اخترنا لك
أين منقاري: هل يكون النقص عيبا؟
اخترنا لك: كتب
في سياق ريفي جميل جدًا تأخذنا الكاتبة بنصّها ورسوماتها الى الريف الفلسطيني بطيوره المتعددة وطبيعته الجميلة. تبدأ الكاتبة قصتها هذه بعرض لبعض الطيور الموجودة في فلسطين مع أسمائها، ما يعطي القصة بعدا معرفيا جميلا يكسب الطفل معلومات حول طبيعة بلاده وأنواع وأسماء الطيور الموجودة فيها. بعد هذه المقدمة الجميلة والثرية تبدأ القصة بلوحة يظهر فيها العصفور نائما على الغصن في ليلة ملأت النجوم سماءها، وفي جانب اللوحة نلاحظ حصانا يسترق النظر إليه بترقب. تشكل هذه اللوحة مفتاحا للوحات القصة الأخيرة والتي من الممكن أن نعتبرها تسلسلا للأحداث كنتيجة لهذه اللوحة.
في الصباح يستيقظ العصفور ليكتشف أنّ منقاره قد اختفى، فيبدأ بالبحث عنه، وهنا يتم وصف الطبيعة الجميلة وهي البيئة التي تحدث فيها أحداث قصتنا، تتحدث عن بحثه فوق الشجرة وعند النهر وعلى خرطوم الفيل وداخل فم التمساح وفي قبعة الفلاح. ومع أن بعض الحيوانات لا توجد في طبيعة فلسطين كالفيل، الا أننا نستطيع أن نعطي القصة بعدا أكبر من حصره في بقعة جغرافية معينة.
يتعب العصفور في البحث عن منقاره لدرجة أصبح يرى كل الأشياء من دونه ناقصة وغير مكتملة، نرى ذلك في القصة في لوحة جميلة تبيّن لنا كيف يرى العصفور الأشياء بعينه، ولكن مع الوقت اعتادت الطيور واعتاد العصفور شكله الجديد حتى أنه تساءل ان كان يملك في الأصل منقارًا أم لا، إلى أن ظهرت الشحرورة وساعدته في صنع منقار ملوّن جديد من تصميمه وتنفيذه. وقد زينه بأبهى الألوان والزخرفات، حتى صار سعيدا وفخورا به.
إلى ان التقى يوما بالحصان الذي ظهر في اللوحة الأولى من القصة. وقد وضع الحصان على رأسه قرنا يشبه منقار أحدهم. تنتهي القصة ببعض اللوحات المعبرة الخالية من الكلمات لتترك للأطفال المجال لإنهاء القصة في خيالهم، من دون أن تملي عليهم تفسيرا لما قد حدث. هل تمت سرقة منقاره من قبل الحصان وهو نائم ليلا؟ أم أنه قام بإعطاء الحصان منقاره؟ هذا ما لم تفصح عنه الكاتبة لتترك للأطفال حرية الخيال ورواية القصة من وجهة نظرهم. مع أنّ الحصان يملك فوق رأسه قرنا يشبه منقار العصفور والذي من الممكن أن يكون منقاره ومن الممكن أن لا يكون، إلا أنّ كل واحد منهما يمضي في طريقه مطمئنا وسعيدا وغير آبه بما يمتلكه الاخر.
تحمل هذه القصة الكثير من الدلالات التي يمكن تفسيرها وتناولها في عدة سياقات. أعتقد أن الرسالة الواضحة في القصة هي قدرة العصفور على تجاوز العقبة المتمثلة بخسارة جزء مهم من جسده والذي يعبر عن هويته ألا وهو منقاره؛ أتحدث هنا من وجهة نظري كبالغة تطالع قصّة للأطفال، وأعتقد أن ما يتم تأويله في كتابتي مختلف جدا عما دار في ذهن أطفالي عندما قرأت لهم القصة كما سأوضح لاحقا في هذه المقالة.
يتغلب العصفور على عقبة خسارته لمنقاره واختلاف شكله، في إحدى لوحات القصة والتي أحببتها بدوري ولفتت كذلك نظر أطفالي، إذ انهما أطالا النظر فيها متمعنين في تفاصيلها أثناء سردنا للقصة، يرى العصفور بعد خسارته لمنقاره كل الأشياء ناقصة: سيارة بلا عجل، طفل بلا رجل، قطة بلا ذنب، طفل آخر فقد بعض أسنانه، رجل بعين واحدة والمزيد من الأشياء التي اعتدنا رؤيتها بصورتها الكاملة تتمثل لنا في هذه اللوحة بنقصان لم نعهده من قبل. حيث تستفز خيال الطفل وتحفزه للتفكير في شكل الأشياء فيما لو لم تكن بذلك الكمال المعهود، أعتقد أنّ هذه اللوحة من اللوحات المفتاحية المهمة في إيصال رسالة القصة والتي يطغى عليها بنظري الحديث حول الكمال والرضى وتقبل الآخرين وتقبل الذات كذلك، حيث يؤكد لنا تفاعل العصفور مع أمر خسارته لمنقاره ذلك، فهو يتقبل لاحقا شكله ويفرح بمنقاره الجديد الملون الذي ساعدته الشحرورة المغرورة في صنعه واختار هو ألوانه.
ربما يمكننا أن نغير من طبيعتنا لنكون بطبيعة أخرى نختارها نحن ونشكلها لنخلق بذلك نمطا جديدا من تقبل الذات والتوافق والسلام النفسي الداخلي. يبني العصفور من حطام كوز صنوبر صغير منقارًا جديدًا يصبح علامة مميزة له بألوانه الغريبة التي لم تعهدها مجموعته من قبل. كأم لثلاثة أطفال، تدعم هذه القصة ما أحاول غرسه في أطفالي حول التميز وقبول الذات بكل ما تحمله من صفات مختلفة عن الآخرين، حتى وان لم تكن مقبولة على نطاق المجموعة في البداية إلّا أنّ تعاملنا مع ميزتنا بثقة سيجعلها في النهاية ميزة مقبولة جدًّا حتى وإن كانت غريبة وغير مألوفة.
سألت هذا السؤال لأطفالي مشيرة الى اللوحة الأولى التي ابتدأت الكاتبة فيها قصتها. كان الحصان يتأمّل العصفور في الليلة التي فقد فيها منقاره، أحدهم قال إنّ الحصان هو الذي سرق المنقار بلا شك، لكن الآخر شكك في ذلك قائلا إنّه من الممكن أن يكون العصفور قد أعطاه إياه ونسي في الصباح، ومن الممكن كذلك أن يكون قد سقط منه ولم ينتبه العصفور لذلك ووجده الحصان فأخذه. من أكثر ما يمكن أن يحفز الأطفال على الابداع هو النهايات المفتوحة كتلك التي في قصتنا هذه. لا يتم اتهام أيّ طرف بسرقة منقار العصفور الصغير، مع أننا في النهاية نرى أن الحصان يضعه فوق رأسه في إشارة ربما تكون واضحة لكونه الفاعل.
من الممكن هنا أن نتناول القصة بمفهوم فلسفيّ حول أحقّيّة كلّ طرف منهما بالمنقار وحول طبيعتنا التي من الممكن أن تكون "ناقصة" بنظرنا، وحول الحظ الذي يجردنا من بعض ما نعتقد أنه أساسيّ لا غنى عنه ليمنحه للاخرين بصورة زائدة عن الحاجة. كلّ تلك التساؤلات من الممكن طرحها بصورة معمّقة أكثر مع الأطفال وأعتقد أنها تنسجم مع طبيعتهم المتسائلة دومًا والباحثة عن الإجابات قبل أن نقوم نحن الكبار بوضعها في أطر مُمّلة لإجابات ربما لم تكن في حقيقتها كما نمليها نحن الكبار عليهم.
أين منقاري؟
نص ورسومات يارا بامية
اصدار ورشة فلسطين للكتابة
- التاريخ: 26/10/2019
- كلمات مفتاحية: كتب