في البحث عن طيبة قلب شرشبيل

في البحث عن طيبة قلب شرشبيل
تساؤلات مائية حول الخير والشر
د. حلوة حمّاد
تساؤلات مائية

ثمة تساؤلات تشغلني منذ طفولتي، وكأنها مياة غاضبة تغلي في رأسي من سنين، تغلي بهدوء من دون أن تتبخر، من دون أن تسكب. قد أتحدث أو أكتب عن بعضها، مع أنني أعلم أنني بالكتابة أفتح على مياهي الصغيرة سبعة بحار وأحد عشر نبعاً، فتعود مياهي أكثر غزارة وكثافة مما كانت عليه- لكنّها منعشة وذات طعم متجدد.
قد أتخلص من بعضها عندما أحولها إلى غيمة وأعصرها في عيني. قد ترهقني أحيانا السباحة فيها، ولا أعرف ولا أريد تحديد كميتها لتتناسب مع ما حولها من معايير الركود.. وفرة المياه هذه علمتني معنى أن أرتوي ولذة أن أسقي غيري، وأن لا أكتفي بالسباحة على السّطح، وأن أغوص في الأعماق لأبني هناك عالمًا آخرَ. لا تخفيني فكرة الغرق فيها، لكن ترعبني فكرة جفافها؛ فجفافها هو موت بائس.

شرشبيل واخواته

ولعلّ أقدم تلك التساؤلات وأشدّها غليانا في الآونة الأخيرة يدور حول ظاهرة "تطييب الأشرار" المنتشرة. على سبيل المثال، لفت نظري فيلم كرويلا الجديد من إنتاج شركة ديزني سنة 2021، حيث يحكي قصة السيدة الشريرة من فيلم 101 مرقش (1996)، كرويلا دي فيل. يتمحور الفيلم حول قصة حياة كرويلا، السيدة الشريرة التي كانت تحاول قتل الكلاب وتحويلها الى معاطف لها. الفيلم الجديد يعالج طفولة كرويلا وحياتها السابقة قبل أن تصبح شريرة بهذا المستوى. يأخذنا الفيلم برحلة عبر تاريخ كرويلا الشخصي لنجد لها مبررا وتفسيرات تناقض شعورنا الفطري وذاكرتنا بأنها ببساطة شخصية شريرة.
مثال آخر هو فيلم مالفيسنت بجزيئه (2014 و2019) الذي يدور حول تاريخ شخصية الجنية الشريرة من قصة الأميرة النائمة، مالفيسنت. في فيلم الأميرة النائمة (1959)، تلقي تلك الجنية تعويذة على الأميرة، لتنام إلى الأبد في عيدها السادس عشر، ولا يبطل تلك التعويذة سوى قبلة حب حقيقي. تدور الأفلام الجديدة هي أيضا حول تاريخ الشخصية الشريرة وطفولتها وما تعرضت له من ظلم في محاولة نسج تبريرات لتصرفاتها، وتخلق مبررات جديدة عاطفية لما عرفناه كأطفال، كشرير ومؤذ متمثل في شخصية ساحرة شريرة غير محبوبة ولا مرغوبة.

تتميز هذه الأفلام بسحرها وجمالها وبأنها مؤثثة بكثير من التفاصيل والإنتاج السخي ابتداء باختيار أبطالها ومواقع التصوير وانتهاء بأصغر وأبسط تفصيل فيها، لا يمكن ألا تنبهر وألا تتعاطف مع الشخصيات "الشريرة " مع كل هذه المؤثرات.
وقد دفعتني هذه الأفلام للتساؤل مرة بتهكم رافض ومرة بجدية متفحصة: هل ربما تسرعنا واخطأنا بحكمنا على أشرار آخرين في طفولتنا؟ هل ظلمنا شرشبيل كذلك؟ هل سيتبين بعد عدة سنوات بفيلم ثلاثي أو رباعي الابعاد والتأثيرات أنّه كان طيب القلب ورحيمًا ونحن أسأنا فهمه ليس إلّا؟ وفعلا قمت ببحث عشوائي قصير في محرك بحث لأجد أنّ النتائج الأولى تتحدث بالفعل عن رواية أخرى عن شرشبيل، تدّعي أنه كاهن طيب ومسكين يعيش في كنيسة مهجورة مع قطة ويحاول القضاء على الأرواح الشريرة المتمثلة في السنافر!
لا أعرف ما ضرر أن نترك الشخصيات الشريرة في مكانها وشرّها، من دون أن نلبسها ثوب الملائكة ونرصّعها بألف عذر مقتبس من مبررات يعود أصلها الى أزمات الطفولة والعلاقات مع الأهل ونظريات فرويد وزمرته؟
بتّ أشعر وكأنّ هذا التوجه ليس صدفة؛ فكُلّ شيء في أيامنا هذه أصبح قابلًا للتشكيك، وكلّ شخصية مهما فعلت تستحقّ التعاطف، حتى أصبح هذا التعاطف جهدًا فكريًّا وعاطفيًّا مفروضًا علينا، ولأنّ هذا التعاطف أو التسامح قيمة حسّاسة ومقدّسة، يصبح من الصعب حتى إثارة التساؤل حول صحّته وإمكانية التحفظ عليه أو حتى مناقشته.

من جهة أخرى لا يمكننا تجاهل وجود الشر والحقد والظلم في الواقع والأفلام، وأنها وقعت بالفعل من أشخاص من دم ولحم أو من وحي خيال الكتاب. أفعال تسببت بآلام وجروح نازفة ومفتوحة، وتركت خلفها قلوبًا ممزّقة ودموعًا غالية، أفعال لها فاعل معروف مهما كانت أسبابه ومبرراته وتاريخ شخصيته. التعاطف هو فكرة وردية لطيفة ضرورية لتعطر الأيام، لكنها لا تعفي أيّ فاعل من مسؤولية أفعاله، ومن السذاجة أن نحاول تخبئة جروحنا وندباتنا بأوراق ورود ناعمة، بدلا من أن نكتشف عمقها ونحاول فهمها بجدية وعلاجها.
قد تكون فكرة التعاطف العام مع الجميع مهما فعلوا، هي مهمة واجبة وبسيطة، والتشكيك بحقنا بالألم والغضب والكرامة والاختيار بتصنيف من نحبّ ومع من نتعاطف بشكل فطريّ، لا تجعلنا أشخاص أكثر طيبة، ولا تحوّلنا إلى مجتمع وردي وحاضن وحكيم.
أعتقد أنّ أجواء التبرير العام ومحاولات التجنيد المستمرة في البحث عن طيبة قلب الشرشبيلات بأنواعها، ابتداءً من أفلام الطفولة ومسلسلاتها، مرورًا بأحاديث الكبار والصديقات والنساء الحكيمات، هي ذاتها بيئة حاضنة لصناعة مزيد من الشرّ والظلم، تجعلنا نقع مرارًا في فخّ لزج من الحكمة الصمّاء. تُفقِدنا ثقتنا ببساطة الحب ورقّته وحكمه العادل، وتُحول العلاقات الإنسانية بأشكالها وأنواعها إلى عمل شاقّ، أو مشروع مدروس، يحتاج حكمة وذكاء ومنطقًا؛ "الكثير من المنطق". وكذلك يحتاج جلدَ تمساح، وسبعة مستشارين، وأحد عشر محللًا ومحللة، وقوائم للصفات الإيجابية، وأمثلة وإحصائيات ودراسات، إلى أن تتحوّل حياتنا تدريجيًا إلى مجموعة من الأفلام والصور المبهرة المتناسقة والبراقة، تخفي فيها الفلاتر والمؤثرات كلَّ شيء، لكنها تفضح العيون المنطفئة.
أحب علم النفس ودراسة تاريخ الشخصيات وأؤمن بضرورة النقاش في الأدب والفنون بأنواعها، لكنها ليست سوى هواية أستعين بها في أيامي، وليست طريقة حياة. لا يحسن بها أن تكون. أتفق أنّ جزءًا من مشاعرنا وأفكارنا قابلة للنقاش والتفاوض والتغيير أو الاستشارات أو حتى التّشكيك، لكنّني أظنّ أنّ الحبّ والمغفرة هما شعوران مقدسان يجب أن يظلّا خارج تلك الحسابات المرهقة.
نحن لسنا ملائكة ولا نستطيع أن نكون، وجميعنا يحتاج رصيدًا يوميًّا من الحبّ والمغفرة واللّين لأنفسنا أولًا- ولمن حولنا ثانيًا.
لكن المغفرة هي ابنة الحبّ، لا تولد من عدم ولا من نفخة في روح المنطق ولا في مستنقع الحكمة الصامتة، وهي قرارات فرديّة فطريّة لا قاضيَ فيها سوى قلبك، والطفل الذي ما يزال داخله، ذلك الطفل الذي لا يحب شرشبيل ويكره السّاحرة الشريرة، ويرقص فرحًا على جملة رقيقة في أغنية ما... صدّقه واتبعه دائما لتنجو.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق

    أخبار متعلقة