اخترنا لك
فيلم إنكانتو: حول معمارية الفقدان ورمزية الألوان
اخترنا لك: أفلام
يحكي الفيلم قصة عائلة مادريجال الكولومبية، التي تهرب من هجوم عنيف على قريتها. خلال هروب العائلة، يضحّي الوالد بنفسه من أجل توفير الأمان لعائلته. تضحية الوالد تحفّز معجزة شمعة سحرية تقدّم لأفراد العائلة الباقين قدرات سحرية خارقة مثل التحكم في الطقس، ومحادثة الحيوانات، وتنمية الأزهار، والشفاء بالطعام، وتغيير الشكل، والسمع الفائق، ورؤية المستقبل وطبعًا القدرة على حمل الأثقال. بواسطة هذه القوى والقدرات الخارقة، تتمكن العائلة من الصمود ومن بناء بلدة جديدة لهم ولباقي أبناء القرية المهجّرة. تبني العائلة لنفسها بواسطة طاقتها الخارقة بيتًا سحريًّا حيًّا، لا كاسيتا، يوفّر للعائلة الأمان والطمأنينة. عندما يصل أبناء عائلة مادريجال إلى الخامسة من عمرهم، تنظّم العائلة احتفالية كبيرة، فيها تهدي الشمعة السحرية لفرد العائلة الصغير قدراته الخارقة. تشمل عائلة مادريجال أم العائلة، أبوئيلا (الجدّة) ألما، ابنتيها وزوجيهما، ولكل ابنة 3 أبناء. أي أنّ الفيلم يشمل أحد عشر شخصية في مركزه. للجدّة أبوئيلا ألما ثمة ابن آخر، مُختفٍ، نتعرّف إلى قصته خلال الفيلم، اسمه برونو.
يتمحور الفيلم حول شخصية ميرابِل، ابنة عائلة مادريجال، التي لم تحصل على قدرات سحرية من الشمعة في يوم ميلادها الخامس. لكونها عاجزة عن السّحر، تبدأ العائلة بالتحفّظ منها، ما يرافق تزعزعات وتشققات في بيت العائلة السحريّ. وسرعان ما يبدأ باقي أفراد العائلة كذلك بالشعور بضعف السحر وبداية تلاشيه، ما يزرع في قلوبهم بذرة الشكّ تجاه ميرابِل. هكذا، خائفة، ومهدّدة من أفراد عائلتها، تبدأ ميرابِل بمحاولة فهم سرّ ضعف السّحر، وان كان لها أيّ يد في ذلك.
فيلم إنكانتو غني جدًا بالتعدديّة العرقيّة والثقافيّة، إلى جانب تناغم الرمزية والاستعارة والتناصّ مع زهو ألوانه وسحر موسيقاه. في هذه المادة المقتضبة سأقدّم قراءة أوليّة في بعض هذه الميّزات.
تجري معظم أحداث الفيلم في داخل الكاسيتا، وهو بيت العائلة السحريّ، ولذلك فإنّ فهم هندسته وقسمة مبناه العمرانية، قد تكشف لنا الكثير عن مبنى العائلة، وكذلك عن مبنى الفيلم. طبعًا هذا إلى جانب رمزيته الشديدة لنفسية العائلة وأفرادها. كل غرفة من غرف أفراد العائلة هي مجرد باب لعالم كامل وواسع يأخذنا إلى أعمق أعماق طبقات نفس الشخصيات. في قراءة فرويديانية للفيلم، نجد أنّ الغرف المختلفة ترمز بوضوح للاوعي الشخصيّات، ولهذا فإنّ زيارة غرفها تُمكّننا من فهم نفسيتها بشكل أعمق.
يشمل الكاسيتا طابقين أساسيين، وفي مركزه باحة مفتوحة السقف، كما في العمران السوري المألوف لنا. فوق الطابقين الأساسيين، توجد غرفة كبيرة، مرتفعة عن باقي أقسام البيت، ولها شرفة تُطلّ على ساحة البيت. على الشرفة، تحفظ العائلة الشمعة السِّحريّة التي تطلّ على كافة المنزل. هذه هي غرفة الجدة أبوئيلا ألما، وهي الشخصية المركزية في العائلة، إذ يحترمها كل أفراد العائلة، ويتعاملون معها على أنها مديرة مشروع العائلة للدفاع عن القرية ومساعدة أفرادها. يتعامل جميع أفراد القرية مع الجدّة أبوئيلا ألما باحترام ممزوج بالخوف والرهبة، كونها هي التي أنقذت القرية من الاحتلال في بداية الفيلم، وهي التي قادت الجميع إلى برِّ الأمان، بعد تضحية والد العائلة (الذي لم يعايش تحوّله إلى جدّ، قبل تضحيته).
في الطابق الأول للكاسيتا نجد غرفَ الحيّز العام للبيت، المتمثلة في المطبخ وغرفة طعام العائلة، فيها يلتقي أفراد العائلة وتُدار أمورهم الشخصيّة والعائليّة، بينما نجد في الطابق الثاني غرف النوم الفردية والشخصية لكلّ فرد في عائلة مادريجال. على مدخل كلّ غرفة نوم يرسم الكاسيتا صورة صاحب الغرفة مع خلفية مزخرفة تعتمد على ميّزات قوته السحريّة. ميرابِل، كونها الوحيدة التي لم تحصل على قوى سحريّة، تبقى في غرفة الأطفال الصغار، ويرمز بقاؤها في غرفة الأطفال، إلى كونها لم تبلور هوية واضحة في نظر الكاسيتا، وكذلك في نظر أفراد عائلتها؛ فالجميع ما زال يتعامل معها وكأنّها طفلة. تزداد حدّة صراع ميرابِل الهويّاتي عندما يمّر ابن خالتها الصغير، أنتونيو، بمراسم بلوغ سنّ الرشد، ويحصل على غرفة خاصّة في الكاسيتا، وهي تبقى في غرفة الأطفال.
في نهاية الممرّ، في الطابق الثاني، هناك غرفة واحدة مقفلة، يملأ الغبار الطريق المؤدّي إليها. هذه الغرفة، هي غرفة خال ميرابِل، الخال برونو المختفي. في الفيلم أغنية جميلة جدًا عنوانها "نحن لا نتكلّم عن برونو"، فيها تشارك العائلة بأنّ قصّة اختفاء برونو هي قصّة مؤلمة للعائلة، فتحاول طيلة الوقت تجاهلها وتجنّب ذكرها. برونو في الفيلم هو شخصيّة غامضة طيلة الوقت، إذ أنّ القصص حوله تحكي أنّ قدراته في رؤية المستقبل هي أكبر خطر على العائلة، وهي التي أدت لتجنّبه وجنونه، حتى هرب من البيت واختفى فجأة.
في فيلم ديزني السابق، لوقا Luca، ذكرت الجملة "سلينسيو برونو" (اصمت يا برنو بالإيطالية) عدة مرات على مدار الفيلم. في لوقا، تمثّل الجملة محاولة ايجاد الشجاعة لفعل الكثير من النشاطات الخطرة بين الصديقيْن لوقا وألبرتو. في أحد المشاهد الأروع في الفيلم، يعبّر لوقا عن خوفه من سياقة دراجة ناريّة على منحدر خطر، فيدور بين الأصدقاء الحوار التالي:
ألبرتو: أعرف بالضبط ما هي مشكلتك. لديك برونو في رأسك.
لوقا: برونو؟
ألبرتو: نعم. وأنا أواجهه أحيانا. "ألبرتو لا تفعل ذلك"، "ألبرتو سوف يقتلك هذا"، "ألبرتو لا تضع هذا في فمك". لوقا، الأمر بسيط. لا تستمع لبرونو.
لوقا: لماذا اسمه برونو؟
ألبرتو: لا يهمني، وهذا غير مهم. يمكنك أن تسميها بأيّ اسم تريد. ولكن عليك أن تسكته! ردّدْ معي "سلينسيو برونو".
لوقا: سيلينسيو برونو.
ألبرتو: بصوت أعلى. سيلينسيو برونو.
لوقا وألبرتو: سيلينسيو برونو.
ألبرتو: أما زلت تسمعه؟
لوقا: لا. أسمعك وحدك.
ألبرتو: ممتاز. هيا اقفزْ معي على الدراجة الهوائية!
هذه المحادثة الغريبة والسريالية بين لوقا وألبرتو، تضع حجرَ أساس هامًّا في فيلم لوقا، فيه يبدأ البطل بالتغلب على مخاوفه من خلال اسكات الأصوات في رأسه، بعبارة اصمت يا برونو. بينما في فيلم إنكانتو، فالشخصيات تريد أن تواصل حياتها من دون ذكر برونو أساسًا، طيلة الفيلم. طبعًا، ليس هناك حاجة لمشاهدة لوقا من أجل فهم إنكانتو، ولكن هذا السياق يزيد قصة برونو غموضًا، بالذات بعدما نفهم أنّ كافة أبناء القرية يخافون التعامل مع برونو لأنه يرى المستقبل ويتنبّأ لهم به. لن أحرق لكم أحداث إنكانتو، ولكن هذا السياق بالضبط يمثّل أحد أبرز أهداف الفيلم- وهو محاولة فهم نبوءات برونو.
طبعا الفيلم يشمل نقاط تناصّ أخرى طريفة وخفيفة، كما أنّ الشخصيات تواصل اقتباس ملكة الثلج إلزا في مقولة "ليت إت غو" (اتركي الأمر). وشخصية أخرى بالفيلم، صاحبة قدرة حمل الأثقال، تذكر هرقل (بطل آخر من أبطال ديزني، إضافة لكونه بطلًا إغريقيًّا) وكيف أنّه لا يتراجع أبدًا عن معركة من أجل مساعدة الناس.
بالإضافة إلى هذا التناصّ، فهناك الكثير من المحاكاة لعالم العادات والتقاليد الكولومبيّة، مثل بعض النكات التي تسخر من عادة شرب القهوة عند أطفال كولومبيا، وهي عادة معروفة ومستهجَنة في السنوات الأخيرة. هذا بالإضافة إلى الملابس التقليدية والتطريز الذي نشاهده على ملابس الشخصيّات، وخاصة على ملابس ميرابِل. بالمناسبة، ملابس الشخصيّات، كما هو واضح في الصور التشويقية للفيلم، تقسم الشخصيات لعائلتين: عائلة ترتدي ألوانًا تميل إلى الأصفر، وعائلة تميل إلى الأزرق، ولكن كلتا العائلتين تنغمسان معًا لتبني عائلة مادريجال الموسّعة.
الفيلم يحكي قصة عائلة كولومبية، وأحد أبرز القيم التي يرتكز إليها هي قيمة أهمية ترابط العائلة. يذكّرنا بعض الشيء بقيَم فيلم كوكو ونقاشه حول العائلة ومركزيتها. في إنكانتو، تتشقّق معمارية الكاسيتا كلما تفكّكت العائلة، وكلما فُقدت الثقة تجاه أحد أفرادها. الثقة بين أفراد العائلة هي عامود أساس الكاسيتا في إنكانتو، وهو أمر يذكّرنا به الفيلم في كافّة مشاهده. الغيرة بين الأخوة، وإلقاء اللوم وإخفاء الأسرار العائليّة، كلها صفات قابلة لتفكيك البيت وتهديد عمرانه وبنيانه. هذا ما يرمز إليه البيت في الفيلم، وغرف الشخصيّات ومبناها.
هذه الرسائل القيمية العائلية في الفيلم تحوّله لفيلم عائليّ غنيّ ومُثرٍ جدًا لكافة أعضاء العائلة. كلّ العائلات الموسّعة مركّبة ومعقدة، ولكن هل في جميعها مكان لبرونو أو لميرابِل؟ هل توقعات الأهالي من أطفالهم وأحفادهم يمكنها أن تبني شخصياتهم بطريقة أفضل، أم أنها تزيد الثقل على أكتافهم ليختاروا بالنهاية الابتعاد عن العائلة؟ هل هناك مكان للغيرة في داخل العائلة، وان كان فكيف التعامل معها؟ هل هناك مكان للمسؤولية المطلقة على أحد الأفراد على حساب حياته الشخصيّة؟ وهل أصلًا مصطلح الحياة الشخصيّة شرعيّ عند الحديث عن العائلة؟
كلها أسئلة عميقة ومُركّبة ومُعقّدة، يحاول فيلم إنكانتو التعامل معها على أكمل وجه. ألوان الفيلم، وموسيقاه، وأزياؤه، وشخصياته، وحبكته وكل ما فيه، تتجنّد لإنتاج تجربة مشاهدة سينمائية رائعة تستحقّ التركيز والحوار والنقاش مع كافة أفراد العائلة.
الفيلم مناسب لأجيال 5 سنوات وما فوق، ومتوفر حاليًا (نهاية عام 2021 وبداية 2022)، في دور العرض.
الأخت القوية والأخت الجميلة: قراءة أدلريانية في فيلم انكانتو
- التاريخ: 12/12/2021
- كلمات مفتاحية: أفلام