاهدة التلفاز تلبية لرغبة والدهما بمرافقته الى السيرك مع أنهما لم يرغبا أبدا في ذلك. ولكنهما يستمران في مسايرة والدهما. وينشغل كل فرد من أفراد هذه العائلة بعالمه، لكن الطفل الصغير الذي يقص علينا هذه القصة لا يملك مجالا خاصا به للاهتمام سوى مشاهدته للتلفاز، حيث تكون الام طيلة الوقت مشغولة بعملها خارج البيت، والأب مشغول بشغفه تجاه السيرك أمّا الأخت التي ترتدي طيلة الوقت ملابس الجودو فتكون ملتزمة بدروس الجودو وبمتابعة هوايتها التي تظهر بشكل واضح جدا في كلّ رسومات القصة. يترك انشغال كل فرد من العائلة بعالمه هذا الطفل وحيدا ليقص علينا هذه القصة من وجهة نظره الخاصة، فيمحو بذلك العلاقة الهرمية بين الأهل والأطفال حيث لا طرحٌ إرشاديٌ ولا أبويٌ في القصة أبدا، مع أنهم تماشوا مع رغبة الوالد ولكن الطرح كان مختلفا من حيث طلب الانضمام اليه وليس الأمر.
تعتبر هذه القصة بمثابة نموذج لشكل الحياة الأسريّة في ظلّ التطوّر وفي ظلّ العولمة التي تلقي بظلالها على شكل الحياة الأسريّة الراهن. فتغير تركيب الأسرة وتعيد صياغة دور كل فرد فيها وتمحو السلطة الأبوية المعهودة في الأسرة بصورتها التقليديّة، والتي يكون الأب مركزها. من بداية القصة نلاحظ صورة الأب الذي يتصرّف بطيش ويقوم بتصرّفات غير مسؤولة تدلّ بشكل واضح على دوره الثانويّ في التأثير داخل الاسرة، والذي ينقلب بشكل واضح في نهايتها. يوقظ الأب الأطفال في البداية من نومهم مُصدرًا فوضى يخاف الأطفال من أن تزعج جيرانهم، ولكن الأب يستمرّ بتلك التصرّفات التي تنفي عنه صفة المسؤوليّة. تظهر الأم العاملة في القصة أيضًا كعنصر حياديّ لا يتدخّل في سير حياة الأطفال اليوميّ وفي قراراتهم، الأم الأنيقة والتي تستمر بالانشغال طيلة الوقت في عملها وفي داخل البيت بمتابعة عملها، تمثل بذلك صورة كلّ أمّ عاملة تعاني ذلك التناقض الأزلي الذي أحدثته العولمة، بين الحياة الاسرية ومتاعب العمل وبين متابعة الأطفال واحتياجاتهم واحتياجات العمل والنجاح وتحقيق الذات.
وفي ظل انشغال الأم نجد أنّ صورة الأب تختلف عن الصورة الاجتماعية المتعارف عليها على الأقل لدينا كمجتمع عربيّ: يقوم الأب بتحضير فطور أبنائه والقيام باحتياجاتهم اليوميّة في البيت ويكون هو المسؤول كذلك عن القيام بشراء حاجيات البيت. إنّ أحد آثار الحداثة الأهمّ هو تغيير النظام الأسريّ المتعارف عليه، حيث يقوم الأب بما كانت تقوم الأم بعمله وتقوم الأم بالعمل خارج البيت، فتتبادل الأدوار، ولكن السؤال الذي تطرحه القصة والتي تظهر إجابته بشكل واضح في نهايتها هو: هل يكون تبادل الأدوار هذا فعلا في مصلحة الأسرة؟ أو بالأحرى، هل هناك صورة واضحة ومتفق عليها لشكل الأسرة؟
يمثل هروب الأب وعودته إلى البيت وانتظام الحياة بعد عودته جوابًا عن هذا السؤال. في الجزء الأخير من القصّة يعود الأب وترحّب العائلة بأكملها بعودته، مع أن الأم تستمر بالعمل خارج البيت ولكنها كذلك تمسك بيدها عصا مكنسة لتقوم بتنظيف الحديقة ممثلة بذلك دورًا مختلفًا عمّا كانت تمثله في بداية القصة، وكأنّ شكل الحياة الاسرية الذي يجب أن يكون هو المشاركة من الجهتين، من الأب والأم، في القيام بالواجبات تجاه الأسرة بشكل متساوٍ وعادل في واقع اضطرت فيه الأم للخروج إلى سوق العمل. ولا بد لهذا النظام من التعديل وفقا لما يناسب طبيعة وجودها في سوق العمل.
مع أن القصة ليست من القصص السهلة على الطفل من حيث الأحداث وهروب الأب الذي يمثل انقلابا في تفكير الطفل ويزعزع الصورة الثابتة للأب ولوجوده في البيت، لكن نهاية القصة بعودة الأب بعد هربه مع السيرك تثبت أنّ المشاكل الأسريّة التي تؤدّي إلى انفصال مؤقت ما هي إلّا مشاكل عابرة وستكون بعدها الأمور على ما يرام، فيعود كلّ شيء إلى سابق عهده بل وأفضل ممّا كان. تعتبر هذه القصة سردًا ممتازًا للأطفال الذي مرّوا بمشاكل أسريّة أدّت إلى انفصال مؤقت للأب والأم حيث تقدم طرحًا مميّزًا ومرحًا لشكل الحياة الأُسريّة الطبيعيّة التي من الممكن أن تعصف بها بعض المشاكل، ولكن الأمور في النهاية ستكون على ما يرام. مع أنني لا أحب حصر الإبداع القصصي في أدب الأطفال في زاوية معينة ولكن هذه القصة نموذج للقصص التي من الممكن استعمالها لعدة أغراض، سواء علاجية أو غيرها.
- التاريخ: 14/07/2019
- كلمات مفتاحية: كتب