عامًا بعد عام تملأ إصدارات كتب الأطفال رفوف المكتبات في الداخل الفلسطيني وتزدحم في تصاعدٍ كمّي، لتطال هذه الكتب عقول الأطفال وتسبر أغوار نفوسهم وتؤثر في كينوناتهم وأفكارهم ونموّهم وشخصيّاتهم. إصدارات كثيرة لا تواكبها حركة نقدية أو دراسات علمية لتنقب بين سطورها الغثة أو السمينة. وبما أن أدب الأطفال المحليّ ما زال في طور بلورته الأولى، يحاول تشييد لبنة متينة للنهوض بالطفل. من هنا تأتي أهمية هذا النقد كأداة فاعلة في تطوير الأدب ذاته، رغم حداثته وحبوه الأوّل.
"نفتقدُ النقد الموجّه لأدب الأطفال على المستوى المحلي"، هذا ما استهلت به المحاضرة في الكليّة العربيّة للتربية في حيفا، حنان كركبي- جرايسي، مشيرةً إلى أنّ العالم تفوق كثيرًا من حيث الدراسات والأبحاث، حيث لا يوجد مجال للمقارنة بين المستويين المحلي والعالمي. أحد أسباب هذا التراجع هو الصحوة المتأخرة لهذا المجال الحديث الذي بدأ قبل حوالي 30 عامًا فقط، منذ تلك الحقبة حتى يومنا بدأ النشاط لإنتاج أدب متخصص وموجه للأطفال. لذلك عندما يكون لدينا عدد كافٍ من الكتاب بعدها نستطيع ان نسأل ماذا مع النُقّاد، فنحن ما زلنا نبحث عن الكتاب وتشجيع الكتابة ومن الطبيعي أن تحمل المراحل الاولى التخبطات في تأسيس مجال حديث".
وتستذكر جرايسي من تجربتها: "بدأ النشاط في أدب الأطفال ودراساته في أواخر سنوات الثمانين من القرن الماضي. كنا بعض المتخصّصات العاملات في مجال التربية والآداب في عدد من المؤسّسات الأهلية، حاولنا حينها تأسيس مفاهيم قضايا الطفولة المبكرة في المجتمع العربي في حين لم يكن فيه الاهتمام متمركزًا حول الطفل وسنواته الأولى وقضاياه، وهي صحوة حديثة جدًا، ولذلك حتى النقد يجب أن يكون متصالحًا مع محاولات كتابة هذا الأدب وعدم كبته والقضاء عليه قبل أن يولد... فأدب الأطفال المحليّ ما زال في مخاض الولادة".
ومن جهته، أكّد الكاتب سهيل عيساوي أنّ تأخر انطلاق أدب الأطفال أثّر بشكلٍ كبير على سيرورة نقده؛ فبداية هذا الأدب اتّسمت بالصعوبة، ورُغم العوائق حقق قفزة نوعية فاستقطب أدب الأطفال أدباءً وكتّابًا للقصة القصيرة والشعراء، وأولهم نجح وتقرب من هذا الأدب ووظف فكره ولغته فيه، وثانيهم بقي في برجه العاجيّ من دون التطور في مجال أدب الأطفال رغم محاولته."
أمّا الباحث في أدب الأطفال، لؤي وتد، فيرى أنّ "الحركة النقدية تتعلق كثيراً بنوعية الأدب المحلي الصادر للأطفال. فما زال هذا النوع من الأدب يواجه صعوبات مهنية بحاجة إلى تدخّل كبير من مهنيين في المجال. النقص الكبير في نوعية الاصدارات يؤدّي إلى تقلص في الحركة النقدية تجاهها".
لؤي وتد
عن الأسباب الأخرى، أشار وتد مقتبسًا من الكاتب والمترجم إياد مداح قائلاً: "حال أدب الأطفال كحال ثقافتنا الاستهلاكية حيث لا تزال المحسوبيات والعلاقات الشخصية هي ميزان اختيار ما ينشر وما لا ينشر، للأسف، وقصص الأطفال صارت سلعة مربحة لمن يتناولون مجال النشر حيث لا رقابة ولا جسم يراقب تلك المواد، وصار سهلا إغراق السوق بقصص تعمل فقط على تجذير التخلف وعطب الذائقة الفنية والأدبية لدى الأطفال".
ولفت وتد إلى أنّ موضوع المحسوبيات والعلاقات الشخصية يؤدّي إلى الكثير من التراجع والتردّد في نشر كلّ مادة نقدية لاذعة تجاه الأدب المحليّ، "فغالبية من يعملون في المجال يعرفون بعضهم بشكل شخصي ما يجعل النقد أصعب من أجل المحسوبيّات؛ فاليوم أنشر نقدًا لفلان، وغداً سينشر نقداً عن نصّي. التعامل مع مفهوم النقد على أساس الشخصنة أضرّ الكاتب بشكل شخصيّ، وهو مفهوم مغلوط يزرع الخوف والتردد في نفوس النقاد".
المختصة في تطوير الحوار واللغة والتفكير من خلال أدب الأطفال، د. أريج مصاروة، أكّدت أنّ أحد أسباب ضعف الحركة النقديّة لأدب الأطفال العربي في البلاد يتعلق "بصفاتنا كمجتمع يصعُب عليه اعطاء انتقاد شفاف ومهنيّ لزملائنا وتقديم ملاحظات بنّاءة غير هدّامة، وأيضًا يُثار التساؤل "هل لدينا استعداد لتقبل النقد؟" فالناقد الأدبي حين يُقدّم انتقادًا لكاتب أو نصّ معيّن يحتاجُ نوعًا من الشجاعة. بتركيبتنا، نحن مجتمع عربي صغير يحارب على فرص النجاح حتى لو كانت صغيرة ومحدودة، ولذلك لا نملك احيانا قدرة على الاصغاء لهذه الانتقادات بل بإثبات كفاءاتنا وجدارتنا للنجاح".
"النقاد محدودو العدد وامكانياتهم كذلك، مجتمعنا العربيّ مغلق، الجميع يعرف بعضه البعض، تسوده الحزبيّة والفئويّة وتقسيمات أخرى، الأدباء إما يمدحون أو يذمون دون توجيه لهذا النقد في سياقه الصحيح. بعض الكتاب المحليين يتعاملون مع النقد بحساسية مفرطة. من تجربتي كتبتُ نقدًا عن بعض القصص. قسم من الكتّاب أخذ موقفًا سلبيًا منّي وأنا أعتقد أنه يجب أن نكتب وننتقد من دون خوف. يجب على الكاتب أن يتقبل وليس عليه الردّ على ذلك أو تبرير ما كتب"- هذا ما قاله عيساوي مضيفًا أنّ تجاهل النقّاد لأدب الأطفال وعدم اعتباره مجالًا هامًّا هو أحد أسباب عدم نموه، حيث يعتبر الناقد أنّ الخوض في أدب الأطفال هو تواضع منه، فبعضهم يفضل تناول الروايات على أدب الأطفال ظنًا منهم أن هذا الأدب مرتبته أدنى من المطلوب".
سهيل عيساوي
"أحد أسباب عدم تطوّر أدب الأطفال بالوتيرة التي نرتئيها هو أنّ المجال لا يُفسح للكتاب التفرّغ والكتابة"- قالت جرايسي، مشيرةً إلى افتقاد المجتمع العربيّ لمؤسّسات داعمة للكتابة للأطفال، فمعظم المنشغلين به هم غير متفرّغين له ويضطرون للعمل في وظائف أخرى من أجل لقمة العيش، فتبقى الكتابة والنقد في أدب الأطفال هامشًا لا يطورونه في ظل انحسار مجالهِ وتخصصه تطوّره". وتقول أيضًا إنّ الفضاء العام ما زال غير داعم لتشجيع الكتاب أولًا والنقاد ثانيًا، فيسأل الناقد نفسه في أيّ من المجلات الرسميّة أو المحكّمة سينشر، هل فعلًا لدينا المجلات المتخصصة بنقد أدب الاطفال بشكل مركزي؟ وفي كثير من الأحيان يضطر الناقد العربيّ بالنشر باللغة العبرية أو الانجليزية من اجل اسماع صوته وإيجاد مكان معتبر له. وعمليّة انتاج كتب الاطفال في دور النشر المحليّة تشوبها المعادلات التجاريّة التي لها تأثير كبير على قرارات اصدار الكتب، حيث يجد الكاتب نفسه عاجزًا أمام قوانين السوق المؤثِّرة بشكل رئيسيّ على قراراته... كيف يُعامَل هذا الكاتب؟ وهل تحفظ حقوقه؟ ماذا يتلقى مقابل تعبه وانتاجه وابداعه؟ وللأسف، يبقى الكاتب هامشًا في هذه العمليّة وتبقى قوانين البيع والشراء بيد دور النشر، أما الكاتب فإنّه يخرج من الدائرة المستفيدة من جراء مجهوده- تقول جرايسي.
بالمقابل، تلاحظ مصاروة أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة ازداد الوعي لدى بعض دور النشر العربيّة المحليّة حول معايير كتب الاطفال الجيدة والرسومات النوعيّة، معربةً أنّ هناك تطوّرًا لدى دور النشر ولكن ينقصنا النقد الذاتي لأنفسنا في ظل قلّة المؤسسات الحاضنة للكتاب الجدد والمختصين في مجال ادب الاطفال، فليس كل كاتب يستطيع الكتابة للأطفال، إذ على الكاتب أن يملك إلمامًا في عدد من مجالات التربية والتطور النفسيّ اللغويّ، والتطوّر العاطفيّ- الاجتماعيّ، ورؤيا ثقافية داعمة لإجراء تغيير في مجتمعنا".
ويعود وتد ليؤكد دَور دُور النشر في تطور حركة نقدية في الواقع المحلي، بالذات بسبب الضعف الذي يواجهه أدب الأطفال المحلي. هذا الدور يتمثل بوجود رقابة معينة على الأدب تشجع دور النشر على توظيف مهنيين في المجال ومحررين لإعادة التدقيق في الأدب، "ولا أتحدّث طبعاً عن التدقيق اللغوي فقط، بل التدقيق الأدبيّ وملاءمة الأدب لجيل القراء وقدراتهم الذهنية وحتى تحدّيهم في أدب خياليّ وأدب ما بعد حديث يواكب ما يجدونه في الميديا والسينما والتلفزيون وما إلى ذلك".
أريج مصاروة
"هناك تخبط في الأسئلة الجوهريّة في أدبنا الموجه للأطفال، كأيّ من اللغتينيُفضل أن يستعمل الكاتب، العامية أم الفصحى؟ ما هي أفضل طرق عرض أدب الأطفال للأطفال؟ حتى اليوم لا دراسات وافرة تكون مثبتة علميًا بكيفية قراءة القصة للأطفال وكيفيّة ادارة الحوار مع الأطفال"، تقول القاهرة صبّاغ عبد الحيّ، كاتبة وموجهة مجموعات كتابة، ملخّصةً مجال النقد لأدب الأطفال أنّه "بالعادة لا خلفيّات علميّة في النقد وانما أدبيّات غير مثبتة علميًا، هذا ينطبق أيضًا على العالم العربيّ، ولكن في السنوات الأخيرة نلاحظ صدور ابحاث متمركزة وذات جوانب محددة في موضوع اللغة، تطوير الثروة اللغوية، انواع التطرق للجندريّة في أدب الاطفال، ولكن في اعقاب هذه الابحاث لا توجد مصادر ثقة تساعدنا في تطبيقات عمليّة".
ومن جهته، أفاد وتد بأنّ مجال القراءة النقدية لأدب الأطفال ما زال في بداية طريقه من الناحية الأكاديمية، حيث أن معظم الأبحاث تعنى أكثر بموضوع وصف حال الأدب وتطوره أكثر ما هي تتطرق إلى نقده. بالرغم من هذا هناك بعض الأسماء البارزة التي لابد من التطرق إليها، حيث تعتبر ريادية في المجال، منها دراسات دكتورة هالة إسبنيولي حول صورة المرأة في أدب الأطفال العربي، ودراسات دكتورة روزلاند دعيم حول أدب الأطفال وتأثير الأدب الشعبي عليه. بالإضافة هناك العديد من الأسماء المركزية في المجال، مثل دكتورة سلوى علينات (المقاومة في أدب الأطفال) ودكتور رافع يحيى (الفكاهة في أدب الأطفال) وبروفيسور فاروق مواسي (اللغة في أدب الأطفال). هناك العديد من الأسماء الأخرى لكن غالبيتها كما ذكرت تعنى أكثر بوصف حال أدب الأطفال المحلي من ما في قراءته النقدية.
ومن جانبها ذكرت جرايسي الأسماء آنفة الذكر مضيفةً حسين حمزة ومحمود أبو فنة وجهاد عراقي وفاضل علي وخولة أبو بكر ومروان دويري، يرافقهم جيل شاب أمثال لؤي وتد وعلاء حليحل. في مجال دراسات الحكاية الشعبيّة الفلسطينيّة وعلاقتها بأدب الطفل الفلسطينيّ يظهر اسم تغريد السيّد وشريف كناعنة وعبد اللطيف البرغوثي ونبيل العلقم ودنيس أسعد، مضيفةً أن بعض المراكز والمؤسّسات ساهمت بتقدم مجال نقد أدب الأطفال، منها مركز أدب الاطفال في الناصرة سابقًا، مركز أدب الأطفال في الكلية العربية للتربية- حيفا، مركز الطفولة في الناصرة، دارا الطفل في عكا وعرعرة. وتجربة مؤسّسة تامر للتعليم الاجتماعي في رام الله ملهمة جدًا على المستوى الفلسطيني، تُضاف إليها جمعية إنعاش الأسرة في البيرة، رام الله.
استلهم وتد تجارب مُلهِمة من حركة النقد في أدب الأطفال الأمريكي والكندي والأسترالي، طارحًا إيّاها كأمثلة قوية مرّت بتجارب ناجحة جدًّا دفعت الأدب ليكسر العديد من الحدود ويصبح أدبًا قيّمًا وناقدًا، ولكن هذه الحركات جاءت أولاً من الأكاديميا ومن دراسة ثقافة الطفل بشكل شامل لا يقتصر على النواحي التربوية والنفسية، فقط. في استراليا مثلاً، كرّست العديد من دور النشر الكثير من الميزانيات للناقدين ليساعدوها على دفع الأدب ليصبح متقدّماً ويواكب حياة الأطفال وثقافتهم عامةً.
ونوّه وتد إلى أنّ هناك أهمية كبيرة للنواحي التربوية والنفسية ولكنها غير كافية لدفع أدب الطفل إلى الأمام، بل هناك حاجة لتوسيع الآفاق ووجهة النظر نحو ثقافة الطفل عامةً، من ألعاب وسينما ينكشف إليها ويشاهدها.
أرنوبيَّة: من كآبة الفقدان إلى الإبداع في الذكرى
تعليقات (0)
إضافة تعليق