اخترنا لك
دراسة مقارنة: كتاب الأدغال - ثيمات وقضايا مختلفة بين فيلم ديزني وفيلم نيتفليكس
اخترنا لك: أفلام
لعلّ قصّة ماوكلي الأصلية التي ظهرت في "كتاب الأدغال" للمؤلف رديارد كيبلينغ، وهو عبارة عن مجموعة من القصص الخيالية التي تحدث في غابة "سيوني" الهنديّة، هي الأكثر تشويقًا وإثارة للأطفال واليافعة من الأفلام بإصداراتها المختلفة التي عرّفتنا على "ماوكلي" فتى الأدغال. فقد نجح كيبلينغ في تكوين قصّة مليئة بالانعطافات والمغامرات لشخصيّات كتابه التي منحها صفات الإنسان حتى يتمكّن من إعطاء الدروس الأخلاقيّة والتربويّة والفكريّة للطفل القارئ، مُصوّرًا بذلك البيئة الاجتماعيّة الإنسانيّة بكافّة عيوبها ونقصانها، تاركًا للقرّاء مهمّة التفكير والتحليل وتطبيق ذلك على الحياة من حولهم لاستنتاج العبر.
في هذه المادة، سوف أقوم بمقارنة فيلميْن صدرا في السنوات الأخيرة، الأول هو فيلم كتاب الأدغال الذي أصدرته شركة ديزني عام 2016، والثاني هو فيلم "ماوكلي" الذي أصدرته شركة نيتفليكس عام 2018. ولكن قبل المقارنة، سأعرض عليكم القصة نفسها بصيغة كيبلينغ.
تبدأ القصّة بالتعريف بالجوّ العام لغابة "سيوني"، وبحديث بين الضبع "تاباكي" والذئاب حول النمر شاريخان، الذي يغيّر منطقة صيده من دون إبلاغ مسبق حسبما يقتضي قانون الغاب، شاريخان النمر الأعرج الذي يثير حنق البشر لأنه يقتل ماشيتهم، ويثير حنق باقي الحيوانات لأنه يضعهم في خطر وفي مواجهة مع البشر في حال أرادوا النيل منه.
يسمع بعد قليل صوت شاريخان وهو يطارد فريسته، فيتّضح بأنه يطارد طفلًا بشريًّا صغيرًا، هذا الفعل الذي يزدريه الذئاب كون قانون الغاب يمنع اصطياد الإنسان لأنه أعزل وضعيف، يقوم الذئبان الأب والأم بحماية الطفل البشريّ وتبنيّه وعرضه أمام القطيع، حيث يتم تقديم فدية مقابل انضمامه لهم. منذ تلك اللحظة يعلّمه الذئاب كلّ شيء، كيف يأكل، ويصطاد، ويعيش، ويتكلّم مع الحيوانات؛ فلكل صنف لغة خاصة به. ثمّ تبدأ مغامرات ماوكلي في الغابة حين يختَطفه الباندرلوج وهم مجموعة القردة، حتى يعلمهم كيفية عقد وحبك الأغصان. تخيّم على الحكاية أجواء خياليّة طيلة الوقت، حيث يعقد باغيرا وبالو خطّة للدفع بالأفعى "كا" التي تخدّر بتعويذتها الحيوانات، لإنقاذ ماوكلي فيلفقون لها قصّة عن أنّ القردة تسخر منها وعليها تلقينهم درسًا. كما يعرض الكتاب تقبّل القرية لماوكلي واحتضانه وتعليمه لغتهم وعاداتهم، عندما ترك الغابة وتوجّه حيث يسكنون. ماوكلي الذي منذ أن فهم الكلام بدأ بالسخرية من معتقداتهم التي يحكيها لهم الصياد كلّ ليلة، فيعود مرّة أخرى للغابة حيث يحارب النمر شاريخان وهو عدو يوصف طيلة الحكاية بأنه أعرج وجبان، فيتم حرقه بالنار ما يفقده شعره. لم تكن في الكتاب رابطة قوية ومساندة بين ماوكلي والذئاب وهذا ما يزيد الحكاية إثارة، فنجد في الكتاب الكثير من الدراما والانعطافات والاحداث الجديدة التي تستحوذ على انتباه وشغف القارئ الصغير. حتى "النار" التي تحتل جزءًا مهمًا في الحكاية يتم ذكرها فقط باستخدام كلمة "الزهرة الحمراء" وبتبرير من الراوي بأنّ الجميع كان يتحاشى لفظ كلمة "نار" لشدة الخوف من تأثيرها ومخاطرها.
قضايا كثيرة يثيرها الكتاب، ولا يستثني أن يعرض تعرّض ماوكلي للألم النفسي والبكاء، "ما هذا؟ أشعر بأنني أحتضر" فيطمئنه باغيرا بأن هذه ما هي إلا دموع. يتابع المؤلف في إضافة الحماس للنص حيث يتم القضاء على شاريخان بواسطة خطة يضعها ماوكلي للثيران والجواميس، وبعد التخلص منه يتم سلخ جلده، الذي يكون مطلوبًا بقيمة 100 روبية، ما يجعل الصياد يحاول الاستحواذ على جلد النمر، وعندما يعجز يحرّض أهل القرية ضد ماوكلي واصفًا إياه بالساحر، تنتهي الحكاية بزواج ماوكلي، تاركًا القرية والقطيع، متخذًا من الغابة مكانًا للعيش.
في العام 1967 قامت والت ديزني بتحويل قصّة ماوكلي المأخوذة من كتاب الأدغال إلى فيلم طويل من إخراج فولفانح ريثرمان، وقد حصد الفيلم إيرادات مرتفعة ونجاحًا ملحوظًا في كلّ العالم. يحكي الفيلم قصّة ماوكلي البشريّ الذي نشأ في الغابة الهندية، ويعيش تحت حماية الذئاب، بينما يحاول صديقاه النمر باغيرا والدب بالو إقناعه بمغادرة الغابة قبل وصول النمر شاريخان.
في العام 1989 صدر الجزء الأول من المسلسل الكرتوني "ماوكلي فتى الأدغال" الذي يستند إلى قصة ماوكلي في كتاب الأدغال، الذي يحكي عن ضياع الطفل البشري داخل الغابة في الوقت الذي ذهب فيه والداه للبحث عن عينة التربة لإجراء بعض التجارب، ويعيش ماوكلي مرّة أخرى تحت حماية قطيع الذئاب، ويعيش صراعه ضد شاريخان، ثم يتعرّف على "ميشو" الفتاة التي تعلّمه لغة التواصل بين البشر، وينتقل معها إلى القرية ليبدأ من جديد.
في العام التالي 1990 صدر الجزء الثاني من المسلسل، الذي دبلج للغة العربية وبثّ عبر قناة سبيستون، محققًا شهرة واسعة في الوطن العربيّ، معرّفًا أجيالًا كثيرة على قصة كيبلينغ.
في العام 2016، قرّرت شركة ديزني إصدار الفيلم مجددًا ولكن هذه المرة بصيغته الواقعيّة. في عام 2018، تتحدّاها شركة نيتفليكس باصدار صيغتها الواقعية، وتعرض الفيلم والقصة بطريقة مختلفة. بالرغم من اعتماد كلّ من شركة ديزني وشركة نيتفلكس على "كتاب الأدغال" لكيبلينغ في صناعة الأفلام، إلا أنّ اختلاف الثيمات ولّد لدينا قصصًا وقضايا مختلفة في كلّ فيلم.
كتاب الأدغال – ديزني 2016:
الثيمة الرئيسة في الفيلم هي وجود ماوكلي، الطفل البشريّ داخل الغابة، واعتراض النمر شاريخان الذي كان قد قتل والد ماوكلي قبل سنوات عديدة، على وجود أحد أفراد البشر داخل الغابة، وطلبه المباشر من الذئاب بتسليم الطفل له ليقتله، وعليه تتابع جميع أحداث الفيلم حول هروب ماوكلي داخل الغابة وتربّص النمر له حتى ساعة المواجهة.
ماوكلي: أسطورة الغابة – نيتفلكس 2018:
الثيمة الرئيسة في فيلم نيتفلكس كانت سوداويّة، وأحدثت انحرافًا بالغًا في قصّة ماوكلي الأصليّة المليئة بالخيال والمغامرة والغناء، وحوّلتها إلى سؤال وجودي وأزمة في الهوية، فنجد ماوكلي طوال الوقت يحاول أن يحدّد ماهيّته: من هو؟ أهو ذئب؟ بحكم تربية الذئاب له، أم هو إنسان؟ ينتمي إلى قرية البشر حسبما ادّعى الجميع فجأة، أم هو كلاهما؟ إنسان بالفطرة، وذئب حسبما يفرضه وجوده في الغابة.
يبدأ فيلم ديزني بمشهد سباق الذئاب الذي يتضمّن ماوكلي، ومرافقة باغيرا له، باغيرا الذي يخوض دور الراوي فيخبرنا بأنه هو من وجد ماوكلي في الغابة، وكي يوفّر له الحماية ائتمن قطيع الذئاب عليه. يفشل ماوكلي في السباق بسبب عدم معرفته لأيّ الأشجار يستند أثناء القفز، ولا يثير فشله في السباق أيّ مشكلة لديه، بل يتابع تدربه وحواره مع باغيرا.
بينما ابتدأ فيلم نيتفلكس بصوت "كا" أفعى الغابة، بوصفها لذاتها بأنها "عينا الأدغال" الشاهدة على الماضي والمستقبل وعلى قدوم الإنسان، بإشارة إلى أنّ الأدغال جاءت قبل الإنسان إلى العالم. معلنة للمشاهد بأنه ثمّة صراع يجري بين الأدغال والإنسان، وبأنّ الأدغال وضعت كافّة أملها بالنجاة في المخلوق البشريّ الصّغير ماوكلي، الذي سيعيش ويكبر داخل الغابة، ويتمكّن من حمايتها من أبناء جنسه، يومًا ما.
اختلاف الرواة وجملة الافتتاح في الفيلمين يمكنه أن يعطي تفسيرات مختلفة: باغيرا الذي يمثّل احتضان المجتمع لماوكلي المختلف بقدراته وتكوينته، الذي وجده منذ البداية وحرص على وضعه تحت رعاية قطيع الذئاب كونهم شعبًا حُرًّا، ومرافقته له طيلة أحداث الفيلم في كلّ اللحظات الفارقة والصعبة، حتى نهاية القصة.
أمّا مقدّمة الأفعى "كا" فترمز إلى أنّ هناك صراعًا قديمًا ومتجدّدًا بين الأدغال وبين البشر، وهي تعرض القصّة بكونها الشاهد الأساسيّ على ما جرى، وكأنها ذاكرة المكان، وتقول بشكل مباشر إنّ الخطأ بدأ من الإنسان الذي شوّه معالم الطبيعة واعتدى على الحيوانات واستخدم النار في حروباته، وبأنّ الغابة بأكملها تربّي ماوكلي بهدف أن يعود في النهاية ليؤثر ويغيّر من تصرف الإنسان تجاه الأدغال.
تحتاج كل قصّة إلى اشتباك وصراع ومشكلة حتى تمسك بزمام لهفة ومتابعة القارئ أو المشاهد. نجد الصراع في فيلم ديزني صراعًا شخصيًا، بين شاريخان وماوكلي، اللذيْن يمثلان قوى الخير والشّر، وكما كلّ نهاية حالمة ينتصر الخير على الشّر.
بينما هناك صراعان في فيلم نيتفلكس: الأول صراع عام، بين الإنسان والغابة بكلّ مكوناتها، فبالإضافة إلى افتتاحيّة "كا" التي ترمز إلى اعتداء الإنسان على الأدغال، ورد حوار بين ماوكلي وباغيرا:
-كم عمر الأدغال يا باغيرا؟
-الأدغال موجودة قبل ولادتك وستظل موجودة بعد موتك. الأدغال أبدية.
يكرر فكرة أنّ الأدغال جاءت قبل الانسان وأنها أبدية بينما هو مؤقت، وهذا مؤشر على الصراع بين الانسان والغابة، فكونه مؤقتًا لا يجب عليه أن يدمر الأشياء الباقية الى الأبد.
والصراع الثاني هو صراع ماوكلي الخاصّ والشخصيّ في تحديد هويّته وانتمائه بكلّ اختلافاته وتميّزه عن الحيوانات المحيطة به من جهة، وصراعه الخاصّ أيضًا مع النمر شاريخان.
من تحديد الصراعات يمكن الاستدلال على الشريحة وجمهور الهدف لكلّ فيلم، فعرض الصراع بين الخير والشرّ هو أمر يعرض تقريبًا في كلّ الأفلام والمسلسلات الكرتونية الموجّهة للأطفال، بينما صراع الهويّة يبدأ بالتشكلّ في جيل المراهقة أكثر، من هنا يمكننا توجيه الصغار الي فيلم ديزني الأكثر وردية، واليافعة إلى مغامرة شاقّة مع الذات في فيلم نيتفلكس.
يبين فيلم "كتاب الأدغال" من انتاج ديزني بأن الغابة فيها قوانين معروفة لدى الجميع، إلا أنّ هذه القوانين لا تخضع لاحترام الحيوانات كلّها بذات الدرجة، فتعكس لنا الغابة عن طريق اختراق القوانين الحياة البشريّة الاجتماعيّة وكأنّ الغابة نموذج لتمثيل التعدّي الذي يقوم به البشر تجاه القانون. رغم تخصيص مشهد في تلاوة قانون الغابة ("قوّة الذئب من القطيع وقوة القطيع من الذئب") إلا أنّه لا يتم الاكتراث دومًا للقانون. في هدنة الماء التي يتوجب بها اجتماع جميع الحيوانات للشرب يلتزم الجميع في القانون بعدم الصيد والتعرّض للحيوانات. لكن في مشاهد لاحقة يتعدّى الكثير من الحيوانات على القانون، النمر شاريخان الذي يصطاد "لأجل المتعة والنفوذ" كاسرًا قانون الغاب، وجملة "بالو" الدبّ لماوكلي: "القوانين وجدت حتى يتم التلاعب بها بما يخدمنا"، فنجد فوضى عارمة في الغابة .
على العكس تمامًا تجري الامور في غابة نيتفلكس، فيحترم الجميع القانون، الذي يسهل بدوره الحياة ويبعد عنها الفوضى، ويبدأ تطبيق القوانين من بداية الفيلم عند ضمّ ماوكلي إلى قطيع الذئاب، وحصوله على توصيتيْن وفدية حسبما يقتضي قانون ضمّ فرد جديد للقطيع. وردّ والدة ماوكلي "نيشا" الذئبة على مطالبة شاريخان للقطيع بتسليمه ماوكلي بقولها "هو حقّك حسب أي قانون؟"، ويرد شاريخان موجّهًا ذلك إلى "أكيلا" قائد القطيع: "عندما تفشل في اصطياد فريستك، سيكون هذا الفرخ البشريّ لي". فقانون الغابة ينصّ على تغيير القائد عندما يضعف ويعجز عن اصطياد فريسته، كذلك الأمر في عرض قانون الصيد: "النظر في عينيّ الفريسة حتى لا تموت وحيدة"، وماوكلي أيضًا لا يتم تجاهل تعدّيه على القانون ويتم طرده من القطيع نتيجة تجاوزه لقوانين الغابة: "لقد وجّهت أسلحة البشر نحونا".
وأرى بأن هذا الاختلاف يعطي فارقًا كبيرًا في توجّهات كلا الفيلمين، فالأول يعرض بطرق كثيرة مبطنة أحيانًا وصريحة أحيانًا أخرى بتمثيل التصرفات والبيئة البشرية عن طريق الحيوانات، الأسلوب الذي استخدمه الكثير من الكتّاب لإيصال رسائل للقارئ عن طريق الحيوانات، أما في الفيلم الثاني فنرى الأمر مختلفًا، إنه يعرض نمطًا من الحياة التي يتوجّب عليها أن تكون، القانون فوق الجميع، الخير يهزم الشرّ، الاتّحاد قوّة وغيرها من القيم الاجتماعية والإنسانية.
في كلا الفيلمين نجد عاطفة الأمومة صارخة ومؤثّرة، من لحظة تبنّي الذئبتين الأم لماوكلي، والدفاع عنه أمام القطيع والتمسّك به، إلى حين وداعه "أينما ذهبت، ومهما كان اسمك، فأنت ابني، وتنتمي إليّ" تقول والدة ماوكلي وقت وداعه في فيلم ديزني. بالمقابل دعم "نيشا" الأم الذئبة الدائم لماوكلي "ستبقى ابني دائمًا يا ماوكلي، لا شيء يستطيع أن يغيّر ذلك"، مرورًا بالأمومة الإنسانيّة في فيلم نيتفلكس حيث تحتضن الأم البشريّة ماوكلي وتعتني به وتساعده على التأقلم والعيش داخل القرية.
كذلك الأمر في القصة الأصليّة في الكتاب، مرورًا بفيلم ديزني 1967، ومسلسل "ماوكلي فتى الأدغال"، تظلّ الأم هي الداعم الدائم لماوكلي في لحظات ضعفه واستسلامه. مؤكّدة في كلّ المرات بأنه ليس مهمًا من تكون، وأين ولدت، ولمن تنتمي، فأنتَ في كل الجهات ولدي الذي أخاف عليه وأحبّه، ويأتي هذا التأكيد للطفل القارئ والمشاهد بأنّ الأشخاص الذين يبادلوننا الحبّ والاحترام لا يهمهم أين ولدنا، ولا من هما والدانا، بل المهم أن نكون نحن في جوهرنا أشخاصًا جيّدين، كما أنّ وجود شخص يؤمن بقدرتنا في لحظات الاستلام يدفعنا للمضي قدمًا وبذل طاقة أكبر لتحقيق أهدافنا.
مراحل الصدمة النفسيّة الثلاثة، من الرفض حتى التقبّل:
يبدأ صراع الهوية لدى ماوكلي منذ فشله في اجتياز اختبار الركض وملاحظته بأنه يختلف عن الذئاب الذين عايش بينهم منذ صغره، وتشكّل فكرة عودته إلى قرية البشر صدمة نفسية كبيرة بالنسبة له، ويمر ماوكلي عبر الفيلم بمراحل الصدمة النفسية الثلاثة:
المرحلة الأولى: الرفض والصراخ والبكاء
يرفض ماوكلي قطعيًا أن يعترف في كونه ينتمي إلى قرية البشر التي لطالما استرق النظر إليها ولاحظ مدى تشابهه معها، ونجد ذلك الرفض جليًا في حديثه مع باغيرا:
-لماذا عليّ أن اذهب الى قرية البشر؟
- لأنك منهم.
- أنا ذئب. (يجيب بحدّة وصراخ ورفض قاطع للأمر)
وكتحضير للمراحل التالية، يلتقي ماوكلي مع تاباكي الذي يعترف أمامه:
- أحيانًا أحلم بأنني نمر، لكني أستيقظ يوميا وأجد نفسي ضبعًا.
المرحلة الثانية: الهدوء والرغبة في البقاء وحيدًا.
وتأتي هذه المرحلة بعد حادثة خطف القرود له، إذ نشهد حوارًا بينه وبين "بووت" الذي يحاول أن يجذب ماوكلي للعب معه أو لتبادل الحديث، غير أن ماوكلي لا يستجيب، ويعلّق "بووت" بأن ماوكلي قضى وقتًا طويلًا دون أن يقترب أو يتحدث مع أحد ففي محاولة لإقناعه بالعودة إلى قضاء الوقت مع القطيع:
- ينبغي للذئاب أن تكون بجانب بعضها..
- أنا لست ذئبًا.
يجيب مرّة أخرى، ثمّ يندفع في الصراخ كلّما تقدّم الحديث.
وتتدخّل "كا" أيضًا في مسألة صراع هويّته بإخباره أن جميع من في الغابة تعرفه ولذلك أنقذه الفيل لأنه غير عادي، نصف ذئب نصف إنسان.
المرحلة الثالثة: التقبّل.
بعد انتقال ماوكلي لقرية البشر وبعد مرور فترة زمنيّة تمكّنه من التأقلم معهم وتعلّم عاداتهم المختلفة عن عادات الذئاب نشهد ردًّا صارمًا منه عندما يطلب منه الذئاب العودة إلى "الديار" حيث الغابة:
- القطيع يحتاجك، عد للديار..
- هذه دياري (في إشارة لقرية البشر)، لكن مع عودة ماوكلي النهائية إلى الغابة وقيادته لقطيع الذئاب لا يمكن للمشاهد أن يجزم أن هذا الصراع الشخصيّ قد انتهى.
وبينما يعيش ماوكلي نيتفلكس أزمة في الهويّة، يأكل ويمشي ويتصرّف كذئب، يتنقل في سكنه بين الغابة والقرية لا يعرف ماوكلي ديزني أيّ شيء عن هذا الصراع، ربما يكون هناك بعض التلميحات التي تتحدث عن الوطن الأصليّ له، لكنه طوال الوقت كان يعرف بأنه ليس ذئبًا ويظهر ذلك من خلال سلوكياته حيث كان يمشي على قدميه كإنسان، يأكل بيديه ويستخدم حيلًا كثيرة، بالإضافة لجملٍ صريحة عدّة:
- أعلم أنك لم تولد ذئبًا، لكن تصرف مثلهم.
- القفز سيبعدك عن القطيع.
- قاتله كبشريّ.
يتفوّق ماوكلي ديزني بعرض ذكائه البشري عبر الخطط والحيل والمغامرات التي يقوم فيها طوال الوقت، من حيله في شرب الماء، مساعدة الدب بالو في تجميع خلايا العسل، انقاذ الفيل الصغير العالق في حفرة ضيّقة وحتى مواجهة النمر شاريخان، أمّا ماوكلي نيتفلكس فيمتاز بطرحه المستمرّ للأسئلة بينما لا تقوم أيّ من الحيوانات الأخرى بطرح الأسئلة على "بالو" المعلم:
- بالو كم عدد النمل الذي تستطيع أن تضعه في فمك؟ فالنمل صغير جدًا وفمك كبير جدًا.
- لماذا عليّ فعل ذلك؟
- ما الذي أصاب ذيلك؟
وتلمّح هذه السلوكيات إلى أن الإنسان يتفوّق "بذكائه-عقله" على الحيوان.
تشكل النار في كتاب كيبلينغ وجميع الأفلام المصوّرة والمسلسل الكرتونيّ، نقطة صراع جوهريّة بين الإنسان والادغال، فالنار هي مصدر التهديد الذي اخترعه الإنسان ليتغلّب على قوى الحيوان المتمثلة بالأسنان الحادّة والمخالب والسرعة في الجري والحجم الجسديّ الضخم، مقابل الإنسان الأعزل الذي لا يمكّنه ذكاؤه أحيانًا من الحفاظ على سلامته الشخصيّة في حال اعتراض الحيوانات المفترسة له.
مع اكتشاف النار أصبح الإنسان هو الاكثر تحكّمًا، فبمجرد إشعاله عود ثقاب يمكن أن ينهي غابة بأكملها، ويقتل أضخم وأشرس الحيوانات، فقد منحته هذه السيطرة إمكانية إتلاف جمال الأدغال واصطياد حيواناتها.
"الزهرة الحمراء" - لوحة جو ويرثلي
مع ذلك تتناقض قيمة النار في الفيلميْن؛ فالنار الّتي أبعدت ماوكلي نيتفلكس عن الأدغال في محاولته للدفاع عن "أكيلا" كونه قد استخدمها ضدّ الذئاب، كانت مصدر قوّة وسلاحًا لماوكلي ديزني، التي ساعدته على قتل عدوّه وعدو الحيوانات، النمر شاريخان، وكان استخدام النار بموافقة من الحيوانات رغم الحرائق التي أحدثتها في الغابة، ومع ذلك تصوّر النار في الحالتين بأنها مصدر قوّة الإنسان وسلاحه الفتّاك ضد الحيوان والطبيعة.
رغم أن ماوكلي يتغلّب على شاريخان في كلا الفيلمين، إلا أنّ كلّ نهاية ترمز لفكرة مختلفة عن الأخرى، فيختتم فيلم ديزني بعبارة "توحّدت الحيوانات لأول مرّة في الحياة" أي أنه مع موت وزوال شاريخان الذي اشتركت فيه جميع الحيوانات بمساعدة ماوكلي، تمّ توحيد كل من في الغابة، بدلالة أن القضاء على الشّر يتطلّب توحيد قوى الخير الكثيرة، ويعود ماوكلي للسكن والعيش داخل الغابة مع صديقيه باغيرا وبالو.
أمّا في فيلم نيتفلكس فينتهي بعبارة "بعد رحيل النمر والصياد أومض المستقبل من الظلام الى النور." بدلالة على الأدغال ترفض تعدّي الإنسان على الحيوان، وتعدي الحيوان على الإنسان أيضًا، وأنّ احترام الكائنات ومنحها الحق في العيش والوجود هو ما يجعل العالم مكانًا أفضل.
استناد كلّ من شركة والت ديزني وشركة نيتفلكس على القصة الأصلية لماوكلي لم تنتج بالضرورة أهدافًا موحّدة. كل صراع أنتج قصّة مستقلة ومختلفة، رغم وجود العناصر الأساسية كالمكان والشخصيات وملاحقة الحيوان للإنسان وتعدّي الإنسان على الغاب. وقد يكون فيلم ديزني هو الأكثر حيوية للأطفال، لوجود الأغاني والمغامرات وشخصيّة مرحة فعّالة تتنقل وتفكر وتحارب وتتدرب وتنتصر في النهاية بمساندة الجميع لها، لكنّ صراع نيتفلكس أيضًا يعتبر قضيّة اجتماعية مهمّة للأطفال في مرحلة متقدّمة من الطفولة، مرحلة البحث عن الذات والوعي للقدرات والاختلافات والتفاوت بيننا وبين الآخر في مجالات متعدّدة، لذا يمكننا استيعاب كلا الفيلمين، بصفتهما يقدمان مضمونًا مختلفًا للطفل، وتوجيه الاطفال في كلّ مرحلة إلى الفيلم المناسب.
"حي بن يقظان" قصّة أو رواية كتبها الأديب والفيلسوف الأندلسيّ ابن طفيل، تحكي القصّة عن فتى يدعى "حي" تختلف القصص حول ولادته، قصّة من القصص تقول بأنه طفل لشقيقة ملك في جزر الهند ووالده قريب والدته ويدعى يقظان، تزوّجا سرًا، وعندما وضعت الأم تركت الطفل في تابوت وألقته في البحر خوفًا من الملك، وعندما بدأ الطفل بالبكاء عثرت عليه ظبية وقامت بتربيته، وحين ماتت حزن عليها جدًا وحاول معرفة سبب موتها بواسطة تشريحها، وهكذا بدأ يكتشف كل الأشياء من حوله دون أن يعلّمه البشر أي شيء. في عمر الخمسين يلتقي "حيّ" بأول بشريّ، ثم يحاول تعليم البشر ما تعلّمه في خمسين سنة من التأمل والاكتشاف، بعدها يعود إلى جزيرة الوقواق للتفرّغ لعبادة الله.
تتشابه قصّة "حي بن يقظان" مع قصّة ماوكلي بجوانب كثيرة، بداية بترك طفل يعيش بين الحيوانات بعيدًا عن البشر، وتربيّة الحيوانات لهما وحديثهما بلغة الحيوان، وأن يكبرا على الأسئلة الفطرية فيسألان طوال الوقت عن الأمور التي تحدث حولهما، اكتشافهما مع تقدم الوقت بأنّ جسديهما يختلفان عن أجساد الحيوانات، يلتقي حيّ بكائن بشري كما يلتقي ماوكلي بقرية البشر، ويكتشفان النار وطريقة اشعالها، وإظهار تفوّق الإنسان على الحيوان فالحيوان لا يمكنه إضافة شيء أو السعي إلى الكمال، تكون رحلة "حي" أوسع بكثير من رحلة ماوكلي حيث يكتشف كلّ شيء في العالم من جسم الإنسان الى النار والكواكب والفضاء انتهاءً بالإيمان بوجود الله وتكريس الوقت لعبادته.
- التاريخ: 16/10/2019
- كلمات مفتاحية: أفلام