اخترنا لك

ضجّت وسائل الاعلام الإسرائيلية في الشهر الماضي حول إعلان أمسية تدشين إصدار كتاب الأسير الفلسطيني وليد دقة، ابن مدينة باقة الغربية، "حكاية سرّ الزيت". نتيجة هذه الضجّة العارمة تقدّم وزير الداخلية الإسرائيليّ، أرييه درعي، ووزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيليّة ميري ريغيف، بطلب إلغاء الأمسية في مدينة باقة في الحال. نتيجة هذه الضغوطات، نُقلت الأمسية من المركز الجماهيريّ إلى قاعة ليالينا في المدينة، ولكن سرعان ما نُقلت مرة ثانية إلى الديوان البلدي، وللمرة الثالثة نُقلت إلى منزل والدة الأسير في المدينة.
شارك في الأمسية نحو مئتي مشارك من المدينة ومن خارجها، وتحدّث فيها نقّاد أدب ومحامون وسياسيّون، متطرّقين إلى الكتاب وإلى الضجة التي حدثت حول أمسية تدشينه.
أمّا هذا الأسبوع، فضجّت وسائل الإعلام الفلسطينية حول زيارة وزيرة الثقافة والرياضة الاسرائيلية ذاتها، ميري ريغيف، لأبو ظبي في الامارات العربية المتحدة، ووصفتها بالتطبيع الذليل مع الحكومة الإسرائيلية، بالذات لكون الوزيرة ريغيف واحدة من الأصوات المركزيّة في السياسة المحلية ضدّ حريّة الثقافة الفلسطينية في البلاد. اليوم، يأتي إعلان مؤسّسة "اتصالات" الاماراتية عن فوز كتاب "حكاية سر الزيت"، الذي هاجمته الوزيرة. هذا الفوز يأتي نوعاً ما كنتيجة مُفارِقة، ونقد داخليّ تجاه السلطة الإماراتية، ويدعم رواية الأسير الفلسطيني وليد دقة ويُتوجها أفضل كتاب يافعين لعام 2018 في العالم العربي.

أما عن الكتاب نفسه، فهو رواية فتيان تحكي قصة الفتى جود بجيل الثانية عشر، يسكن قرية فلسطينية من قرى الضفة مع والدته. تبدأ القصة بعرض حياة جود اليومية وعلاقته مع أصدقائه الحيوانات البرية التي تسكن في الجوار. جود يسكن مع والدته ويحلم بلقاء والده الأسير في معتقلات السلطات الإسرائيلية، وهي ذاتها السلطات المسؤولة عن تقييد الأفق وتحديده بالجدار الفاصل العملاق.
حلم جود بلقاء والده هو الثيمة المركزية التي تتمحور حولها كافة أحداث الكتاب، بينما تمنعه السلطات الاسرائيلية مرة تلو الأخرى من ذلك، وتتعامل معه على أنه يمثّل تهديدًا على الاحتلال. يتعامل دقة مع هذه القضية كمجاز لسوريالية الاحتلال وعدم منطقيّة أيٍّ من قراراته البيروقراطيّة، فيكشف بشكل واضح وصمة الاحتلال ورذيلته وحتى تنكيله بالفتيان.
يبحث جود عن حلول وإمكانيات جديدة لزيارة والده، وبشكل مفاجئ تأتي البشارة من "أم رومي" شجرة الزيتون العجوز، بعمر ألف وخمسمائة سنة. أم رومي تشارك جود بأن قلبه الطاهر ورغبته الصادقة بالتعرّف على والده، جعلاها تحدّثه وتحاول مساعدته بلقاء والده بمساعدة سرّ الزيت. وتضيف أم رومي بأنّها بقيت صامدة في مكانها مدة ألف وخمسمئة سنة، حتى جاء المستوطنون الإسرائيليّون وقرّروا اجتثاثها من الأرض وتحويلها إلى شجرة زينة على مدخل مدينة العفولة. تقترح أم رومي على جود أن يختبئ في جذعها عندما ينقلونها إلى العفولة، ما سيوصله بشكل مباشر إلى معتقل مجيدو، وهكذا سيتمكّن جود من الوصول إلى المعتقل ومؤخراً كذلك إلى زنزانة والده ولقائه.
يكمن "سرّ الزيت" في أنّه يمكن مسح الزيت المتوفر في جذع أم رومي على الأشياء وإخفاؤها. جود يمسح الزيت على نفسه وعلى أصدقائه فيختفون عن الأنظار، ما يُسهّل عليهم التنقل في داخل المعتقل من دون أن يراهم أحد. عند الوصول إلى زنزانة والده، يبدأ نقاش مثير جدًا بين جود وأصدقائه وبين والده وشركائه في الزنزانة، حول امكانيات المقاومة وطريقة النضال المثالية.
النقاش الدائر بين الأسرى وجود ورفاقه، هو نقاش مجازي مثالي بين الماضي والمستقبل، بين البالغ والشاب، وفي النهاية، بين أسرى من نوعين: الأسرى في المعتقل الإسرائيليّ، والفلسطينيّون تحت الاحتلال داخل حدود الجدار الفاصل. عمليًا يمكننا قراءة النقاش هذا على أنه كذلك نقاش على الرؤيا والتصور للمستقبل الفلسطيني، بين "الزمن الموازي" و"حكاية سرّ الزيت".
يستعمل دقة كتاب الفتيان هذا كمكبّر صوت لاسماع صوت الأسير الفلسطيني من داخل جدران المعتقل الاسرائيلي. ينقل دقه رسالة واضحة مفادها أن الحرية في نظره -على الأقل في المرحلة الأولى- لا تتمثل باجتياز الجدران والحدود الملموسة ولا حتى إطلاق سراح الأسرى. الحرية الأولى في سلم الأولويات في تحرير الذهن الفلسطينيّ وكسر الحصار النفسانيّ على العقلية التي نما الفلسطيني بها وأصبح معتادًا عليها. إنّ كسر الحصار هو أولاً وقبل كل شيء، كسر مجازيّ لحصار وعي الفلسطيني. كسر الحصار هو أولاً تحول الطفل والفتى الفلسطينيّ إلى طالب علم متميّز، عالِم، باحث، مفكر. باختصار، في نظر دقة تحرير الطفولة والعقل هو الحرية الأولى التي تسبق كل الحريات.

يستعمل جود سر الزيت الذي تعلّمه كأداة لتحقيق هدفيْن مركزييْن في الخطوة الأولى: تحرير الأطفال الفلسطينيين من قيود الحصار الملموسة، وبذل الجهد والطاقات في تطوير البحث الفلسطيني العلمي، والأدبي والثقافي. ويمكن أن نلاحظ على طول الكتاب، أنّ أيّ ظلم اجتماعي مرتبط بشكل مباشر كجزء من النضال السياسي: من فقر الأسرة نتيجة لأسر الوالد ومن الجدار الفاصل الذي يحصر فضاء الأطفال وعالمهم. اسم البطل "جود" يرمز ويشير إلى أن دقة يعتقد أن "جودة" النضال ترتبط بالقدرة على رؤية الواقع بشكل مختلف، بالقدرة على إلقاء نظرة جديدة نحو المستقبل الفكري والعلمي للنضال الفلسطيني.
"حكاية سر الزيت" رواية للفتيان (10 سنوات وما فوق)، صدرت هذه السنة عن مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي، بمرافقة رسومات الفنان فؤاد اليماني. في الأسبوع الأخير أعلن المجلس الإماراتي لكتب اليافعين عن القائمة القصيرة للأعمال المرشحة للفوز بجائزة اتصالات لكتاب الطفل في دورتها العاشرة، وكان أحد هذه الكتب كتاب "حكاية سر الزيت" ضمن القائمة القصيرة للكتب المتنافسة على فئة كتاب العام لليافعين.