حكايا

الأخت القوية والأخت الجميلة: قراءة أدلريانية في فيلم انكانتو


الأخت القوية والأخت الجميلة: قراءة أدلريانية في فيلم انكانتو
قراءة أدلريانية في الشخصيات، هي في الواقع درس إرشاديّ للأهالي، لتنبيههم لإسقاطات توقعاتهم المفرطة من أطفالهم
لؤي وتد

قراءة في شخصيّتيّ فيلم انكانتو (2020)، لويزا وايزابيلا، أختيّ البطلة ميرابل، تكشف لنا إحدى أعظم رسائل الفيلم في التربية والتعامل مع الأطفال. من خلال عرض الشخصيّتين وصقلهما خلال الفيلم، يمكن للمشاهد الانكشاف على توجهيْن تربوييْن في التربية وفي مكانة الفرد في العائلة. من خلال هاتين الشخصيتين يمكننا كذلك فهم المسؤوليات المختلفة التي يواجهها الأخوة تجاه أخواتهم. كما ذكرنا في مادة سابقة، فيلم انكانتو يعرض شخصيات تحمل قوى خارقة، وكلّ منها تتميز بقدرات مختلفة.
لويزا، الأخت البكر، تتميّز بقوتها الخارقة التي تمكّنها من حمل أثقال ومن رفع كلّ شيء. بينما إيزابيلا، الأخت الوسطى، تتميّز بقدرتها على إنبات ورود ونباتات مختلفة. أمّا ميرابل، الأخت الأصغر في العائلة، فلا تتمكّن من الحصول على أيّ قوة خارقة، وتبقى من دون قوى طيلة الفيلم.

بعد بداية تزعزع الكاسيتا، منزل العائلة، وتلاشي القوى الخارقة لدى الشخصيات، تبدأ ميرابل في البحث عن سرّ هذا التلاشي، الذي يؤدّي كذلك لتشقق وتزعزع في مبنى الكاسيتا. في البداية، تعتقد ميرابل أنّ سبب تلاشي القوى ينبع من "الأثقال" النفسيّة والعبء الذي تحمله لويزا، حيث تراها ترمش في عينها كلما حملت ثقلًا كبيرًا، ومن هنا تبدأ ميرابل بتحليل الثقل كثقل نفسانيّ. في مرحلة متقدّمة أكثر في الفيلم، تقتنع ميرابل بأنّ هذا مجرد عارض من عوارض تلاشي السحر، فتطوّر تخمينًا بأنّ التلاشي ينبع من علاقتها المتضعضعة مع أختها ايزابيلا، التي تبلورت حول محور غيرة أساسية وبدائية بين الأختين. هنا تبدأ ميرابل بإسقاط مفهوم العائلة السليمة على سلامة المنزل، وأنّه إذا عالجنا العلاقات الأسرية، فسوف ننقذ المنزل من التشقق.
تكمن روعة الفيلم بنظري أيضًا في صقل الشخصيات وبلورتها. فمثلا، عندما ننظر إلى الأختيْن لويزا وإيزابيلا نرى أنّ لكلّ واحدة منهما أغنية تغنيها لميرابل، وتشرح لها عن حجارة أساس نفسيتها ونضالها النفسانيّ في داخل الأسرة. قراءة كلمات الأغنيتين تعبّر بشكل واضح عمّا أقصده في تحليل أدوار البطلتين:

لويزا – عبء العائلة

في بداية الفيلم، تغنّي لويزا أغنية "تحت السطح" [Under the Surface] فيها تقول:
"أنا القوية، لست متوترة، أنا قوية كقشرة الأرض، أحرك الجبال وأحرك الكنائس، وأتوهج لأنني أعرف قيمتي، لا أسأل عن صعوبة العمل، لدي قشرة خشنة، غير قابلة للتدمير. أجد الألماس والبلاتين وأسحقهما، أتعامل مع ما أحصل عليه، وأحطم المطلوب تحطيمه.
ولكن! تحت السطح، أشعر بالتوتر كمن يمشي على حبل مشدود في السيرك. هل كان يقول هرقل: "لا أريد محاربة سيربيروس"؟ تحت السطح، أنا متأكدة من أنني عديمة الجدوى، ان لم أتمكن من المساعدة. عيب أو تشقق، هذه القشة في المكدس، هذه التي تكسر ظهر البعير. ماذا قد يكسر ظهر البعير؟"
وهكذا، منذ بداية الأغنية، تعبّر لنا لويزا عن الضغط النفساني الذي تواجهه، حيث ترى نفسها، كأخت بكر تحمل القوة السحرية المتمثّلة بالطاقة الخارقة، مسؤولة بشكل حصري عن حمل أعباء العائلة، ولكن "تحت السطح"، أي تحت قشرة خشونتها وقوتها الخارقة، فهي تشعر بتوتر، وتشعر بأنها عديمة الجدوى. هذا بالضبط ما يحدث مع الأخوة الكبار عندما يشعرون بكم الثقة والمسؤولية الذي يقدمه البالغون لهم. لويزا تقول بوضوح: "أنا متأكدة من أنني عديمة الجدوى، ان لم أتمكن من المساعدة". أي أن نظرتها إلى نفسها أصبحت تتمحور حول قدرتها على أن تكون قوية وتحمل أعباء العائلة. بما معناه، أن قوتها الخارقة، وكونها الابنة البكر، أصبح يمثّلها بشكل حصري، على حساب شخصيتها. لويزا تعبر عن هذا باقتباس البالغين قائلة "أعط هذا لأختك، انها أختك الأكبر، أعطها كل الأحمال الثقيلة التي لا نستطيع حملها"، ثم تقول "أعط هذا لأختك، انها أختك الأكبر، أعطها كل الأحمال الثقيلة لنرى ان كانت تستطيع التحمل أكثر". وفي النهاية تسأل: "من أكون إذا لم أستطع حمل كل شيء؟ ماذا لو تعثّرت؟"

مواصلة حمل المسؤولية تسحق كتفيْ لويزا، بل وتضيف من قلقها النفسانيّ، فتقول "تحت السطح، أخبئ أعصابي، ويزداد الأمر سوءًا، أخشى أن شيئًا ما سيؤذينا". وتسأل: "لو كان بإمكاني التخلص من عبء التوقعات التي تسحقني، فهل سيحرّر ذلك بعض المساحة للفرح أو الاسترخاء أو أيّ متعة بسيطة؟" وتنهي الأغنية بقولها: "لا مكان للتشقق. لا مكان للاستراحات. لا مكان للأخطاء. وكل هذا، دون ضغط!". هذا التهكم المأساوي في كلماتها يحوّلها إلى شخصية تراجيدية تم حسم مصيرها بحصولها على القوة الخارقة، كرمزية استعارية لمكانها كبكر في العائلة.

إيزابيلا – توقعات العائلة

أما عن إيزابيلا، فأغنيتها تأتي في مرحلة متقدمة أكثر من الفيلم، عندما تكتشف ميرابل أنّ الحساسية ومشاعر الغيرة بينها وبين أختها إيزابيلا، قد تكون هي ما يسبب التشققات في الكاسيتا. بعد أن تتوجه إلى أختها وتناقشها الموضوع، تكتشف أن إيزابيلا، بالرغم من صورة الابنة المثالية الجميلة التي تعيش حياة يتمناها الجميع، ليست راضية هي الأخرى عن واقع حياتها، وأنها تواجه الكثير من الحزن واليأس لأنّ حياتها تعتمد على دحضها لمشاعرها وأفكارها الشخصية. إيزابيلا تعبّر عن محاولة تمثيل دور الفتاة والابنة المثالية لكي تحقق كافة التوقعات منها، ولكن هذا يأتي على حسابها، فهي لا تعرف حدود قدراتها، وليس لديها آراء شخصية. محاولة امتثالها لقوانين المثالية المتوقعة منها، أدّت لمحو شخصيتها.

في أغنيتها، تعبّر إيزابيلا عن كل هذا بشكل واضح جدًا، فاسم الأغنية هو "ماذا أيضًا يمكنني أن أعمل؟" (What Else Can I Do?)، بمفهوم، أي أشياء يمكننا أن أفعلها عندما أتحرر من قيود التوقعات؟ تبدأ الأغنية بفهم إيزابيلا أنه بامكانها صنع الصبار أيضًا وليس فقط الأزهار، فتقول: "لقد صنعت شيئًا غير متوقع، شيء حادّ، شيء جديد، إنه ليس متماثلًا أو مثاليًا، لكنه جميل وهو ملكي. ماذا أيضًا يمكنني أن أعمل؟". وتواصل استيعابها أنه بإمكانها التحرّر من التوقعات الحازمة بقولها: "ماذا يمكنني أن أفعل إذا أنتجت ما كنت أشعر به في الوقت الحالي؟ ماذا يمكنني أن أفعل إذا فهمت أنه ليس بالضرورة أن يكون مثاليًا؟ عليه فقط أن يكون؟ وهل يسمحون لي بأن أكون؟"
في الواقع، أغنية إيزابيلا، تعرض لنا طفلًا أدرك أنّ بإمكانه التحرر من قوانين المجتمع، وأنه لديه حرية الاختيار، وأنّ بإمكانه خذل توقعات والديه من أجل تحقيق مشاعره. هذا الاستيعاب الذي تصل إليه إيزابيلا، يبسط الابتسامة على وجهها لأول مرة في الفيلم، فنراها تضحك بصوت عالٍ، ثم تلطّخ ملابسها التي كانت أنيقة ومرتبة حتى هذا المشهد. تحرّر عقل إيزابيلا يُحرر جسدها ونفسها، ونتيجة لهذا نجدها تتمكن من صنع عشرات الأنواع الجديدة من الصبار المخلوط بالورود والنباتات المختلفة فتصبح رمزًا للفن والابداع.

نظرية أدلر لترتيب الولادة في العائلة

هذه الفروقات الذي نراها بين الأخوات أحيانا، بالرغم من أنهن بلغنَ في المنزل ذاته، في البيئة ذاتها، وعند الأهل ذاتهم، هو أحد أسئلة فلسفة النفس التربوية التي تطورّت في القرن العشرين. عالم النفس ألفرد أدلر، نصب هذا السؤال في نظريته النفسية، مدعيًا أن الخلل والمفارقة يكمنان أصلًا في السؤال، لأن الأخوة لا يكبرون حقًا في البيت ذاته! فالبيت يختلف بين ولادة الطفل الأول وولادة الطفل الثاني. كل طفل منهما يولد إلى بيت مختلف، وبناءً على هذا فشخصيته تتبلور بطريقة مختلفة. وفقًا لنظرية أدلر، عند ولادة الطفل فإنّه يبحث عن مكانه في البيت، وهذا المكان يتبلور نسبة لترتيبه في العائلة.
الابن الأكبر مثلا، يولد لبيت خالٍ من الأطفال، ولأبوين شابيّن عادةً، ولذلك فبطبيعة الحالة يتمتع بحصرية الانتباه منهما. نتيجة لهذا فهو يحصل كذلك على الكثير من حرية الاختيار المنخرطة بالمسؤولية. أدلر يدّعي أن الابن الأكبر يكون مرنًا أكثر في التفكير وقادرًا على تحصيل الاستقرار والاستقلال بسرعة. وبسبب إقامته المتواصلة مع والديه في عالم بالغ، غالبًا ما يكون الابن الأكبر طموحًا ويصل إلى مناصب عالية بواسطة قدرته على الاندماج والتأقلم السريع، كونه ترعرع في بيئة كان وحيدًا فيها. حتى عند ولادة المزيد من الأطفال، لا يزال الابن الأكبر هو صاحب المسؤولية، فهو دليلهم للعالم الجديد، وعليه تقع مسؤولية إعالة الأهل في الاعتناء بإخوته الصغار. هذه الميزة تولّد -تبعًا لأدلر- قدرة ومحفّزًا للاهتمام بالآخرين والاعتناء بهم. ووفقًا لأدلر، يميل الأطفال الأوائل في الأسرة إلى أن يكونوا مسؤولين وإنجازيين، ولكنهم قلقون أيضًا (لأن الوالدين كانوا أكثر قلقًا) ومتشائمين بشأن المستقبل (ربما بسبب الإحساس بأن الأمور بدأت بشكل جيد ثم تدهورت، بعد إطاحتهم من عرش الابن الوحيد).
وطبعًا هذا بالضبط ما نراه في شخصية لويزا، التي تشعر بأنها مسؤولة بشكل حصري عن رفاهية العائلة ورفاهية أختيها، وهي تعبّر عن هذا في كل كلمة في أغنيتها.

الابن الثاني أو الأوسط، تبعًا لنظرية أدلر، سيترعرع دائمًا كذلك الطفل الآخر الذي تتم مقارنته بشخص سبق له أن فعل كل شيء من قبله، ولهذا السبب سيشعر بأنه ينافس أخاه الأكبر ويحاول التفوّق عليه طيلة الوقت، ما سيخلق شخصًا منافسًا وبارعًا في المنافسة. دافع التنافس سيجعله طفلاً نشيطًا وفعالًا، ولكنه أيضًا يشعر بالإحباط وفقدان الثقة بالنفس في كل مرة يهزمه فيها شقيقه. على عكس الأخ الكبير، يعرف الابن الثاني أنه إذا كنت تريد شيئًا فعليك أن تعمل بجدّ من أجله. يتعلم الطفل الثاني من لحظة ولادته التعاون والمشاركة، على عكس أخيه الأكبر الذي عليه أن يتعلم المشاركة والانتظار والتفكير فقط، عند وصول أخيه. يولد الطفل الثاني أيضًا لأبوين أكثر خبرة وبالتالي فهو أيضًا أكثر هدوءًا نفسيًا، ما يتيح له مكانًا يجرؤ فيه على اختبار العالم وتجربته وحتى المغامرة فيه.
عندما يصل طفل ثالث إلى العائلة، يصبح الابن الثاني ما يسمى بـ "الشطيرة" (ساندويش)، حيث يجد نفسه في مشكلة تعريف. يشعر بأنّ مكانه في المنزل "يتعرض لضغوط" من كلا الاتجاهين وينمو لديه شعور بالاضطهاد. يميل أطفال الساندويش إلى أن يكونوا اجتماعيين للغاية إذ يتعين عليهم التعايش مع أشقائهم من أعلى وأسفل ولكنهم يعانون في بعض الأحيان من مشكلات تدني احترام الذات.
ومرة أخرى، عند متابعة شخصية إيزابيلا، يمكننا أن نشاهد هذا بشكل واضح، ليس فقط في أغنيتها، انما أيضا في كافة تصرفاتها في الفيلم. إيزابيلا هي الابنة التي ينظر باتجاهها الجميع ويتوقع منها أن تكون مثالية، بسبب قدرتها على انتاج الزهور، ولكن أيضًا بسبب جمالها. هذه التوقعات الكبيرة، تجعل إيزابيلا تشعر بمسؤولية تنفيذ ما هو متوقع منها طيلة الوقت، ما يؤدي لاستغنائها عن شخصيتها، ويولّد غيرة عندها من أختها الصغيرة التي لا تحمل أي مسؤولية أو توقعات. غيرتها من حرية اختها وتحررها من التوقعات تؤديان بها إلى الحزن واليأس طيلة الفيلم، حتى تفهم خلال أغنيتها أنه لديها إمكانية الاختيار وحرية القرار. فبعد الإحباط وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالاضطهاد، نجدها تتعلم تحقيق ذاتها وحب أختها بواسطة نباتات حرة من المثالية، نباتات غير متماثلة، وحتى نباتات لها أشواك، كالصبار.

خلاصة

عمليًا، كما عرضّت في هذا النص، فيلم انكانتو هو فيلم ديزني بامتياز، لأنه غني جدا في شخصياته ورسائله. في هذه المادة عرضت قراءة عينية في بلورة شخصيتين فقط في الفيلم، هما شخصيا أختي البطلة ميرابل، الأخت الكبيرة لويزا، والأخت الوسطى إيزابيلا. من خلال التركيز على أغانيهما، عرضت بلورة شخصيتهما ودوراهما في الفيلم. هذا العرض يكشف لنا كذلك إمكانيات القراءة النفسانية والتربوية في الشخصيات، ما يتحوّل درسًا ثنائي التوجه، فيكشف للأطفال المشاهدين كيف يمكنهم التعامل مع ترتيبهم في العائلة، وما هي إسقاطات تحقيق التوقعات الأسرية والمجتمعية منهم بشكل متواصل، عوضًا عن خياراتهم الشخصية. تحليل الشخصيات الذي قدمته هنا يعتمد بالأساس على نظرية أدلر للترتيب في العائلة، ولكن بسهولة كان من الممكن توظيف نظرية نفسانية أخرى تناسب هذه الحالة. مثال على نظرية من هذا النوع هي نظرية عالم النفس دونالد وينيكات، الذي يتمحور حول مفهوم التوقعات المجتمعية وكيف يمكنها أن تؤدي إلى طمس شخصية الفرد- بالضبط كما حدث مع إيزابيلا.
في النهاية، قراءة أدلريانية في الشخصيات، هي في الواقع درس إرشاديّ للأهالي، لتنبيههم لإسقاطات توقعاتهم المفرطة من أطفالهم- سواء أكانت توقعات بالمسؤولية المفرطة، أم توقعات بالمثالية غير الأطفالية. حرّروا أطفالكم من القيود المفرطة، وأعطوهم إمكانية التفكير والنقد والخيار، فهذا يصقل شخصياتهم أكثر من أيّ قانون مجتمعي آخر.

مواد متعلقة:
فيلم إنكانتو: حول معمارية الفقدان ورمزية الألوان

تعليقات (0)

    إضافة تعليق