حكايا

أچاتا تريد أن تطير: أدب تراجيدي للأطفال


أچاتا تريد أن تطير: أدب تراجيدي للأطفال
هل تحررت أچاتا من المدفع لأنها صنعت هذا الواقع، أم لأنّها صبرت حتى نهاية موسم العروض؟ * قراءة لقصة "أجاتا تريد أن تطير"
ياسمين حجيرات

"اچاتا تريد أن تطير" هو عنوانُ قصة أطفال جذَبني من دون أن أقرأ النّصّ؛ كُتِبَ أنها قصة "بنت سمينة تظهر في عروض السيرك وتطير كل يوم إلى السماء من فوهة المدفع إلى أن تتجرّأ في يوم من الأيام وتحلّق مع أحلامها بأن تصبح راقصة". وكونه كان حينها كتابًا قيد الاعداد واقتنائي له "سيساهم" بخروجه لحيّز التنفيذ كان هذا كافيًا لأدعم المشروع وأشعر بأني أختار تمثيل غير مُقولَب للشخصية بعيدًا عن المعايير المتداولة، وكل هذا وأنا أتابع احتساء قهوتي في بيتي وأشعر بأنّي جزء من تحقيق "حلم غيري" في مكان ما، تمام كالاكتفاء بضغطة "اللايك" لكن بتورّط أعمق.

أچاتا تريد أن تطير- هل هذا ما أرادته أچاتا حقًا؟

أچاتا فتاة سمينة تظهر عليها علامات البلوغ الأولى، تلبس زيّ السيرك الضيّق المخطّط بالأحمر والأبيض، وجهها مدوّر، عيناها غائرتان وابتسامتها مقتضبة. أچاتا تَصحَب القارئ الى عالمها الخاصّ وتشاركه تخبّطاتها حول واقعها كفتاة المدفع في السيرك. فهي تتأرجح بين تقبّل واقعها المبهر المليء بالأضواء تارةً، ورفضه تارةً أخرى بالهروب منه الى عالم الفانتازيا والخيال. يستحوذ عليها السخط والغضب أحيانا ولا يخلو الأمر من الحماسة والترقّب في أحيان أخرى.
أحببت هذا الطّرح لطَيف متنوّع من الحالات الشعوريّة التي تختلج النفس البشريّة والتي غالبا تظلّ طيّ الكتمان. النصّ يعطي كامل الشرعية لتجربة مشاعر عدّة في آن واحد، اتجاه واقع معين. هذا التداول والخطاب الذاتيّ العميق للمشاعر اللذان تمرّ بهما أچاتا، يشكّلان فرصةً ودعوةً للقرّاء الصغار لإدارة حوار صريح مع ذواتهم أو مع الأخر، فيه تكون لهم كامل الحرية بالتعبير عن مجموعة الانفعالات تجاه أيّ أمر أو واقع معيّن يمرّون فيه، خصوصًا أنّ التعبير عن المشاعر على تدرّجاتها المتباينة والمتفاوتة في مجتمعنا محدود، وأنا أعزو ذلك للتخوّف من مواجهة مكنونات النفس والحالات النفسيّة المركبة التي يقتضي التعامل معها في اعقاب هذا الانكشاف، وأيضًا لاضمحلال مفردات اللغة اليوميّة والتي غالبا ما تتلخص بـ "أحبّ ولا أحبّ"، من دون الغوص في النسيج الذي بينهما.

قذيفة بشريّة؟ أم مدفع وقوده الإنسان؟

لا أخفيكم: العرض البهلواني الذي تقدمه أچاتا أثار ارتيابي، وبعد بحث سريع في الشبكة العنكبوتية أتضح أنه عرض أدائيّ يُقدّم كفقرة بهلوانية في السيرك، والقذيفة البشريّة هي تعبير فعليّ لما تعنيه الكلمة، إذ أنّ المؤدّي المتهوّر يحزم نفسه في الحدود الضيقة للمدفع المخصّص والذي بدوره يطلقه في الهواء نتيجة الافراج عن ضغط الهواء المضغوط. بعد الانطلاق تهبط القذيفة البشرية على شبكة ممدودة بشكل أفقيّ أو على فرشة منفوخة بالهواء أو في داخل وعاء ماء كبير كما في قصة أچاتا، وموقعهم يتحدد وفق حسابات علم الميكانيكا الكلاسيكيّ. هذا الاداء له جذور متأصّلة في عالم السيرك القديم منذ 1871 وحتى زمننا الراهن، بكل المخاطر الجسيمة المرافقة لذلك.
السيرك وسيلة ترفيه تعتمد على الإبهار، وعرض واستغلال كلّ ما هو غريب من عالم الحيوانات والبشر. وفي سياق النصّ يتمثل الإبهار بشخص "أچاتا السمينة" التي تؤدّي عرضًا بهلوانيًّا خطيرًا؛ فهي تشعل الأجواء لترفيه وتسلية الناس- والسيرك بدلالاته ورمزيّته الأدبيّة كمسرح يمثل الحياة الحقيقيّة. ويطرح كلا المفهومين لماهية السيرك تساؤلات كثيرة يثيرها النصّ حول ثمن متعة الفرجة والمقابل له ثمن الاستعراض الذي عبرت عنه أچاتا مجازًا بضياع العشرات من قبعاتها ذات الريش أثناء العروض:"الكثير من هذه القبعات أصبحت تذكارًا بين أيدي جمهورها".
معادلة الكسب والخسارة مقابل إعجاب الجمهور أو القبول المجتمعيّ هما قضيّة عالقة يختبرها الفرد بشكل يوميّ، وغالبًا ما يتحدّد مسار حياته وفق لحلّه لهذه المعادلة؛ مادة شائكة يطرحها النصّ وهي قضيّة تشغل بال المراهقين الصغار في طور صقل وبناء هويّاتهم وترافقهم طيلة حيواتهم. وطرح مثل هذه القضايا الفلسفية يطوّر لدى الطفل قدرة تحليل وصياغة الأمور وفق معايير يتبناها وأخرى ينبذها، كلٌ وفق عالمه المفاهيميّ المتلائم مع تطوّره الذهنيّ والعمريّ.

السّمنة

تساءلت بعد قراءتي المتكررة للنص حول الدور الدرامي الذي تمثله سمنة أچاتا: هل هي وصف خارجيّ مغاير للشخصية؟ هل هي ميزة من مميزات أچاتا وليس بالضرورة أنّ سمنتها المفرطة تشكل مصدر إزعاج لها؟ هل السمنة هنا من أجل تمثيل وظهور منصف للمختلفين في المجتمع وإعطائهم الحق بأن يكونوا "أبطالًا" ذوي شخصيات مفعمة بالحضور، من دون تكبيلهم مجدّدًا وتصنيفهم تحت خانة واحدة وهي الوزن المفرط؟ (رغم انّ التقارير الصحيّة الأخيرة تشير إلى أنّ نسبة ذوي الوزن الزائد في البلاد تتعدى نصف عدد السكان)... أم أنّ موضوع السمنة قضية مركزية يتبناها النص ويعالجها؟
أچاتا الفتاة السمينة التي تطير بالفضاء هي مصدر للتسلية في السيرك الذي لطالما تبنى المختلفين خُلقيًا على مرّ الزمن لإضحاك الجمهور، كالأقزام مثلا، وفي الحياة الحقيقية لا تختلف معاملة الأطفال السمينين من محيطهم بالكثير عمّا يحدث بالسيرك. برأيي النص يتطرق بشكل ذكيّ جدًّا لما تعايشه أچاتا الطفلة السمينة التي تجد توازنها عند تناولها الأكل أو "الأكل العاطفي" الذي لا علاقة له بشعور الجوع أو الشبع، إنّما يتم كردّ فعل على مشاعر مثل الغضب والاحباط والشعور بالذنب وهكذا. الكبار والصغار على حدّ سواء يستخدمون الطعام لملء حرمان عاطفي، حيث أنّ الاكل يساعد بتخفيف حدّة الاحساس بالوحدة، ويبعث على الهدوء والمواساة. ومن الناحية الفسيولوجيّة يساعد تناول الطعام على تشويش مشاعر كالتوتّر والقلق وتخديرها. في أثناء عملية الهضم يتدفق الدم إلى المعدة بدلا من الساقين والدماغ- عكس ما يحدث اثناء الشعور بالتوتر. بالإضافة الى ذلك يقلل تناول الطعام من مستوى هرمونات التوتر التي يفرزها الجسم. وكذلك فالطعام الحلو يؤدّي لإفراز السيروتونين من الدماغ والذي يساهم بجعل المزاج جيدًا. وسلوكيات الأكل هذه يمكن أن تولّد عادة إدمانيّة حين يكرّرها البالغ أو الطفل بهدف الاسترخاء والتعويض وما إلى ذلك. أچاتا أستخدمت الاكل لإدارة مشاعرها السلبية وهذا أمر شائع وغالبًا ما يؤدّي لاضطرابات الأكل، مثل النهام العصبي وفقدان الشهية، وهذه فرصة للتفكير مع الصغار بسلوكيات بديلة وواعية وطرق بسيطة لمسايرة التوتر.

استراتيجيات تأقلم أم إبداع في ترجمة الواقع؟

عدا عن سلوك الاكل العاطفي اعتمدت أچاتا طرقًا مختلفة للتعامل مع واقعها المرفوض، وكان متفاوتا بين استراتيجيات تلاؤم وآليات دفاعية مختلفة في القصة:
أحلام اليقظة
كانت أچاتا تميل إلى العيش أحيانا أحلامَ يقظة حتى تتمكّن من تقبل الواقع، فتتخيّل أنّها عصفور وأحيانا تشعر بأنّها قطار يأخذ ركاّبه ذهابًا وإيابًا، وقد ساعدتها هذه الآلية على التخفّف من مشاق الإقلاع والهبوط؛ فالانفصال العاطفيّ شكّل آليّة تلاؤُم أو وسيلة دفاعية من اجل السيطرة على توترها. أحيانا لهذا الانفصال مزايا علاجية، في حين يمكن لتحوّله إلى نمط دائم من الانفصال أن يتحوّل لاضطراب.

النجمة
"سوف نقضي وقتا ممتعا هذه الليلة، قالت لها النجوم". دراسات عدّة وجدت أنّ غالب الأطفال الذين نجوا من واقع مرير وكبروا ليكونوا بالغين وأصحاء نفسيًّا كانوا يتشاطرون قواسم مشتركة بينهم: أنّهم آمنوا دومًا بأنّ قوى عليا خارقة تحرسهم وتهتمّ بهم.

الخطاب الإيجابيّ
كان لدى أچاتا يقين بأنّها ستتحرّر من المدفع يومًا ما، وكانت تتحلى بالصبر منتظرة هذا اليوم الموعود.

التعويذات
تعويذات بهيئة جمل تحفيزية حكيمة ردّدتها وآمنت بها، وجعلتها تبتسم:
"لدينا دائمًا، فرصة أخرى لنكون نحن أنفسنا."
"أنا فقط، أعبر من هنا، كهذا الإوز المهاجر."

اللغة البصرية في القصة

الرسومات في القصة جذابة ومتقنة تروي مستوًى موازيًا للنصّ وآخرَ مكمّلًا من خلال تقنيات وأساليب فنية. اُستُخدمت ألوان محدودة بتدرّجات متعدّدة في جميع صفحات الكتاب، فوحّدت اللغة البصريّة فيه، الأحمر والأبيض هما لونان مقترنان بعالم السيرك ويذكران به بشكل واضح؛ الأسوَد استعمل كلون مُكمّل للتفاصيل المُكمّلة والظلال، إلى جانب اللون البنيّ الذي جرى توظيفه لتعريف الخلفيّة وبعض الأغراض. هذا الاختزال اللوني ساهم في تشكيل عالم مختلف ومتفرّد ليروي قصّة أچاتا بكلّ خصوصيتها على المحورين الداخلي والخارجي.

الخلفية

أثر القهوة
الخلفية البنيّة تذكّر بألوان بقع القهوة، وهي تنتشر بانسيابية بتدرّجات لونيّة متفاوتة وتتوزّع ذاتيًّا بشكل عشوائيّ في حيّز الصفحة المُتاح، هذه التقنية تساهم في انعزال احداثيات القصة الجغرافية والغوص بعالم أچاتا العاطفي: ضبابيّ وحزين ومميز.

الاختفاء
في مواضع معينة تنصهر شخصيّة أچاتا بالخلفية التي تبدو كنسيج خيمة السيرك المخططة بالأحمر والأبيض، فتتكامل خطوط لباسها مع خيوط الخيمة. هذا الذوبان بالخلفية يصف علاقة أچاتا بواقعها الذي أصبحت أسيرته وتتمنّى التحرّر منه.

المنظوريّة ومعادلة اللا توازن
تقسيم المساحات وتناسب حجم الشخصيّات ومكوّنات الرّسمة معادلة تتغيّر في كلّ صفحة، فمرة تمتلئ الصفحة بأچاتا حيث زاوية الرؤيا هي من الأعلى ويصغر المدفع والجمهور، وأحيانًا أچاتا صغيرة وبعيدة وزاوية الرؤية من الأسفل. هذا التنوّع بمنظورية الاجسام يأخذ المتفرج برحلة يرى بها الأحداث والشخصيات كلّ مرة من منظور مختلف، الأمر الذي يدفع القارئ لتحليل النصّ بطرق مختلفة والتعاطف كلَّ مرة مع جانب مختلف من القصة.
تناسب أحجام الشخصيات والاجسام وتقسيم المساحة ما بينها على الصفحة هي معادلة ليست بمتوازنة؛ فمرة السائس يتمركز وسط الصفحة صغيرًا ووحيدًا ومرّة أخرى هو مخيف وأچاتا الى جانبه صغيرة ومذعورة. هذا اللاتناسب يشحن الأجواء ويجعلها درامية مليئة بالانفعالات والتوتر.
ويعتمد الرسم في القصة أيضًا أسلوب اللقطات القريبة للشخصيات، إذ تعرض هذه اللقطات التفاصيل وتغوص في تعابير الوجه وانفعالاته والحالات الشعورية التي تمرّ بها أچاتا.
جميع هذه التقنيات: زوايا الرسم المختلفة، تقسيم المساحات واللقطات القريبة تذكر بعالم السينما والانتاج التلفزيوني والتي تطفي طابعًا دراميًّا على القصّة.

أچاتا راقصة باليه

القصة مؤثرة جدا كونها تعالج مواضيع معقدة نوعًا ما؛ أچاتا هي شخصية استثنائية وقصّتها حزينة جدا... هل كنت سأقتني القصة لو أنّني اطلعت على مضمونها جيدا ولم أكتفِ بالعنوان؟ أعتقد اني ما كنت سأتردّد. فهي تطرح أمورًا عميقة ومشاعرَ متخبّطة، ما يجعل منها مادّة غنيّة وقصّة ذات مزايا علاجيّة، رغم أنّ بعض التفاصيل التصميميّة لم تعجبني، كاختيار ورق غير لامع. فالرسومات بالقصة تتطلّب هذا البريق ليبرز الإبهار ورونق الرسومات والألوان المحدودة، وكذلك فالانتقال مباشرة من صفحة هويّة الكتاب وأسماء العاملين عليه للصفحة الأولى للقصّة، من دون أيّ فصل بواسطة صفحة بيضاء هو خطأ تصميميّ أو ربما هدفه التوفير بتكلفة الطباعة.
"أچاتا تريد أن تطير" هي قصّة حزينة ومبهمة في نهايتها: هل تحرّرت أچاتا من المدفع لأنها صنعت هذا الواقع أم لأنها صبرت حتى نهاية موسم العروض؟ وماذا عن موسم العروض القادم؟ وهل هي حقا تحلم بأن تكون راقصة باليه لأنها قادرة على كسر الأفكار المسبقة والصورة النمطيّة وأن تكون راقصة باليه سمينة؟ أم أنّها ستعمل بجدّ لتلائم رشاقتها لهذا الحلم؟ أم أنّ هذا التفاوت بين الحلم وواقعها هو مأساتها؟

هل هذه القصة التراجيدية ملائمة للأطفال؟

أعتقد أنّ الأطفال يحلّلون الأمور بشكل مغاير عن الكبار... فكل ما كتبته آنفًا حول القصة ليس بالضرورة يحاكيهم أو يهمهم. فهم يستشعرون الأمور بحواسَّ نقية وفطرية، وعملية الفصل المطلق بين عالم الأطفال والحزن هي أمر غير وارد للتطبيق في الواقع. لذلك أعتقد أنّ الانكشاف المخطط لهذه العوالم عن طريق قراءة القصّة، بالإضافة إلى جُهوزيّة الكبار لردّات فعل الأطفال واحتوائها، من شأنهما توسيع الرؤية الادراكية للأطفال لما يدور حولهم في هذا العالم وفهم أنّ الأمور الحزينة هي جزء منه، تماما كالأمور المفرحة.
وربما الأجدر التوسّع بالأمور التي أثّرت بالأطفال ولفتت انتباههم وإيجاد قنوات تواصل بيننا وبينهم عن طريق فهم ما يهمّهم وما يدور بعالمهم وتوسيع درايتنا به.

نص: باربرا باروكي
رسومات: لورنزو سانتينللي
ترجمة: لؤي وتد
إصدار: كتب حاصباني

عن الغلاف:

تروي أچاتا قصة فتاة سمينة تعمل في السيرك وتقدم عروضا يومية تحت الأضواء وأمام الجمهور. ما يضغط عليها هو ليس وزنها أو وظيفتها، ولكن طموحها لتحقيق ذاتها والتحليق في مساحة خاصة بها. أچاتا هي فتاة مستقلة ومسؤولة عن مصيرها ولا تخضع لإملاءات البيئة والمجتمع، ما يجعل منها بطلة كتاب أطفال مميزة وفريدة من نوعها.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق