إلى اللقاء
نصّ: نبيهة محيدلي
رسومات: لجينة الاصيل
إصدار: دار الحدائق
عن القصّة: "حكاية طفلة صغيرة ضاع الفرح منها، فراحت تبحثُ عنه في ملاعب نزهاتها، لكنّها لم تجده وظلّت حزينة. سبّب حزنها شعورها بالذنب لانفصال والديْها، فنعيش معها لحظات حزنها وقلقها وقراراتها الطفوليّة البريئة، إلى أن يأتيها الحلّ من عالم الأطفال أيضًا."
تسْتوقِفك جماليّة الغلاف وفخامته قبل الولوج الى المحتوى. الكتاب أنيقٌ جدا بغلافه المكوّن من الورق المُقوّى والمضغوط بقماش بلون أحمر قاتم ملوكي ومختوم برمز لقطعتي بازل منفصلتين. ويلفّه غلاف ورقيّ بجودته العالية يحوي صورة الغلاف الذي نجحت لجينة من خلاله أيّما نجاح في توظيف الألوان لتعزيز مركزية الطفلة في المشهد. فبينما تظهر الخلفيّة بألوان رماديّة باهتة أحيانا، وداكنة في مساحات أخرى... بيتان رماديّان تربطهما طريق واحدة، تبرُز الفتاة بألوان بهيّة خلّابة لا وبل مبتسمةً أيضا. في الجانب الأيمن السفليّ تظهر الحشائش الخضراء التي تزهر من خلالها أربع زهرات بيضاء ممشوقة إلى الأعلى، وفي هذا دلالات على النموّ والإزدهار والمُضيِّ قدما. لون عنوان القصة المُطابق لألوان ملابس الفتاه ومعناه الذي يوحي بالإيجابيّة النسبيّة.
هذا التّباين في الألوان، وبين موضوع القصة والإيماءات والترميزات الدلاليّة فيها، يُنبِّئ القارىء بمحتوى مُتفرِّد، فيستَطمِع خاصيّته والإنكشاف عليه.
هذه الإطلالة من الرّسومات والعرض اللوجستي الفاخر والمُستَثْمَر جدا كأنّي به يُعزّز من مكانة طرح وتناول قضية الانفصال والطّلاق بمجازيّةٍ تُنافي السلبية المُنفّرة المقرونة بها والسّائغة في مجتمعنا. وعلى هذا أعلّق أوّل نجمة ذهبية في رصيد قصة "إلى اللقاء".
نجمة ذهبية ثانية أعلّقها في رصيد لجينة الأصيل على إضافتها العبقريّة لصفحتي الرسومات في بداية ونهاية القصة (صفحة رسومات قبل الصفحة الاولى وصفحة رسومات أخرى بعد الانتهاء من القصة). فحالما تفتح القصة أو تنهيها تظهر رسمة بدون نصّ، تربطك بانسيابيّة عميقة ومُباشرة مع حال الطفلة المُستلقية على الارض من دون ملامح واضحة لوجهها، ترسم زهرة وفراشة ونجمة وصورتين للأب والأم بشكل منفصل، وورقتان فارغتين تطيران في الهواء. أهو فراغٌ يقتصر على عدم رسمة؟ أم فراغ أجوبة وتيهٌ بين طرفين؟ وتغلق الدائرة في الرسمة الأخيرة حيث تظهر الطفلة مبتسمة بوضعية منفعلة وفعّالة. تستمر في رسوماتها الطفولية. لتبقى ورقة واحدة فارغة والاخرى رسمت عليها شمسا غضة. وفي هذا دلالات لتخبّطات أقلّ ومصالحة أكبر مع القضيّة.
تتكشّف لنا عائلة مليئة بالحميميّة والقرب الجسدي والعاطفي من قبل الام والاب تجاه الطفلة. وقضاء وقت نوعي معها يتمثّل بصنع طائرة ورقية ولعبة الاختباء والتنزه في الحدائق. ومع ذلك فلا قرب بين الوالدين نفسيهما، والأعمال تُنجزُ حيث يظهر أنِ كلًا على حدة، وإن اجتمعا فلا تظهر تعابيرهما واضحة!
وتستمر هذه المشاهد في ذروة القصة وترافقها حتى النهاية.
في هذه اللمحة بُعدٌ واقٍ وعلاجي على المدى البعيد. فهذا يقلل من وطأة الإنفصال ومن التعقيدات والثقل النفسي المترتب عليه.
تُبرز نبيهة محيدلي أسلوب التعلم النَّشط الذي تعتمده الطفلة. ذلك الأسلوب المبني على المراقبة والتّأمل والتجريب والتجربة والاستكشاف، مُعزَّزا بحبّ الإستطلاع والحسِّ اليقظ للمحيط والظواهر الطبيعيّة. ويتأتّى ذلك في ظلّ وُسطاء تربية وبيئة داعمةٍ ومُتيحةٍ في المساحات التجريبيّة على أنواعها.
تختلف الألوان على مدار القصة فبينما تبدأ بألوان منتشية وباعثة للحياة، تتحوّل رويدا رويدا الى لونين أساسيين: اللون البرتقالي في المشاهد التي تكون فيها الطفلة في بيت الام، واللون الازرق في المشاهد التي تكون فيها الطفلة في بيت الاب. ويتكرّر المشهد بين الذهاب والاياب من وإلى الأم والأب. ويتكرّر الشعور بـ "عندما تذهب الى أمها تفرح عندها وعندما تغادرها تحزن"، "وعندما تذهب إلى أبيها تفرح عنده وعندما تغادره تحزن".
تكرارية الذهاب والإياب لدى الطفلة، الطرق الملتوية التي تسلكها، بينما البيوت قابعة في مكانها، والأب والام يظهران واقفيْن في كلّ مرة على باب المنزل، تأخذ المُتلقي إلى التعاطف والفهم العميق لوضعية الطفلة النفسيّة، وإزدواجيّة مشاعرها وحتى انتفاضتها.
وهنا، في هذا المشهد تحديدا تظهر قمة التّكافل المُتناغم في هذه التكراريّة التي خلقتها نبيهة المؤلفة ولجينة الرّسامة، فلا تدرك أيّهما خدم الآخر أكثر، النص أم الرسومات!
وعلى هذا التناغم الإبداعي أُعلّقُ النجمة الذهبية الثالثة .
تحاول الطّفلة استعادة الفرح من خلال العودة لتجريب أشياء كما كانت تفعل من قبل. فيحول الشعور بالذنب دون ذلك لأنه يطغى على تفكيرها وفي هذا المشهد رسالةٌ أخرى تبرقها القصّة للأهل والتربويين، مفادها أنه عندما يقع الاطفال في إضطراب عاطفيّ ونفسيّ فلا تتوقعوا منهم المضي قدما ومتابعة انشغالاتهم وانفعالاتهم الطفولية كأنّ شيئا لم يكن! وكذلك في هذا المشهد جرسٌ تربويٌ مدوٍ يُنبّهنا دائما إلى حقيقة أنّ "الأطفال لا يتكلمون ولكنّ تصرّفاتهم تتكلم فأصغوا إليها"!
العزوف عمّا كان يستثير الطفل، انخفاض منسوب الفاعليّة، العصيان، التبول اللا إرادي، الكوابيس، المخاوف، نوبات الغضب، سوء التصرف وقلة التركيز، هي كلها مؤشراتُ مِحنةٍ وإن لم يفصح الطفل بالكلام عنها!
من خلال بحث الطفلة عن الفرح تلتقي بطفل يلعب لعبة تركيب لوحة (بازل) وتدرك بعد حوار دار بينهما أنّه لا يمكن وصل قطعتين ان لم تتلاءما مع بعضهما البعض. وهنا تتجلّى الإستجابة المرنة الأولية وتنقشع أزمة الشعور بالذنب لدى الطفلة فتنفرج أساريرها من جديد وتعود لنشاطها التفاعلي المعهود.
تظهر الطفلة في المشاهد الأخيرة تتردّدُ على بيت الام والاب بأريحيّة أكبر مع استمرار الاهتمام واستمرار مشاعر الامان التي تتلقّاها منهما. وهذا بمثابة تعويض (وإن كان جزئيا)؛ فالفرد يختار أن يكون "شريكا سابقا" ولكنه لا يختار أن يكون "أبا سابقا". وكلما زادت القدرة على جعل العلاقة مع الشريك السابق في حالٍ أفضل كان ذلك أفضل لتعاطي وهضم ذهني ونفسي صحّيّ أكثر مع قضية الانفصال. فلا فوضى في التعامل وتبادل الشتائم وتراشق التهم والنزاعات على الملكيات المختلفة. وفي هذا رسالة تربوية أخرى ترفع رايتها عاليا: اتركوا الاطفال خارج "لعبتكم"! فجميع الاطفال خاسرون في قضايا الانفصال والطلاق، ولكن بمقدورنا حصر الضرر وتقليله. وعلى هذا أعلّقُ النجمة الذهبية الرّابعة حيث أنّ هناك تخطّيًا للمعضلة ببُعدها وإسقاطاتها على المدى القريب (الشعور بالذنب واختلافات النشاط)، لا وبل تتعدّى ذلك بالتقليل من مضارّها للمدى البعيد، وذلك بإخراج الطفل من دائرة تصفية الحسابات بين الوالدين ومنحه قدرًا كبيرًا ومستمرًّا من الرعاية والحب والتدعيم.
أعلِّق نجمةً ذهبية خامسة في رصيد القصة لأنّ الحلّ يأتى من عالم الأطفال أنفسهم، وفي هذه اللّمسة إضاءةٌ قويّة على سواد ما نشهده من ازدراءٍ واستعلاءٍ وتنمّرٍ في أحيان كثيرة تجاه الأطفال منفصلي الوالدين.
وعبارة "إلى اللقاء" في آخر القصة، التي جاءت لتُطبِّبَ التكراريّة المُرهقة عاطفيا ونفسيا في مرحلةٍ سابقة.
في نهاية القصة يظهر زوج الام برفقتها عند استقبال الطفلة، وزوجة الاب برفقته كذلك، وهذا بمثابة تخطٍّ للمنظومة المجتمعية الغالبة والسائدة بعدم زواج الام خاصةً مرة أخرى. وكذلك إعادة تشكيل وبناء عائلات غير كلاسيكيّة وغير نمطيّة في مجتمعنا العربيّ، تماشيًا مع المستجدات والظواهر المجتمعيّة المتغيرة والتي تفرض حضورها وتأثيرها في التشكيلات البنائيّة المختلفة.
النجمة الذهبيّة السادسة أعلِّقها على شموليّة البُعد البنائي العميق لهذه القصة. فهي مبنيّة على معرفة وإطّلاعٍ واسعيّن بسيكولوجية الطفل في هذه المرحلة العمرية وهذا يُسهمُ في التعريف وفهم إسقاطات الطّلاق والإنفصال على الاطفال بشكل خاصّ وكيفية تّناول الأزمة بين التفادي والتّبني لحيثيّاتٍ القضية على شتّى منحنياتها.
من الجدير ذكره أنّ كتاب "إلى اللقاء" مُنح الجائزة التقديرية لكتب الأطفال عن فئة النّاشرين في براتيسلافا 2017 في دورته 26، وقد تم اختياره من بين 488 كتاباً في 49 بلداً.
المربّية حنان أبو جارور هي مؤسِّسَة معهد مكين لأدب الطفل والناشئة. حاصلة على ماجستير في دراسة الطفولة المُبكِرة. مربيّة أطفال بخبرة 18 عامًا في الحقل التربويّ. حكواتية وراوية قصص. مدرّبة استراتيجية شخصية وجماعية معتمدة من التخنيون. ناشطة إجتماعية فاعلة في القضايا المُجتمعيّة التي تُعنى بالطفل والتنمية الإنسانية. حائزة على جوائز قطرية في ابتكار وتطوير مشاريع ومبادرات تربوية مُعتمدة على أدب الطفل وتعزيز فِعل القراءة وتكثيف حضور الطفل في المشهد الثقافي باعتباره جزءًا أساسيًا فيه.
توصية المربّية حنان أبو جارور: اقرأوا "يوم في حياة أمّي معلمة اللغة العربيّة"
تعليقات (0)
إضافة تعليق