اخترنا لك
رايا والتنين الأخير: قصة وباء وثقة وسياسة من جنوب آسيا
اخترنا لك: أفلام
صدر هذا الأسبوع فيلم ديزني الجديد، رايا والتنين الأخير Raya and The Last Dragon. الفيلم متوفر حاليًا على منصة Disney+ وفي دور السينما (في إطار تعليمات وزارات الصّحّة حول العالم).
تجري أحداث فيلم "رايا والتنين الأخير" في منطقة جغرافية سادتها الكومندرا (السلام والصداقة بين الشعوب) بين خمس قبائل مختلفة. في أحد الأيام، وصل الأرض وباء قاتل اسمه درون، يحوّل كُلّ من يمسه إلى حجر. يسيطر الدرون على البلاد، ويحوّل مئات السكان إلى حجارة. عندها تحارب التنانين الوباء، وتتمكن منه، ولكن ثمن هذه الحرب أن تتحول كل التنانين إلى حجارة. عندما يعود البشر إلى طبيعتهم، يكتشفون أن قوة التنانين موجودة في جوهرة وأن التنانين اختفت من العالم. تختلف القبائل على الجوهرة وتشتد الصراعات والنضال بينها، حتى تحصل قبيلة واحدة على الجوهرة وتحتفظ فيها لنفسها.
بعد خمسمئة سنة، يحاول والد رايا جمع القبائل وعقد السّلام معها، للعودة إلى الكومندرا مُجدّدًا، لكن القبائل تغدر به وتحاول سرقة جوهرة التنين. هكذا تنكسر الجوهرة إلى خمسة أقسام، تسرق كلّ قبيلة واحدًا منها، ونتيجة انكسارها– يعود الوباء درون مجددًا.
تحت تهديد الوباء القاتل، وبعد أن حوّل والدها إلى تمثال حجري، تنطلق رايا في رحلة بحث عن التنين الأخير، ليساعدها بالتغلب على الوباء. لكن عندما تجده يخبرها التنين بأن عليه أن يستعمل الجوهرة كاملة. هكذا تنطلق رايا في رحلة مع التنينة سيسو إلى جمع كافة أجزاء الجوهرة من القبائل.
عودة الوباء مرة أخرى منذ بداية الفيلم، تحدث بسبب غدر القبائل بوالد رايا. كافة الفيلم يتعامل مع هذا الغدر كخيانة يصعب جدا التعامل معها ومسامحتها. تواجه رايا اسقاطات هذا الحدث طيلة الفيلم، ونجد أنه قد أثر كثيرا على شخصيتها، فهي لم تعد تثق بأيّ أحد من حولها. رايا الحذّرة جدًا، تواجه العالم وكل من تلتقي به بارتياب وشكّ، ولا تتمكن من أن تثق بأحد. في بداية الفيلم نجد أنّ ارتيابها حقيقيّ ومنطقي، فالكثير من الشخصيّات التي تصادفها تحاول أن تسرق منها أجزاء الجوهرة، ولكن هناك الكثير من الشخصيات الأخرى التي تحاول مساعدتها.
ارتيابها الشديد يتحوّل إلى معضلة شديدة ومركزيّة في الفيلم، عندما تحاول التنينة سيسو إقناعها بفكرة الصداقة والثقة بالأصدقاء، لكن كلما حاولت سيسو برهنة نظريتها وادعاءها نجد تأكيدًا على شكوك رايا. هكذا تتحوّل الريبة إلى ثيمة الفيلم المركزية، والتي فقط بحلها النفسي والشخصيّ والمُجتمعي يمكن لرايا التغلّب على الوباء.
ربما يكون نقاش الريبة هو الأنسب في أيامنا هذه تحت وباء من نوع آخر، حيث يشك كلنا منّا بمن حوله، ما إذا كان يحمل العدوى أو لا، وإن كان علينا الحفاظ على بعد فيزيائي بيننا، بدلا من القرب والضم. ربما تزداد الرمزيّة لهذه الفترة الزمنية التي يصدر فيها الفيلم عندما نرى البطلة رايا تستعمل قناعًا يشبه أقنعتنا لمواجهة الوباء. قد يكون الفيلم هذا هو أداة ديزني لعرض فكرة تلاشي الريبة بعد التعامل مع الوباء، وقد يكون فيه رمزيّة أنّ الوباء الحقيقيّ الذي علينا التغلب عليه بالثقة هو الوباء السياسيّ الاجتماعيّ الذي يُسبّب صراعات داخلية بين المجتمعات.
يُمثّل الكومندرا، السلام والتآخي بين الشعوب، هدفًا أسمى منذ بداية الفيلم. عندما تحكي لنا راية قصة تاريخ الشعوب في عالمها فهي تعرض فترة كان فيها كومندرا وهارمونيا (توازن) مطلقة بين الشعوب، وتسمي تلك الفترة بالجنّة (Paradise). ما يفكك الكومندرا في البداية يكون الوباء، ثم بعده الطمع والحاجة بالتملّك والسيطرة. والد رايا، حارس الجوهرة، يسعى لاستعادة السلام بين القبائل ويحاول دعوتها جميعا إلى قبيلته ليستضيفهم.
يعرض الفيلم والد رايا على أنه إنسان مسالم، كل ما يسعى إليه هو استعادة الكومندرا، ولكن علينا أن نذكر أنه هو كذلك المؤتمن على الحفاظ على الجوهرة، أي أن لديه ذلك الامتياز الذي تسعى إليه باقي القبائل. امتياز حيازة الجوهرة والحفاظ عليها يعطي القوّة والاحترام والسلطة في نظر القبائل. أي أنّ القويّ منذ البداية، هو من يسعى للسلام، بينما الضعيف يواصل محاولة الحصول على القوة بما يفتقده - القوة! ربما تكون هذه القضية هي أكبر رمز أمريكيّ في الفيلم.
عندما تحكي لنا رايا عن تضحية التنانين الأولى في بداية الفيلم، تقول: "كان ينبغي أن تكون هذه لحظة مُلهمة عظيمة، حيث تتّحد البشرية نتيجة تضحية التنينة سيسو، لكن بدلاً من ذلك، كونهم بشرًا، يتقاتلون جميعًا لامتلاك آخر بقايا سحر التنين.. يرسمون الحدود ويفككون الكومندرا وهكذا أصبحنا جميعًا أعداء". لكن هل حقًا هذه طبيعة البشر، أم أنها نظرة القويّ لطبيعة البشر؟
عودة لفكرة الكومندرا في الفيلم، نجدها تتبلور بوضوح أكثر بكون رحلة البطلة هي رحلة جمع أقسام جوهرة التنين الخمسة، حيث تفرض على رايا زيارة كافة القبائل، والتعرّف عليها وعلى ما حصل لها خلال الوباء. لكن ما يحدث في الحقيقة، هو أنها لا تجمع من هذه القبائل أقسام الجوهرة فقط، بل نجدها تجمع كذلك الأصدقاء! من كل قبيلة ينضم إليها رفيق جديد إلى الرحلة. ربما لا يذكر هذا بوضوح في الفيلم، ولكن قطع الجوهرة هي مجرد رمز لما يحصل بالفعل في الفيلم، وهو جمع أقسام القبائل معًا ليتحدوا سوية للتغلب على الوباء، وعلى العداوة بينهم!
أغنية الشارة تلخّص هذه الفكرة:
We have a choice to - لدينا نحن الخيار
Build or destroy to - بالبناء أو بالهدم
Fight or to come together - لنتعارك أو نتّحد
Love is a bridge and - الحب هو جسر
Trust is a gift, we - والثقة هي هدية
Give it and it's gets better - قدمها وستتحسّن الأمور
….
When we bring the light to the dark - عندما نأتي بالنور في الظلام
Whatever brings us together - كلّ ما يجمعنا
Can nevеr tear us apart - ولا يفرقنا أبدًا
We becomе stronger than ever - نصبح أقوى من أيِّ وقت مضى
موضوع الجندر، هو من أبرز النقاشات التي ترافق نقاش أفلام ديزني في السنوات الأخيرة. نذكر أنه منذ صدور فيلم فروزن (ملكة الثلج) عام 2013، بدأ النقاش حول إمكانية كون إلزا أميرة مثليّة، وراح وازداد هذا النقاش مع إصدار الفيلم الثاني من السلسلة. منذ حينها، هناك الكثير من المسلسلات الأخرى الصادرة عن ديزني التي تعرض شخصيات مثلية بطريقة أو بأخرى، لكن ليس في الأفلام بعد.
في لحظة كتابة هذه السطور، قد مرّ يومان فقط على صدور الفيلم، وها نحن نشاهد عشرات المقالات التي تدّعي كون رايا هي البطلة المثلية الأولى لديزني، رغم أنّ الفيلم لم يعرض ذلك بتاتًا. ما عرضه الفيلم هو بطلة، لها صديقة/عدوة، تحاول التعامل معها وفهم كيفية الوصول إلى قلبها – هل يدل هذا على عاطفة سرية تجاهها؟ ربما نعم وربما لا. أظن أن ديزني في هذا السياق، قد قاموا بنشاط ذكي جدًا، كونهم عرضوا شخصية بطلة يمكن قراءتها على كافة الأصعدة والتوجهات، فان أردت النظر إليها على أنها مثلية، يمكنك إيجاد الكثير من الرموز لذلك، وإن كنت لا تريد ذكر الموضوع (في مجتمعات محافظة مثلًا)، فيمكنك مشاهدة الفيلم مرة تلو الأخرى من دون الظنّ أصلًا بمثلية رايا. أعتقد أنّ هذا شبيه جدًا بالادّعاء تجاه مثلية تيمون وبومبا في الأسد الملك؛ فيمكن أن نشاهد الفيلم عشرات ومئات المرات دون التفكير في الأمر، ولكن تكفي مرة واحدة نفكر في الموضوع: ذكران يعيشان سوية، منبوذان من مجتمعاتهم، يجدان طفلًا يتيمًا ويربونه كابنهما بأروع طريقة ممكنة – لنبدأ بالنظر للفلم بطريقة مختلفة.
إنه بلا شك عمل ذكي من ناحية رأسمالية، فهو يفيد بالحفاظ على ماء الوجه تجاه المجتمعات المحافظة أو المتديّنة، وكذلك يرضي مجتمعات الميم ويقدّم لها بطلة مميزة يمكنها بكلّ سهولة أن تحمل شعار المثليين.
قضية أخرى يمكن ملاحظتها في الفيلم، هي قضية القوة النسائية والقيادية في الفيلم؛ فالبطلة والتنينة امرأتان، والشريرة والعدوة امرأتان، وكافة الشخصيات المؤثرة في الفيلم والتي تحرك خيوط السياسة المجتمعية في الفيلم هي من النساء. هذا الفيلم، كما الأفلام التي سبقته، موانا وملكة الثلج، يعرض قيادة نسائيّة نسويّة مميّزة وقويّة، ومن خلالها يدعم ويفيد في عملية إعادة انتاج صورة المرأة في سينما الأطفال، التي نشهدها في القرنيْن الأخيريْن خاصّة.
فيلم ديزني الجديد، رايا والتنين الأخير، يدمج العديد من الرموز الثقافية الجنوب آسيوية، منها تايلاند، ماليزيا، كمبوديا، لاوس، وفيتنام. قامت بتسجيل صوت رايا، الممثلة الأميريكية ذات الأصول الفيتنامية، كيلي ماري تران. كتب سيناريو الفيلم كوي نغوين وآديل ليم، كلاهما ذات جذور جنوب آسيوية. اسم رايا مثلا، يعني "احتفال" باللغة الملايوية، ومساعدها الضخم "توك توك" الذي تركبه رايا للتنقل، يحمل اسم وسيلة النقل الآيقونية في كمبوديا (توك-توك).
كذلك التنانين التي تظهر في الفيلم، تشبه صور التنانين الجنوب آسيوية أكثر بكثير من كافة التنانين التي انكشفنا إليها حتى الآن، التي بمعظمها تنانين أوروبية وشرق أوسطيّة يعود مصدرها إلى قصص تنين القديس جرجس.
وطبعًا أحد أبرز الرموز التي انفعل جدًا المتابعون عند مشاهدتها في تشويقة الفيلم، هو السلاح الذي تستعمله رايا، عُصي الآرنس، وهي أداة قتال فيليبينيّة قديمة يتم تحضيرها من عصي الخيزران (البامبو)، وفي مشاهد القتال العديدة في الفيلم، نجد تعدّد أساليب قتال جنوب آسيوية كثيرة، تمثّل الكثير من تلك الثقافات.
في الأيام الأخيرة، يبدي العديد من الآسيويين الأمريكيين انفعالهم الشديد من الفيلم، كونه يعالج الثقافة الجنوب آسيوية بشكل مختلف وواعٍ أكثر من معظم انتاجات الميديا والسينما الغربية التي عادة تدمج كافة دول آسيا معًا. في الولايات المتحدة، ينقسم مجتمع المهاجرين الآسيوي الأمريكي إلى الكثير من الثقافات المختلفة، لكن للأسف ما زال المجتمع والميديا الأمريكية يتعاملان معهم وكأنهم شعب واحد، فيتعاملون مع الآسيويّين من كوريا الجنوبية واليابان وكمبوديا وكأنّ لهم ذات الثقافة. رايا والتنين الأخير يكسر هذا القالب، ويعرض الجنوب آسيوي بانفراد عن الشرق آسيويّ. لا بدّ من الذكر أنّ معظم أمواج الهجرة الجنوب-آسيوية إلى الولايات المتحدة جاءت بعد الحرب على الفيتنام والإبادة الجماعية في كمبوديا في السبعينات.
باختصار، يمثّل فيلم رايا والتنين الأخير، أحد أبرز أفلام فترة الوباء، ولكنه ليس فيلم وباء فقط، بل فيلم عن وحدة الشعوب والثقة بينها، فيلم عن الاتحاد وعن التسامح. فيلم يحكي قصة نسويّة بامتياز، تأتي بمعظمها من الشرق ومن جنوب آسيا بالتحديد. أنصح بالفيلم بشدّة وأوصي به، أظنه يعرض فكرة الريبة والثقة بطريقة ناقدة، ويحاكي المجتمع العولمي بطريقة ذكية جدًا.
- التاريخ: 07/03/2021
- كلمات مفتاحية: أفلام