"الطفل" في دراسات الثقافة وتاريخها، ليس مصطلحاً يعبر عن حالة بيولوجية أو فترة تفرضها الطبيعة بشكل مطلق، بل هو مصطلح ثقافيّ بحت. ويُعتبر المؤرخ الفرنسي فيليب أرييس من أول باحثي تاريخ الطفولة، وهو يعرض في أبحاثه نظرية تقول بأنّ الطفولة هي مصطلح يُمكّننا من فهم المجتمع الذي يستعمله. أي أنّ الوعي الاجتماعيّ يُقسّم المجتمع إلى فئات بحسب واجبات الفئة وحقوقها، نسبة للفئات الأخرى. ليس هناك تعريف متفق عليه عالميًّا لمُصطلح "طفل" أو "طفولة"، بل تختلف التعريفات من مجتمع لآخر. وترى بعض المجتمعات أنّ ابن الثالثة عشرة ما يزال طفلاً، فيما ترى مجتمعات أخرى أنّه رجل يُتوقّع منه ما نتوقّعه من ابن العشرينات.
ويدّعي أرييس أنّ القرن السابع عشر هو نقطة تحوّل مركزيّة في تاريخ الطفولة؛ فمنذ العصور الوسطى حتى القرن السابع عشر انقسمت المجتمعات الاوروبيّة قسمة طبقيّة اجتماعيّة ماديّة من دون علاقة بالأجيال. فوقتها، كان بوسع طفل في جيل الثامنة أن يكون ملكاً في أعلى الطبقات الاجتماعيّة، من دون علاقة بجيله. وبما أنّه لم تكن وقتها فروق اجتماعيّة بين الطفل والبالغ، فلم تكُنْ هناك أيضًا فروق في التربية واللغة بين الاثنيْن. ولإثبات ذلك، يبحث أرييس في الكلمات "طفل" و"غلام" و"صبي" وغيرها، ويرى أنها لم تظهر بشكل واضح إلّا في القرن الثامن عشر، ولم يتمّ توضيحها وتحديدها إلّا في القرن التاسع عشر.
ويدّعي أرييس أنّ المجتمعات قبل القرن السابع عشر لم تكن تُولي أهمية كبيرة للمواليد الجُدد، لكي لا تتعلق بها، وذلك بسبب نسب الوفيّات العالية للمواليد الجدد،
وقد اختلف الوضع مع تطوّر العلوم وتدنّي نسبة الوفيات؛ ففي نهاية القرن السادس عشر ومطلع السابع عشر بدأت المجتمعات بالتقرّب أكثر من المواليد الجُدد، وبدأ ظهور الاختلافات بين الطفل وبين البالغ في الطبقات الغنيّة، وذلك من خلال ملابسهم. ومن خلال رسائل ونصوص كُتبت في تلك الفترة يستنتج أرييس بأنّ الطفل بدأ يتحوّل إلى مصدر لهو وتسلية للبالغين، وهكذا ارتبط مفهوم الطفل بالبراءة والطيبة والترفيه. ويسمّي أرييس هذه الفترة باسم فترة "النهج اللعوب" أو "النهج المارح".
في بداية القرن الثامن عشر، تطوّر نهج مختلف بتأثير من رجال الدين والأخلاق والتربية، وهو النهج التربويّ الوعظي. وهو نهج يؤمن باختلاف كبير بين الأطفال والبالغين، ولذلك يعاملهم بطريقة مختلفة، خالية من اللهو كما سبق وأشرنا. ويؤمن نهج رجال الدين والتربية بأنّ الطفل هو خلق الإله الأكثر طهارة وبراءة، ولذلك يجب الاعتناء به وتربيته، ومن هنا زادت الحاجة لنظام تربويّ وتعليميّ مميّز. وأظهر هذا النهج للبالغين أنّ الأطفال هم فئة اجتماعيّة مختلفة يجب أن يكون لها أدبٌ خاصٌ بها ونظام تعليميّ خاصّ يحدّده رجال التربية والتعليم، وهم نفسهم رجال الدين في تلك الفترة في أوروبا.
نتيجة هذا النهج تطوّرت نظريّات تربويّة وتعليميّة تعامل الأطفال كفئة ذات احتياجات خاصّة، مثل جهاز تربية وتعليم خاصّ يحدّد نوع الكتب التي تناسب الأطفال بحسب أجيالهم، إلىجانب أنّه يلائم الكتب لحاجات الأطفال، ما دفع لتطوّر أدب الأطفال، بالإضافة إلى الكتب التعليميّة الخاصّة.
وبالرغم من الشموليّة الظاهرة في أبحاث أرييس إلا أنها كانت أبحاثًا تاريخيّة حول ثقافة قد سبقت، ما جعلها عرضةً للانتقاد بوصفها أبحاثًا تطرّقت إلى الطبقة النبيلة فقط، ولم تشمل سائر طبقات المجتمع. زدْ على ذلك أنّ غالبيّة النصوص التي بحثها أرييس كانت نصوصًا فرنسيّة وإنجليزيّة، ومن خلالها فقط عرض نظرية تدّعي شمولية الظاهرة. وبالرغم من هذا النقد اللاذع، ما زالت تُعتبر نظرية أرييس نظريّة مركزيّة في دراسة تاريخ الطفولة.
في مطلع القرن العشرين، ومع نشر نظريّة التحليل النفسانيّ لزيغموند فرويد، اكتسب مصطلح "الطفولة" مفهومًا جديدًا جعله مركز حياة الإنسان. ففرويد يدّعي أنّ الطفلَ كائنٌ بحاجة للإرشاد والمتابعة التامّيْن من طرف والديْه، كي يصبح إنسانًا بالغًا ذا نفسية معافاة. وبذلك حوّل فرويد الطفولة إلى الفترة الأهمّ والأكثر حسمًا في حياة الانسان البالغ. وبالرغم من الادّعاء الذي طرحه بأنّ الأطفال هم مخلوقات جنسيّة، إلّا أنّ مفهوم فرويد للمصطلح هو مفهوم يتمحور بالطاقة وليس بالغريزة؛ فعلى المجتمع بلورة هذه الطاقة في الطفل وإرشادها نحو الطريق الصواب. وفي أعقاب هذه النظرية تطوّر النهج النفسانيّ للطفولة، وهو نهج دفاعيّ ورفاهيّ وعلاجيّ في بعض الأحيان.
منذ نظرية فرويد في بداية القرن العشرين وحتى اليوم، ازدادت النظريّات حول تطوّر الطفل ومعنى الطفولة بتسارع كبير. وأصبحت غالبية النظريّات تصبّ في مصلحة الطفل ومركزيّته وكأنها كلّها نظريّات وريثة لنظرية فرويد. وبسبب هذا التغيير، ازداد الاهتمام بتربية الطفل وثقافته ونفسيّته، ما أدّى إلى تطوّر مجال أدبه بشكل واضح. وقد استمرّ هذا التغيير حتى جاءت النظريات الما بعد حداثيّة لثقافة الطفل، والتي سنتطرّق إليها في مقالات خاصّة.
حوّل فرويد الطفولة إلى الفترة الأهمّ والأكثر حسمًا في حياة الانسان البالغ
منذ نظرية فرويد في بداية القرن العشرين وحتى اليوم، ازدادت النظريّات حول تطوّر الطفل ومعنى الطفولة بتسارع كبير. وأصبحت غالبية النظريّات تصبّ في مصلحة الطفل ومركزيّته وكأنها كلّها نظريّات وريثة لنظرية فرويد. وبسبب هذا التغيير، ازداد الاهتمام بتربية الطفل وثقافته ونفسيّته، ما أدّى إلى تطوّر مجال أدبه بشكل واضح. وقد استمرّ هذا التغيير حتى جاءت النظريات الما بعد حداثيّة لثقافة الطفل، والتي سنتطرّق إليها في مقالات خاصّة.
تعليقات (2)
المقال حلو . و مفيد
الطفل اليوم هم بكون في مركز اهتمام الوالدين كمحاولة لتوفير مستقبل أفضل و مؤمن للطفل .
و بالرغم من انه في مقالات و قوانين بتنص على حقوق الطفل الا انه لا يزال كثير من الاطفال مهدور حقهم , من نواحي كثيره . وللأسف يكونوا ضحايا .
مقال جميل وعرض سلس. هل هو ثمرة عمل بحث جماعي, أم دراسة فردية؟ (لم ينص اسم كاتب/ كاتبي المقال)
إضافة تعليق