ملخص القصة
على هيئةِ أحداثٍ متتالية في يوم واحد تدور أحداث هذه القصة المَروِيّة على لسان الطفل ساري الذي ينتظر أمه لتُقلّه من المدرسة بعد انقضاء الدوام الدراسيّ. ولكنها تتأخر على غير عادتها! فيتّضح أنّ عطلا أصاب سيارتها. بعدها تقتني ما ينقصها لإعداد الطعام. تسرع إلى المطبخ وتفرغ الاكياس، وتغسل الحاجيات، وتبدأ بتجهيز الطعام. تتوالى الاتصالات الهاتفيّة بعدها؛ فتارةً يبلغها "الميكانيكي" بأنّ عطل السيارة كبير ويحتاج لأكثر من يوم لإصلاحه؛ وتتّصل بالأب لتذكّره بمصلح الغسالات الذي لا يجيب فتضطرّ لغسل الثياب بيديْها؛ ثم تفرَغ جرّة الغاز وتتوالى الأحداث المُتعبة التي يسردها الطفل من خلال مشاهداته حتى يذكّرها هو بنفسه بالحظ العاثر: "آآآه على حظّك اليوم يا أمي" ويُعلِمها من خلال رسالة المدرسة عن تأخيرهم في دفع القسط التعليميّ. تدخل الأم مساء إلى غرفة المكتبة ويظهر الأب مع الطفل يلعبان ويقضيان وقتًا ممتعًا بهدوء مُعتمد كي لا يزعجا الأمّ خلال عملها في تقييم النصوص الإبداعيّة لطُلابها في الكتابة والتعبير. تنتشي الأم فرِحة بما تقرأ ويعلو صوتها الآتي من الغرفة، فينتشي الطفل والأب ويتحوّل لعبهما من الهادئ المُحافظ الى حماسِيٍّ مليء بالحركة والسرعة.
مركزيّة الطفل المشاهد
من جميل ما جذبني إلى هذا الكتاب هو أن أحداثه مَروِيّةٌ على لسان طفل. تنصيب الطفل في مكانةٍ يكون فيها هو المُشاهِد الفعّال الذي يصف الموقف والشعور والفعل وردّ الفعل، سواءٌ ردّ الفعل الحركيّ الجسديّ أو الإيمائيّ أو ردّ الفعل التعبيريّ اللغويّ. في هذا رسالة كبيرة وإشادة واضحة بذلك الطفل الذي يحيا بيننا ويكبر أمام أعيننا، الطفل اليقظ والواعي جدًّا لكلّ ما يُحيطه من أحداث وتداعيات هذه الأحداث. وهذا بلا شكّ يرتفع به لمكانة عالية تُعزّز حالة الحضور الذهنيّ والعاطفيّ النشط والفعّال لديه.
الأم معلّمة اللغة العربية التي لا تُبعدها المشقّات اليوميّة وكاهلها المُثقل من متابعة وتناول ما تحبّ وتعشق من النصوص الإبداعية. هذه الانسيابية المرهفة واستحضار كامل لكينونتها يعزّز فينا كمتلقّين وكأطفال حُبّ العربيّة والنشوة المقرونة بحضورها. لا بل ويأخذنا هذا الوَلَه إلى أبعد من ذلك فيقربنا إلى جانر مُتّقد في العربية ألا وهو الكتابة الإبداعيّة، وهذا كان بمثابة اللمحة التجديديّة في طرح العربيّة من هذه الإطلالة عبر القصة.
مركزيّة العربية
وكذلك، فالمشاهد البصريّة غير مُتكلّفة، سلِسة تحملُ ترميزات رقراقة ذات جماليّة حُلوة تحتفي بالعربيّة كحضارة كونها جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا أينما اتجهنا- وليس فقط كلغة. اللغة العربيّة حاضرة في كلّ مشهد في القصة: فصينيّة القهوة مُرسّمة بالحروف الملوّنة؛ الفناجين العربية مُطعّمة بالكلمات العربية بالأبيض والأسود؛ الملابس على حبل الغسيل مزخرفة بمدلولات عربيّة؛ اللوحة المعلقة في صدر الصالون مُوشّاة بكلمة "إقرأ"؛ الوسائد المكعّبات؛ الكتب... كلّ هذا الحضور يستعرض العربية كقطع فنيّة مُتخمة بالجمال وبالخطوط العربية على أنواعها كالنسخ والرقعة والكوفيّ والديواني.
تثقيف بيئيّ
وممّا أحببت، وكان واضحا إلى عينيّ، تجلِّيات التثقيف البيئيّ والتربية الخضراء، المزروعات الخضراء بأنواعها المتعدّدة ومشاهدها المُتكرّرة على مدار القصة. وكذلك، مطبوعات مستوحاة من الطبيعة سواء الملابس أو دهان البيت والستائر؛ الغذاء والطعام الصحيّ والمُحضّر بيتيًا.
وتحوي المشاهد البصريّة كذلك رسائل واضحة في ترشيد الإستهلاك البشريّ، وهذا يتّسم من خلال أكياس الشراء القماشيّة متكرّرة الإستعمال وليس النايلون. وكذلك البيت الهادئ الذي لا يعجّ بالتّحف والمُزيّنات المبالغة، وإن وُجدت فإنها تكون عبارة عن أعمال يدويّة أو ترميز يُعيد نفسه من خلال برواز أو إطار كلمة "إقرأ" مثلا. الاثاث المصنوع من القشّ والمتواضع بشكل عام. المنسوجات اليدويّة او المُصنّعة ذات نقش فني ملوّن جميل.
التكافؤ الجندريّ
للوهلة الاولى، قد تتبادر إلى الأذهان قضية عدم التكافؤ الجندري في حضور الوالديْن، وخصوصًا توالي الأحداث المُتعبة والمُعيقة التي تتولى الأم الاهتمام بها وتنظيمها، سواء فيما يتعلق بالبيت من الداخل أم الخارج. وقد نسأل أينَ الأب من كل هذا؟ ولكن الجواب يأتي سريعًا؛ فريثما يدخل الأب البيت فهو يتواجد في المشهد العائلي وبشكل قوي وفاعل وبمهام نوعية تربوية بحتة وليس فقط بمثابة "جليس" لتنهي الأم عملها وتعود للعناية بساري. حيث يمثّل الأب نموذجًا أبويًّا يتعامل باحترام تامّ وبجديّة كبيرة لمعنى عمل الأم، فيهتم من خلال الاقتراح والاختيار (وليس الاملاء!) بطرح إنشغالات وألعاب لا تُصدر أصواتا ويُعلّل ذلك ويفسّره على مسمع من ساري، حتى لا نزعج ماما ونوفّر لها مُناخًا داعمًا لعملها. وفي ذات الوقت اللعبة المُختارة نوعيّة جدًّا تعزّز الاتصال والتواصل الثنائيّ المباشر والصحّيّ بينهما، كالقصّة والدمكا والكرة وتحضير الفُشار معا. وتعزّز وضعيات الجلوس على الأرض ولغة الجسد التعامل مع الطفل ككيان قائم بحدّ ذاته متساوٍ بلا إستعلائية ذات تعامل مبني على طبقية معرفية!
وهكذا، فالطفل مُحاط على مدار المشاهد بالرسائل الثقافية الحضارية سواءً من خلال ديكور المنزل وتنظيمه، أو من خلال محتوياته ومُقتنياته وتوظيفها لاستعمالات ساري. وبالأخصّ وتحديدًا من خلال تعامل والديْه معه ومع مواقف يوميّة عصريّة واقعيّة.
حريُّ بي الإشارة إلى نقطتين مع وجوب الوقوفِ والتّنبيه إليهما:
1. إستغلال مشهد بالون الغاز الموضوع داخل المنزل وداخل المطبخ تحديدا لتنبيه الأطفال من مخاطِره وتبِعات وجوده داخلًا، وتناوله كمحور حواري نقدي توعوي للمخاطر المحيطة والمُهدِّدة (خاصةً أنّ هذا مشهد حيّ وطبيعيّ في الكثير من الدول العربيّة).
2.وكذلك، فإنّ قضية ترك الطفل وحده في البيت (عندما تذهب الام لاقتناء حاجيات البيت والمطبخ والأب في العمل)، فيها من المخاطر الحياتيةِ والفِخاخ التربوية المهولة ما فيها. فلا تجعلنا نمرُّ عليها مرَّ الغافل أو الساذج!
المربّية حنان أبو جارور هي مؤسِّسَة معهد مكين لأدب الطفل والناشئة. حاصلة على ماجستير في دراسة الطفولة المبكّرة. مربيّة أطفال بخبرة 18 عاما في الحقل التربوي. حكواتية وراوية قصص . مدربة استراتيجية شخصية وجماعية معتمدة من التخنيون. ناشطة إجتماعية فاعلة في القضايا المُجتمعيّة التي تُعنى بالطفل والتنمية الإنسانية. حائزة على جوائز قطرية في ابتكار وتطوير مشاريع ومبادرات تربوية مُعتمدة على أدب الطفل وتعزيز فِعل القراءة وتكثيف حضور الطفل في المشهد الثقافي باعتباره جزءًا أساسيًا فيه.
تعليقات (0)
إضافة تعليق