اخترنا لك
حارة مرّو: صداقة بين طبقية
اخترنا لك: كتب
"حارة مرو" هي قصة من إصدارات مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعي عام 2015، كتبها أنس أبو رحمة ووضعت رسوماتها يارا بامية. تتناول القصة مغامرات طفل ضاع والداه في البحر، وظلّ هو في البيت، ينتظر خبرَا عنهما ويذهب إلى المدرسة، ويحاول صنع الكعك لهما ويصادق مروّ كناس الحارة.
أبو رحمة كاتب قصص للأطفال واليافعين صدر له: "أغنية البئر" و"نزل الذرة الصفراء"، وأمّا كتاب "حارة مرو" فهو واحد من الكتب التي وصلت إلى القائمة القصيرة في قائمة جائزة "اتصالات" لأدب الاطفال وذلك عن فئة أفضل نصّ..
قبل مدة استضافت وزارة الثقافة الكاتب أبو رحمة في نابلس في ندوة حول أدب الأطفال. وفي مداخلته الجميلة تحدّث أبو رحمة طويلا عن استلهام الغولة في أدب الأطفال، واستلهام القصص السرية والمغامرات المنسيّة لإغواء الطفل بداخلنا، نحن القراء الكبار. أمّا القراء الصغار فمن أجل إرسالهم في مغامرة للبحث عن بيت الكعك والتهامه والقراءة. والحقّ أنّ أبو رحمة لم يخرج في كل ما قرأته له -حتى اللحظة- عن هذه القاعدة: ففي كلّ مرة يكتب فيها، يبدو طفلا ينقّب عن التجارب الجديدة أو يعيد تسليط الضوء على زوايا جديدة ليراها الأطفال بشكل مختلف. ويميل أبو رحمة إلى التجريب في نصوصه بكثرة، وفي هذا الكتاب يجرّب نمطًا مثل الرسائل وقصاصات الأخبار. ورغم أنّ هذه الأنماط ليست غريبة تمامًا عن أدب الأطفال، إلا أنّ الحياة تكاد تقفز في ثناياها نتيجة لتميز اللغة التي يكتب فيها أنس هذه النصوص.
غير أن اللغة خداعة، وخدعة أبو رحمة هنا قد لا ترضي الكثيرين. فالنص يخلق جدلًا لغويًّا عميقًا بين متلقّيه من الكبار. ففي النصّ كلمات مثل: أنتينه، بسكيلتّه، أخشم، وهي كلمات تقع بين التفصيح والتعريب والعاميات، وسيجد الكبار أنفسهم أمام مأزق التصنيف اللغوي والقلق على "التلوّث" اللغوي للأطفال. وهنا يمكن لنا أن نطرح سؤالًا على أنفسنا وعلى الكاتب حول هذا الاستخدام اللغوي الذي قد يوقع الأطفال في منزلقات الاعتقاد بالبنية الفصيحة لهذه الكلمات أولا، ومن ناحية ثانية، نستذكر تجربة سماح إدريس في الكتابة للأطفال في كلٍّ من الملجأ وفلافل النازحين وقصة الكوسا والتي استعمل فيها نفس "الاستراتيجية " اللغويّة. غير أنّ لسماح ادريس فلسفة عرضها مرارًا وتكرارًا ومقصدًا ذهب فيه أنه يفعل هذا ليحافظ على اللغة العربيّة ولاعتقاده بأنّ في اللغة مرونة تسمح له ببعض المناورات الطفيفة والتي تقرب اللغة من الطفل. وأتساءل هنا: هل يجد أبو رحمة لنفسه، أيضًا، فلسفة لغوية ما، أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون تجربة لغويّة؟
قال أحد النقاد مرة: الكتابة كتابة على كتابة، والمعنى أن ليس ثمة نصًا خاليًا من نصوص أخرى سبقته، وأنّ النقد أحيانا يكون عمليّة حفر بين طبقات النصوص، في محاولة لإيجاد النصّ السابق، أو النصّ الأم، الذي أوحى بهذه الفكرة أو تلك، وأحيانا هذه الكلمة أو تلك. في نصّ "حارة مرو"، كان النص الأول الحاضر هو جنان في بيت يا ليت.. فطفل أنس متروك في بيته وحيدًا بعد أن تاهت عائلته في البحر، وجنان وحدها في البيت متروكة لأسباب مجهولة، لتلعب وتكتشف وحدها، وتقيم الصداقات مع الجيران. وتبلغ المقاربة أوجها في المشهد الذي يقرّر فيه بطل أبو رحمة أن يعدّ الكعك، وهو يذكّرنا كثيرًا بمغامرة جنان ومحاولتها إعداد الكعك لتحتفل بعيد ميلادها.
وطبعا ليس ثمة تطابق كامل بين الأحداث: فهناك نقاط مضيئة تخبرنا بأنّ روح جنان كانت حاضرة في قلم أبو رحمة، وهناك المخالفات والتي قد تكون كثيرة والتي تمرّد فيها بطل أبو رحمة على روح جنان وربما فاقها شقاوة وطرافة.
وأمّا الكتاب الثاني الذي تحضر روحه بشكل مختلف تمامًا فهو "الكناس"، وهو نصّ ورسومات ماتيلد شيفر ومن إصدارات دار الشروق. يعيش كناس ماتيلد شيفر في سطح منسيّ لإحدى العمارات في القاهرة. وفي النهار يجمع قصاصات الورق والجرائد وأمّا في الليل فيصير قصّاصًا يعيد ترتيب القصاصات ويحكي الحكايات للأطفال.
للوهلة الأولى قد يبدو النصان مشتركين تماما في شخصية الكناس الذي يجمع القصاصات ويحكي الحكايات، لكنّ كناس شيفر هو كناس غير معروف. فضمير الهُوَ المستخدم في نص شيفر يمنعنا نحن القراء من الاقتراب من كناس شيفر والاستماع إلى حكاياته، إنه يحول بيننا وبين شخصيته ويجعلنا نرسم حدودا خارجية لها من دون أن نعرفها هي أو نحتك بها. أمّا في نص أبو رحمة فضمير الأنا يحوّل الحكاية إلى حكاية شخصيّة جدًا؛ فنحن نتعرّف بهذا الكناس من خلال صوت البطل، ونحتكّ به، بل إنّنا نسمع حكاياته بوضوح من خلال القصاصات التي يتركها والأغاني التي يبتكرها، إنه يتجاوز حالة الضبابية إلى حالة معرفة. فهو مروّ، وهو صاحب الحارة ومفردات عالمه تشكل مفردات الطفل ومغامراته تشكل كيان هذا الطفل. إننا هذه المرة نقترب جدا من الشخصية ونعرفها بحق من دون حواجز. وهو الأمر الذي يتفوق فيه أنس ويتجاوز قصّ فيشر فيه أيضًا.
ملاحظة أخيرة: "متى ستنقذ الكون يا أنس..؟" ربما عليّ أن أجيب وأقول: "ربما حين يغني كيمو لنا، وتخطف القطة سهوكة كل علب التونا المخبّأة، ويكفّ الآباء عن إغراق الصغار بالبصاق ويرقص القراصنة على ألحان نشرة أخبار بندورة وخيار، حينها فقط: يمكن أن ينقذ الكون أحد الأطفال ويصير أفضل".
- التاريخ: 06/11/2016
- كلمات مفتاحية: كتب