القصة الشعبية سندريلا، أو "المُعفَّرة"، هي الأكثر شهرة بين باحثي الأدب الشعبيّ. وهي تُعتبر الأكثر انتشارًا في أنحاء العالم، ومن بين أقدم القصص المعروفة. يصعب جدًّا وجود مجتمع لا يعرف إحدى صيغ القصّة المتركّزة بشابة يتيمة (أو شاب في بعض الصيغ)، والتي تعيش ظروفًا حياتيّة صعبة بسبب زوجة أبيها أو أبنائها وبناتها، وفجأة، وبطريقة سحريّة، تتمكّن من الصعود في السلم الطبقيّ الاجتماعيّ حتى الدرجات الأعلى. ويرمز اسم الشخصيّة، عادةً، إلى العَفَر والتراب أو الرماد، والتي ترمز بدورها للانحطاط والإذلال. Cinder في الإنجليزيّة تعني رماد، وكذلك Cendre في الفرنسيّة.
من الصعب أن نعرف المصدر الأقدم للقصّة، ولكن يُحكى أنّ مصدرها الأول كان في قصّة شاب كان الأصغر بين إخوته وكسب محبة والده وحاز على التفضيل عن أخوته، فقرّروا التخلص منه. وبعد أن أضحى وحيدًا ومرّ بصعوبات شديدة وبيعَ في سوق العبيد، تمكّن في أحد الأيام بفضل فطنته وموهبته من الوصول إلى قصر الملك وأصبح أحد مستشاريه. نعم، إنّها ليست إلّا قصة النبي يوسف، التي تُعتبَر إحدى أقدم صياغات سندريلا التي يكون فيها البطل ذكرًا. في دراسات أخرى عُثر على قصص شعبيّة من الشرق الأقصى وبالأخصّ من الصين، التي تروي قصّة شبيهة بسندريلا، نُشرت سنة 850 للميلاد، وجمعها من الأدب الشعبيّ الصينيّ توان تشينغشي.
من الصعب أن نعرف المصدر الأقدم للقصّة، ولكن يُحكى أنّ مصدرها الأول كان في قصّة شاب كان الأصغر بين إخوته وكسب محبة والده، فقرّروا التخلص منه
الزّجاج الهشّ
بالإضافة إلى الدراسات التاريخيّة لقصة سندريلا، هناك دراسات نقديّة لهذه القصّة ولصيغها المختلفة. وبالذات في قصّة سندريلا، هناك عوامل كثيرة أضيفت إلى القصّة على مرّ السنين والعصور، وعبر فهم دور هذه الإضافات، يمكن للباحث أن يفهم أكثرَ عن تاريخ ثقافة تلك الفترة. فمثلاً، يتفق الباحثون على أنّ عامل "منتصف الليل" أو "الساعة الثانية عشرة"، هو عامل جديد أضيف للقصّة منذ الثورة الصناعيّة لتأكيد أهميّة الوقت، وأنّ التزام جميع طبقات المجتمع به هو واجب مطلق للحفاظ على مواقعها الاجتماعيّة.
أمّا الحذاء، فهو أحد أهم العوامل التي تميّز القصّة؛ فقد نرى الحذاء وَحده ونعرف مباشرةً أنّ الحديث هو عن سندريلا. لم يكن الحذاء زجاجياً دائمًا ولكنه عندما ظهر زجاجيًّا للمرّة الأولى، اكتسب حصريّته وملك قلوب سامعي القصّة. وظهرت زجاجيّة الحذاء في صيغة الروائي الفرنسي شارل بيرو سنة 1697، الذي كان يكتب القصص الكثيرة ويقرأها على مسامع طبقة البرجوازيّين. عندما أدخل بيرو الحذاء الزجاجيّ إلى القصّة أراد بذلك أن يضفي طابعًا ناقدًا لاذعًا لطبقة الصالونات الفرنسيّة، حيث يتميّز الزجاج بهشاشته وسهولة انكساره، وما رفع سندريلا إلى الطبقة البرجوازيّة وطبقة النبلاء، ليس إلّا حذاءً هشًّا، كما هي هذه الطبقة كلها.
لكنّ النقد لم يؤخذ على هذا الشكل؛ فالأحذية في الماضي كانت تمثل الطبقيّة الاجتماعيّة من جهة، فيما ادّعت جهة أخرى من الباحثين أنّ بيرو اختار بعبقريّة واضحة تغيير نوع الحذاء من فروة السّناجب (vair بالفرنسيّة) -التي كانت تمثل الطبقات النبيلة- إلى حذاء من الزجاج (verre بالفرنسيّة) لتشابه الكلمات الشديد بين الكلمتيْن بالفرنسيّة ولمنطقيّة الفكرة، إذ أنّ الحذاء الزجاجيّ لا يتوسع أو يتقلّص، بل يبقى على حجمه الأولي.
نضيف هنا أنّ الحذاء يمثل في القصة، أيضًا، الأداة التي تساعد سندريلا على الانتقال من فترة حياتيّة معيّنة، إلى أخرى. ونرى في الدراسات تشبيهات كثيرة لهذا الحذاء لخواتم الزواج في أيامنا، التي تمثل الانتقال من مرحلة العزوبية إلى الزواج. هذا الانتقال يختلف من صيغة إلى أخرى؛ ففي الصيغة الألمانيّة للأخوين غريم مثلاً، تنتعل أختا سندريلا الحذاء قبلها لكنّ الأمير يكتشف أنهما قد بَتَرتا أجزاء من أرجلهما لكي تتمكّنا من انتعاله. هذا البتر يظهر بعد ان تنزف أرجلهما. هذا الدم يمثل بحسب التحليل النفسي للقصة، عدم جاهزية أختيْها للزواج من ناحية جنسيّة، أو عدم ملاءمة الأمير لهما.
اختار بيرو بعبقريّة واضحة تغيير نوع الحذاء من فروة السّناجب (vair) إلى حذاء من الزجاج (verre) لتشابه الكلمات الشديد بين الكلمتيْن بالفرنسيّة ولمنطقيّة الفكرة: الحذاء الزجاجيّ لا يتوسع بل يبقى على حجمه الأوليّ
الحلم الأمريكيّ
خلاف سندريلا الألمانيّة القديمة، فإنّ سندريلا، أميرة ديزني، هي سندريلا بريئة. إنّها سندريلا مختلفة عن السندريلا المعروفة في النصوص السابقة، إلا أنّها تغلبت على جميع السندريلات وأصبحت الأميرة الحصريّة التي تحمل الاسم. أميرة ديزني أصبحت تمثّل كلّ الأميرات من جهة، ولكنها تمثل أكثر من ذلك بكثير، بالذات مع العلم أن وولت ديزني بنفسه كان مَن بَلوَر الشخصية وعمل عدّة مرّات على تغيير السيناريو للفيلم. سندريلا تمثل شركة وولت ديزني بشكل عام من ناحية تاريخيّة؛ فعند صدور الفيلم (1950) كانت الاستديوهات تغرق في الديون بعد الحرب العالميّة الثانية، بسبب دعمها وتبرّعاتها الكثيرة للجيش الأمريكيّ. فنجاح الفيلم أنقذ الاستديوهات من الضياع النهائيّ وإغلاق أبوابها. وهكذا أصبحت الأميرة سندريلا تمثل الحلم الأمريكيّ الذي يعِدُ كلّ طفل بالتمكّن من الحياة الاجتماعيّة، ويعطيه الأمان بأنّ الأحلام قد تتحقّق.
لهذا السبب ادّعى الكثير من المفكّرين الماركسيّين الجُدد أنّ قصة سندريلا هي من أقوى أدوات نشر الوعي الكاذب بخصوص الطبقات العامة والبسيطة، إذ أنّها تجبرهم على الايمان بأنّ كلّ فرد من هذه الطبقات يملك إمكانية الصعود على السلم الطبقيّ وتحقيق أحلامه والوصول إلى الطبقات النبيلة. ولكن أين هذا من الواقع الذي يبقي الطبقات الغنيّة مقلّصة فيما تتكاثر الطبقات الفقيرة في كلّ مكان؟ من حقًا يتمكّن من تحقيق هذا الحلم؟ وهل هناك مكان لجميع السندريلات في أعلى السلم؟
بالاضافة إلى النقد الماركسيّ، نجد أيضًا النقد النِّسويّ، الذي يهاجم فيلم ديزني، بأنّ الفيلم يعرض شخصيّة خاملة بتميُّز، لا تقوم بأيّ نشاط شخصيّ لتحسين حياتها، وتشتري مكانها في القصر بجمالها فقط. وهذا يُموضع المرأة في خانة سطحيّة لا تحوي أيَّ عمق سوى جمالها الخارجيّ. ويأتي هذا قبل التطرّق إلى معايير الجمال الثقافيّة التي فرضها الفيلم على المشاهدين الأطفال، من الشعر الأشقر والنحافة المتطرّفة.
لا شكّ في أنّ هذا النقد لما هو مذكور بالقصة فيه من الصحّة الكثير، ولكن لماذا علينا التمسك فقط بصيغة وولت ديزني لهذه القصة الرائعة؟ هناك صيغ أخرى تختلف عن صيغة ديزني بشكل تامّ. فمثلًا، في صيغة الأخوين غريم من سنة 1812، تمثّل سندريلا شخصيّة قويّة، تختار بنفسها متى تذهب إلى الحفلة الراقصة ومتى تعود منها، بلا تحديد منتصف الليل مثلاً. في صيغة الأخوين غريم، والد سندريلا حيّ يرزق، ولكنه ضعيف أمام زوجته الجديدة، ليس كما في فيلم ديزني، حيث يموت الوالد، "الرجل، القويّ والحامي الوحيد" لسندريلا من زوجته الشريرة، إلى جانب الكثير من الفروقات الأخرى.
لذلك، وبدلاً من تجاهل عشق الأطفال لهذه الأميرة، يمكن النقاش حول دورها في الفيلم مع الطفل، وإظهار مساوئها، إضافة إلى توفير بدائل، مثل قراءة صيغ مختلفة للقصّة والمقارنة بينها.
تعليقات (0)
إضافة تعليق