من رحمِ المعاناة تكوّنت نواة رؤيا مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ إبان الانتفاضة الأولى، التي أجبرتْ الطلاب على التعلّم بالمنازل والمدارس الشعبيّة عوضًا عن المدارس الاعتياديّة، بسبب خطورة الأوضاع الأمنيّة آنذاك. بين الأزقةِ الفلسطينيّة عمل الكاتب والتربويّ منير فاشه إلى أن لاحظ أنّ الأطفال يتعلّمون بشكل أنجع عن طريق القصّة. فقرر فاشه إنشاء مؤسسة تامر عام 1989 في رام الله، استجابة لحاجة المجتمع الفلسطينيّ الملحّة لاكتساب وسائل ناجعة تساعد في التعلّم والإنتاج في ظلّ ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة خلقها الاحتلال الإسرائيلي.
وتعرِّف مؤسّسة "تامر" الناشطة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة نفسَها، بأنّ لها "برنامج واضح يتركّز في تعزيز القراءة، الكتابة، والتعبير عن الذات بكافة أشكاله لدى الأطفال واليافعين، وبناء بيئة مساندة لثقافة التعلم في فلسطين"، ومن هنا انطلقت المؤسسة في عددٍ من المشاريع الفاعلة.
في حديثٍ لموقع "حكايا" مع مُنسّقة المؤسّسة في مدينة نابلس، آلاء قرمان، أفادت بأنّ المؤسّسة تعمل مع 70 مكتبة مجتمعيّة تقريبًا في الضفةِ الغربيّة وقطاع غزة، كمكتبات البلديات والجمعيّات الناشطة في مختلف المدن والقرى والمخيمات، مُقدّمةً عددًا من المشاريع والحملات منها "التعليم التشاركيّ" و"التعليم الجامع"، إلى جانب ثلاث حملات أساسيّة تقام بالمدارس على مدار العام.
وتابعت قرمان أنّ مؤسّسة "تامر" تحاول اعادة صياغة عمليّة التعليم بين الطالب، المعلم والمدير، كما هو الحال في مشروع "التعليم التشاركيّ"، "ونحاول إعادة النظر بالمنهاج وصياغته مجدّدًا في عمليّة تشاركيّة ليكون المنهاج أقربَ لعالم الطالب، وهو مشروع يستهدف المعلمين والطلاب والمدراء ويعمل مع المكتبات أيضًا". وأضافت: "نحن نحاول أيضًا معالجة قضايا مجتمعيّة متعدّدة كالتسرّب من المدارس والإعاقة وعمالة الأطفال وسواها، عبر قراءة القصص والكتب المعنيّة بالأطفال. فالكتاب هو أداة للتوجّه للطفل، وهذا ما يعمل به مشروع "التعليم الجامع" الذي نحاول من خلاله خلق بيئة أجمل للأطفال ليحبّوا المدارس، وذلك بسبب نسب التسرّب العالية من المدارس في مدن الضفة الغربيّة ونابلس تحديدًا. فمن خلال القصّة نفحص مع الطالب عددًا من الأسئلة: كيف يرى بيئته وعائلته؟ كيف يرى المدرسة؟ ما هو حلمه؟ وفي الغالب تجري هذه الفعاليات في مكتبات المدارس".
أمّا حملات القراءة التي تجري على مدار العام فهي ثلاث، أوّلها حملة "تشجيع القراءة" المُقامة منذ عام 1992 في المجتمع الفلسطينيّ: "في كلّ عام تأخذ الحملة موضوعًا مختلفًا تطرحه من خلال القراءة في المكتبات المجتمعيّة، هذا العام أُدرجتْ الحملة تحت عنوان "ما تقوله الأرض"، ونعني بها علاقة الإنسان مع الأرض والبيئة والزراعة والتجوال. موضوع الحملة يتغيّر كلَّ عام لتطرح القصص موضوعات متجدّدة ونناقشها مع الأطفال"، وفقًا لقرمان. ثانيًا حملة "أبي اقرأ لي" التي تهدف لدعوة الآباء إلى قراءة القصص لأطفالهم؛ وثالثًا "أنا تبرعت بكتاب"، وهي حملة تعمل مع المجموعات الشبابيّة القائمة على جمع الكتب والتبرع بها للمكتبات التي لا تحوي عدد كبير من الكتب.
الفكرة النمطيّة ترسّخ دور الأم في قراءة القصّص والاعتناء بالأطفال، وسواها من أعمال التربية التي يغفل عنها الأب ولا يقوم بها. ومن هذا المنطلق تدعو مؤسّسة "تامر" الآباء للقيام بهذا الدور باصطحاب أطفالهم إلى المكتبات والقراءة معهم، ليشاركوا في العمليّة التربويّة والتعليميّة لأطفالهم. وشرحتْ قرمان تجربتها مع مشروع "أبي اقرأ لي" السنويّ: "في عملي كان يُقلقني السّؤال "هل سيحضر الآباء إلى النشاطات؟"، فقررنا اتّباع وسائل اعلاميّة محدّثة باستخدام منصّات التواصل الاجتماعيّ التي مكّنتنا من الوصول لأكبر شريحة من الأهالي وتسجيل اشتراكهم بالمشروع بطريقة سهلة، وبعدها قمنا بعمليّة فرز للمشتركين وفق الزوايا المختلفة. وبالفعل حضر عدد كبير نسبيًا من مدينة نابلس، 300 طفل رافقهم 70 والدًا.
تشيرُ قرمان إلى أنّ اهتمام الآباء بالقراءة لأطفالهم يتصاعدُ عامًا بعد عام، خاصةً لدى الآباء الشباب والجدد. ولكنّ هذا الحَراك ليس كافيًا؛ فمعظم الآباء يفضّلون تناول الموسوعات العلميّة دون سواها من القصص ذات الأهميّة الكبرى في تنشئة الطفل: "المعضلة تكمن في تغيير التوجّه نحو القصّة، كثير من الآباء يستخفون بقيمة القصص، وربما يعود السبب لحداثة قصص الأطفال بالمجتمع الفلسطينيّ وحصر القصّة ببعض القصص التقليديّة كليلى والذئب، من دون أن يكترث الأهل والآباء خاصةً بالأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة الكبيرة والخطيرة في قصص الأطفال".
وتضيف قرمان: "في هذا السؤال جوهر الفكرة: لماذا يقرأ الأهل القصص لأبنائهم ؟ الجواب: هناك علاقة تشاركيّة وتفاعليّة في ذلك. الطفل يستمع للقصّة ويتحدّث عنها، يعبّر ويعلّق عليها، ومن خلال هذه التعليقات يمكن إعادة بناء علاقة الطفل بوالديْه، معرفة مشاكله وطريقة تفكيره، وما الذي لا يعرف الطفل الحديث عنه وما هو بارع به... القصّة تسمح بخلق علاقة حميميّة أكثر من أيّ مصدر آخر للقراءة". وأوضحت، أيضًا، أنّ تناول الموسوعات العلميّة دونَ القصص قد يضيّقُ ويَحدّ من مساحة الخيال لدى الطفل، وبهذا نحاول تلبية اهتمام الأهالي وبعض الأطفال بهذا الجانب العلميّ عن طريق بعض الفعاليات المختصّة بالعلوم كما فعلنا العام المنصرم بالتعاون مع مؤسّسة "عبد المحسن القطّان" لتقديم معروضات علميّة، مشدّدةً على أنّ الأهالي في مركز عمليّة القراءة: "نحن والمدارس والمعلّمين نعمل على القراءة، ولكن للأسف حين يعود الطفل إلى منزله يجد والديْن غير مهتمّيْن بالقراءة ويطلبان منه أن يدرس عوضًا عن أن يقرأ، ومن الأهالي من يقوم بمصادرة قصص أطفاله، والبعض الآخر يمنع أطفاله من المجيء إلى المكتبة أساسًا، وللأسف عادةً ما يقوم الأطفال بتقليد الوالديْن ويحذون حذوهم".
تُفدم مؤسّسة "تامر" في المكتبات المجتمعيّة وُرشًا ونقاشاتٍ وفعاليات دراما ورسم حول مجموعة من الكتب، وفقًا للمشاريع السابقة، وتحاول المؤسّسة ردم الفجوة بين الطفل والكتاب كي يكون مادة يتفاعل معها الطفل، عبر الفعاليات والأنشطة المختلفة التي تشجّعه على اكتشاف الكتاب ليصبح ذا معنى، وليتجرّد من كونه كتابًا فقط.
عن معايير اختيار الكتب قالت قرمان إنّ أهمّ معيار باختيار قصص الأطفال هو "توفيرها للمساحة"، وتعني القصص التي تفتح الخيال وتطرح قضايا للنقاش والتفكير، وتسمح للأطفال بالتفاعل معها. وتنشر المؤسّسة عددًا من كتب الأطفال، بينما تشتري القسم الآخر وتوزّعه على المكتبات المجتمعيّة. قرمان: "عندما يقرأ الطفل شيئًا يحتاج للتعبير عن نفسه وهي عمليّة يهملها البالغون بطريقةٍ أو بأخرى. فليس من المهمّ أن يقرأ الطفل معلومة ما ولكن من المهمّ أن يتفاعل معها ويناقشها مع سواه، وإذا لم يتحدّث عنها تكون غير مهمة بالنسبة له على الغالب، أو أنّ يفتقر لمساحة التعبير أصلًا".
فكرة توفير مساحة ليست أمرًا سهلًا، تقول قرمان: "هناك عدد من التوجّهات والفلسفات تعارض منح الطفل مساحة عالية في مجتمعنا الفلسطينيّ، ومنهم من يرى بنفسهِ صاحب القرار الأوّل والأخير باختيار الكتاب، وهذا أمر مقلق لأنّ نوعيّة بعض القصص والكتب الموجودة سيّئة، وهي قضية يجب تداولها مع المعلمين والمكتبيّين والأهالي، وأعني بالسيّئة الكتبَ الوعظيّة والمُملّة منها التي تلقي الأوامر على الطفل، مع التشديد على أنّ أطفال اليوم منفتحون على الشبكة العنكبوتيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ، ولذلك فهم أذكى من أن نقدم لهم أسلوبًا وعظيًّا مباشرًا".
تورد قرمان، كمثال، قصّتيْ "قوانين الصيف" و"الشجرة الحمراء" لشان تان، وتعتبرهما "خير مثال" على المساحة الممنوحة للطفل، مستلهمةً من تجربتها: "في كلّ مرة نتناول هاتيْن القصّتيْن ونقرأهما مع الأطفال تتكشّف مساحة مذهلة للأطفال للحديث والتعبير بالفنّ... ففي كلّ صفحة من صفحات الكتابين مساحة متكاملة للطفل، وأضيف إليهما قصّة "رحلات عجيبة في البلاد الغريبة" لليافعين، وهو كتاب يتيح للأطفال تناوله بمفردهم والتماهي مع شخصياته وأفكاره. بالمقابل، هناك كتب تحتاج إلى مُيسِّر واعٍ حول كيفيّة طرح الكتاب ليخلق هذه المساحة، ليس انتقاصًا من فهم الأطفال ولكن من منطلق "كيف أطرح هذا الكتاب؟" كما هو الأمر بقصّة تبدأ بجملة "لا تترك أبدًا جوربًا أحمرَ معلّقًا على حبل الغسيل". فالأطفال عادةً يستغربون ذلك ويقفون حائرين إزاء كلماته، وهنا ينكشف لدينا نوعان من الكتب: الأول يستطيع الطفل تناوله وحده والرجوع بالتغذية الراجعة، والآخر بحاجة لمُيسِّر يقرأه معهم ويفتح النقاش لاستخلاص التغذية الراجعة".
تعمل مؤسّسة "تامر" في مختلف المناطق، وأسأل قرمان عن كيفيّة ملاءمة احتياجات الأطفال المختلفة لهذه المساحات. قرمان: "الطفل في المخيم يختلف عن طفل البلدة القديمة في نابلس أو رفيديا أو القرية، هذا صحيح، كلّ مكان يختلف بخصوصيّته بخصوص الدخول إلى عالم الأطفال عن مكان آخر. الأمر ليس سهلًا لأنّ الطفل في المخيم يحتاج نمطَ عمل يختلف عن الطفل في بيت فوريك، وأطفال بيت فوريك يختلفون عن قبلان، إلى آخرهِ. ولكن في العموم، يحتاج معظم الأطفال لمساحة تعبيريّة وتفكيريّة وفنيّة من دون الحكم المُطلق من الكبار ومن دون تعليقات مختلفة مُقوْلَبة من أمثال "رسمتك جميلة"؛ "رسمتك قبيحة"؛ "لماذا رسمت الشجرة حمراء؟ هي خضراء!"... هي المساحة الخالية من سلطة الكبار، وهي ما يحتاجها كلّ طفل أينما وُجد. وفي الدرجة الثانية تأتي تلبية حاجيات الأطفال تبعًا لظروفهم المعيشيّة".
وعبر تجربتها في قرية بيت فوريك بقضاء نابلس، تشير قرمان إلى أنّ الأطفال في تلك القرية مرّوا بنقاشات لقصص وأفلام وأنيميشن (تحريك) على مدار الأعوام الماضية، وتعرّضوا لتجارب فنيّة مختلفة في مكتبة القرية. وتضيف: "حدث ذات يوم أنّ مكتبتهم نُقلت إلى مكان آخر بسبب قرارٍ من رئيس البلدية. التزم غالبيّة المواطنين الصمت خوفًا من الحديث معه، حتى وصل الأمر بالأهالي بأمر أبنائهم بالحياد عن الموضوع والرضوخ للقرار منعًا من التسبب بمشكلة. لكنّ قسمًا من الأطفال خرجوا ورفعوا اللافتات تعبيرًا عن حقّهم بهذه المكتبة مؤمنين بالدفاع عمّا يُحبّون وقد استطاعوا التعبير عن ذواتهم وأفكارهم. ويُلاحظ من هذه التجربة أنّ المساحة التي منحت للأطفال ساهمت في بناء شخصيّاتهم ما تجلّى واضحًا في سلوكياتهم إزاء الحدث".
وقبل انتهاء الحديث أوصت قرمان الأهل والمدرِّسين بفتح مساحة للأطفال وعدم الاستخفاف بآرائهم وتعبيرهم حول القضايا المختلفة، فهم يطرحون أفكارًا كبيرة وهامّة تستحق الطرح في المجتمع الفلسطينيّ.
آلاء قرمان
مادة قرمان في موقع حكايا:
حارة مرّو: صداقة بين طبقية
تعليقات (0)
إضافة تعليق