مرجع المقالة العلمية:
Zipes, J. (1999). Why Children’s Literature Does Not Exist. In Speech delivered at the Reading the World II Conference at the University of San Francisco on February (Vol. 14, p. 1999).
أقولها بصراحة ودون حياء- ليس هناك أدب أطفال. إذا تطرقنا إلى حالة "الإضافة" حرفيًا وجديًّا، وإذا افترضنا بأنّ "أدب الأطفال" ينطوي على المُلكية، يمكننا القول بأنّه ليس هناك شيء اسمه أدب أطفال، وفي هذا السياق، ليس هناك شيء اسمه أطفال. كما نعلم جميعًا، لا يمكن إدراج الأطفال بكلّ بساطة ضمن فئة واحدة عديمة الملامح، وكما جاء في كتاب فيليب آريس Centuries of Childhood، الذي صدر عام 1973، وفي إصدارات مهمّة أخرى، فإنّ "الأطفال" و "الطفولة" هم بُنًى اجتماعيّة بلورتها ظروف اجتماعيّة-سياسيّة، وتحمل معاني مختلفة في الثقافات المختلفة. بالتالي، فإنّ مفهوم أدب الأطفال هو أيضًا تصوّري، ويعود إلى ما تحدّده مجموعات عينيّة، غالبيتها من البالغين، كنظام مرجعيّ لها. داخل هذا النظام، لا يمتلك الأطفال أدبًا خاصًا بهم، أو أنّهم لا يسعون للاعتراف بأدبهم الوهميّ. لا يسعى الأطفال لامتلاك ما نعنيه نحن الكبار، خاصة المتخصّصون منّا في أدب الأطفال، عندما نستخدم مصطلح "أدب الأطفال"، والذي يُستخدَم لتصنيف البالغين الذين يحتلّون مكانة تخوّلهم بتحديد قيمة الأدب المُعدّ للقرّاء الصغار.
في الواقع، معظم قُرّاء، مؤلّفي، وكلاء، محرّري، نّقاد وناشري أدب الأطفال هم من فئة الكبار، وينطبق ذلك أيضًا على الموزّعين وعلى أصحاب متاجر الكتب.
لم يكن هناك أبدًا أدب مُبتكرٌ من قِبل أطفال ومن أجل الأطفال، أدب ينتمي للأطفال، ولم يكن هناك شيء من هذا القبيل. ذلك لا يعني أنّ الأطفال لا ينِتجون المواد الثقافيّة الخاصة بهم، والتي تشمل أعمالًا أدبيّة. تتوفّر حاليًا مجلات ومواقع أطفال، والتي طُوِّرت وأُنتِجت من قِبل أطفال، وقد أنشأ الأطفال، بما في ذلك المراهقون والبالغون الشباب، منتجاتهم الأدبيّة الخاصة، كالمجلات والصحف والرسوم المتحرّكة والقصص المصورّة والألعاب والفيديوهات. إلا أنّ مؤسّسة أدب الأطفال ليست من صنعهم، وكذلك هو الحال أيضًا بالنسبة للأدب الذي يُشجّعون على قرائته، استيعابه وترسيخه في تجربتهم وموروثهم الثقافيَّيْن. يشارك الأطفال بالـتأكيد في أدب الأطفال وفي سيرورة صنع المنتج النهائيّ، ولكنّ أدب الأطفال بحدّ ذاته غير قائم. العنصر الأهمّ لفهم ما نسمّيه اعتباطًا بأدب الأطفال هو مؤسّسة أدب الأطفال، والتي تساهم، للمفارقة، في إضعاف المنتجات النوعيّة المُعدّة للأطفال، أي الأدب القصَصيّ، الشعر والروائع "العظمى" التي تزعم المؤسّسة بأنّها تعمّمها وتوظّفها بغيّة تهيئة الأطفال للبيئة الاجتماعيّة وتطوير مفكّرين مستقبليين أنسانويين. السبب وراء ذلك هو أنّ مؤسّسة أدب الأطفال ملزمة بالعمل أكثر فأكثر ضمن حدود صناعة الثقافة، حيث تواصل النزعتان، الاستهلاكية والتجاريّة، تحجيم وتهميش قيمة التفكير النقديّ والإبداعيّ، وفي الوقت نفسه، تحجيم وتهميش الإنسان الفرد.
ما هي إذًا مؤسّسة أدب الأطفال؟ كيف نشأت؟ كيف تطوّرت؟ ولماذا ينبغي علينا فهم مبنى مؤسّسة أدب الأطفال لتقييم وإدراك الدور المحدود الذي يلعبه أدب الأطفال في مجتمعنا، وكيف تغيّر ذلك مع مرور الوقت؟
قبل الخوض في موضوع مؤسّسة أدب الأطفال- وسأدرج ضمن فئة أدب الأطفال كتبًا للمراهقين والبالغين الشباب- سأتطرّق إلى مؤلّفي ما يسمّى بكتب الأطفال. سأطرح فرضيّات تأمليّة تتحدّى المفاهيم التقليديّة لمؤلّفي كتب المراهقين والبالغين الشباب. سألقي الضوء أساسًا على الكُتّاب الأمريكيين والبريطانيين، مؤلّفي الأدب القصصي، لإنّ معايير تأليف أدب الأطفال، من الأطفال الصغار وحتى المراهقين، تختلف من دولة لأخرى، وأحيانًا من منطقة لأخرى ضمن الدولة نفسها، وهذه الفروق الثقافيّة تحدّد طبيعة مؤلّفات الأطفال والبالغين الشباب.
تمهيدًا لعرض التعريف، سأسرد لكم بعض القصص:
منذ سنوات الازدهار التي شهدتها السبعينات، عندما أصبح أدب الأطفال تجارة ضخمة وبدأ العديد من الكُتّاب والرسامون بجني أموال طائلة من خلال إنتاج كتب للأطفال، تطوّرت في مختلف أنحاء الولايات المتحدة عدّة ورشات عمل لتأهيل فنانين طموحين. استقطبت ورشات العمل هذه نساءً على وجه الخصوص، مع أنّ العديد من الرجال أبدوا اهتمامًا بهذه المهنة المزعومة، إذ يعتقدون غالبًا بأنّه يسهل تأليف أو إنتاج كتب أطفال، ويسعون لتعلّم الصيغة الصحيحة، خطوة تلو الأخرى- وهناك إصدارات عديدة حول هذا الموضوع- لإنتاج كتاب أطفال ناجح، إيجاد الوكيل الأدبيّ الملائم وتسويق المنتَج. في لقاء عقدَه مؤخّرًا أحد فروع جمعية أدب الأطفال ( Society for Children’s Literature)، تذمّر العديد من الكُتّاب من التوزيع الهزيل لكتبهم وأرباحهم، وعبّروا عن رغبتهم في تعلّم الخدع التسويقيّة. ادّعى آخرون بأنّهم لم ينالوا الشهرة التي يستحقّونها، وسعوا لتعلّم آليات تشبيك أكثر نجاعة. في الواقع، تحتلّ الجوانب التجاريّة الصدارة في جمعية أدب الأطفال وغيرها من منظّمات مؤلّفي أدب الأطفال في جميع أنحاء الولايات المتحدة. يتبنّى العديد من مؤلّفي أدب الأطفال الحاليّين، أو المستقبليّين، شعار أبطال إعلانات نايكي: ما عليك سوى أن تجتهد! النجاح سيتحقّق من تلقاء نفسه. ربّما الشهرة. ربّما المال أيضًا.
أحد الناشرين الذي دخل عالم كتب الأطفال في التسعينات، باحثًا عن وسيلة لتوسيع آفاقه، وحافظة نقوده، سمع بأنّ كتب الحكايات الخرافيّة "النسويّة" مربحة إلى حدٍّ ما. لذلك، قام بتوظيف كُتّابًا لتأليف حكايات بطلاتها نساء قويّات، وقد ألّف هو بنفسه بضع حكايات خرافيّة نسويّة ودَعا أطفالًا لكتابة تعقيباتهم واختيار الحكايات التي أحبّوها. باعتلائه موجة الصواب السياسيّ، تمكّن من نشر عدّة أجزاء من سلسلة حكايات خرافيّة لتسويق ذاته وشركته.
أحدّ الكُتّاب الموهوبين، والذي تعود أصوله جزئيًا لسكّان أمريكا الأصليين، ألّف كتابًا يسرد فيه سيرته الذاتيّة حول سيرورة تربيته الجريئة لطفلين متبنَّيَيْن كانا يعانيان من متلازمة الكحول الجنينيّة، ولكنه لم يكشف عن استغلاله لهذين الطفلين. ألّف هذا الكاتب أيضًا كتب أطفال جيّدة، مستوحاة من قضايا سكّان أمريكا الأصليّين، ربّما لحاجته الماسّة لمواجهة المشاكل التي أدّت به في نهاية المطاف للانتحار. في الواقع، يستعرض بعض الكُتّاب في أعمالهم نزعات ساديّة-ماوسوشيّة، متمثّلة في استراتيجيّات سرديّة مذهلة، كما هو الحال لدى هانس كريستيان أندرسن.
التقيت في ريتشموند بأحد الرسامين الأكفّاء، والذي سعى لكسب المزيد من المال، وقد أخبرني بأنّه كان على استعداد لرسم أي شيء يصادفه.
بعد قراءة جزء من سلسلة صرخة الرعب من تأليف أر. أل. ستاين، خلَصَت معلّمة إلى أنّه يمكنها تأليف كتب وفقًا لأسلوب ستاين، وجني الكثير من المال. تركت مهنة التدريس وأصدرت بضعة كتب مبتذلة، إلا أنّها لم تجنِ أرباحًا طائلة.
اكتشفت معلّمة أخرى بأنّها تتمتّع بموهبة ارتجال قصص لتلاميذها في الصفّ الرابع. كانت تستمتع بتأليف القصص أثناء العمل معهم، وبدأت بتدوين هذه القصص. في نهاية المطاف، أرسلت قصصها بشكل غير رسميّ لناشر صغير، وسرعان ما نُشرت قصصها هذه، حتى قبل أن تعلم هي بذلك، ولكنها لم تتوقّف عن التدريس، ولم تسعَ لإصدار كتب عديدة بسبب التغييرات الكثيرة التي أرغهما الناشر على إجرائها.
لم تخبر كاتبة بريطانيّة شهيرة دور النشر ما إذا كانت تكتب من أجل الأطفال أم البالغين، ولم تصنّف أعمالها ضمن فئة معينة عندما كانت تكتب حكاية أو كتاب ما. الناشرون هم الذين كانوا يقرّرون ما إذا وَجَب تسويق كتبها على أنّها للأطفال أم للبالغين. كلّ ما كانت تفعله هو الكتابة.
اعتادت كاتبة أمريكيّة أعرفها تأليف كتاب كلّ عام- كتاب للبالغين، يليه آخر للأطفال في العام التالي، وقد أقرّت بأّنها كانت تسعى لتسويق ذاتها ككاتبة للبالغين لأنّها لم تحظَ حتى ذلك الحين بالاعتراف الذي كانت تسعى لتحقيقه. لذلك، كانت "تبدّل التروس" و "تنقر على الأزرار" لتغيير وضعيّة عقلها كلّ عام.
خَطَرت لأكاديميّ موهوب فكرة كتابة مؤلّفات للأطفال، إلا أنّه قام في نهاية المطاف باسترجاع القصة التي أرسلها، لأّن الناشر غيّر اللغة والمضمون، قائلا إنّهما غير مناسبين للأطفال.
ألّفت كاتبة أمريكيّة بارعة ثلاثة سيناريوهات رائعة لمسلسل تلفزيونيّ، ولكنها رُفضت لكونها مُبتكرة، مركّبة وصعبة للغاية بالنسبة للجمهور الذي سعى المنتجون لتشكيله. رفضت خفض مستوى السيناريوهات، ولم يلاحقها المنتجون.
عند الإفادة بنبأ ترقية مايكل لينتون لمنصب مدير عام دار بنجوين للنشر، عقّب روبرت بوينتون على اهتمام لينتون بفيلم "أمير مصر":
إنّ إعجاب لينتون بالجانب الجماليّ لفيلم "أمير مصر"- وهو فيلم رسوم متحرّكة، يحوّل قصة موسى والوصايا العشر إلى فيلم ودّيّ عن النبيّ العبريّ ورمسيس، فرعون مصر- كان نابعًا في الواقع عن اهتمام اقتصاديّ. وفقًا لتقديراته، ستنبثق عن فيلم "أمير مصر" عشرات كتب الأطفال، وقد تمّ الاتفاق مع إحدى أشهر الكاتبات في المجال، مادلين لانغل، على تأليف الكتاب الأول، ليكون نقطة الانطلاق. إحدى الصفقات التي أبرمها لينون عند تقلّده منصب مدير عام ورئيس مجلس إدارة مجموعة بنجوين، قبل عام، كانت إصدار كتب مستوحاة من الأفلام المُقبلة لدريم ووركس ستوديوز. وكما قال لجمهوره، فإنّ بيع الكتب على الطريقة الهوليووديّة قد يكون مربحًا للغاية .
لنكتف بهذه القصص. من الواضح أنّه لا توجد فئة معرّفة بسهولة كفئة مؤلّفي أدب الأطفال، مع ذلك، يواجه المئات من مؤلّفي أدب الأطفال معضلات مشابهة داخل مؤسّسة أدب الأطفال التي تحكمها أحوال السوق والنُظم التعليميّة. مع أنّ الأمر ينطوي على مخاطرة ما، سأحاول تعريف ماهيّة مؤلّف أو رسّام كتب الأطفال، من منظوري الشخصيّ.
على غرار جميع الكُتّاب، فإنّ مؤلّفي كتب الأطفال يكتبون، أولاً وقبل كلّ شيء، من أجل تصوير وتجسيد ماهيّة وسبب وجودهم، وما إذا كان لهذا الوجود أيّ معنًى، وذلك من خلال رموز وإشارات وتجارب وتخيّلات روحانيّة. في الواقع، الكتابة عن التجارب والتصوّرات العقليّة تسمح للكاتب بأن يعطي للحياة معنى ضمن مجموعة قوانين وإطار مرجعيّ رمزيّ لثقافة ولغة معيّنة. إنّها فعاليّة مشتركة، فنحن نكتب لكي نتواصل ولكي نعبّر علنًا عن مشاعرنا وأفكارنا الداخليّة، حتى إن لم نستطع نحن أنفسنا أن نفهمها بشكل مُطلق. هناك دائمًا جمهور خفيّ أو جماهير خفيّة، والجماهير الخفيّة لكتاب أطفال تتكوّن أولا وقبل كلّ شيء من المحرّر/الوكيل الأدبيّ/الناشر، يليهم المعلّم/أمين المكتبة/الأهل، وأخيرًا الأطفال في فئة عمريّة معينة. نادرًا ما يخاطب الكاتب الطفل أو الأطفال بشكل واضح، وحتى في هذه الحالة، غالبًا ما تتمّ عمليّة الكتابة باسم الأطفال، أي من أجل مصلحتهم ورفاههم، أو وفقًا لتصوّر الكاتب للطفولة أو لجمهور الأطفال. ما يميّز كتب الأطفال عن المؤلّفات المخصّصة أصلا لجمهور البالغين هو كون الكاتب مُلزمًا بأن يأخذ بعين الاعتبار جماهير وجهات رقابيّة أكثر بكثير ممّا يحدث في أوساط مؤلّفي الكتب المعدّة للبالغين. في هذا الصدد، يمكننا القول إنّ تأليف كتاب أطفال صالح للنشر يُعتبَر أكثر تعقيدًا، خاصةً إذا كان الكاتب حريصًا على إيجاد صوت سرديّ أو صور يمكنها مخاطبة الأطفال. القرار والحاجة الملحّة لإيجاد أسلوب سرديّ يخاطب الأطفال هو ما يميّز السيرورة الإبداعيّة التي ينبغي على مؤلّف كتاب الأطفال أن يخوضها. في هذه السيرورة، تبلور الكاتبة تصوّرها لماهيّة الطفل كقارئ ضمنيّ- السنّ، الخلفية ولثقافة. في هذه السيرورة، تبلور الكاتبة تصوّرها للطفولة، وربّما تسعى لاستعادة الطفولة أو الطفلة في دواخلها، أو أنّها تسعى لأن تحدّد كيف ينبغي للطفولة أن تكون. إنّ شخصيّة الطفل والنموذج المثاليّ للطفولة يشكّلان بنية تحتيّة داعمة للحبكة الروائيّة، ويوَظَّفان من قِبل الكاتبة لتبرير المنطق من وراء موقفها حِيال اللهو والتكيّف الاجتماعي لدى الأطفال. توظّف الكاتبة الطفلة الكامنة في دواخلها لاستيعاب تجارب سابقة ولتدارس إمكانيّة معالجة معضلات معينة أو تدارس بدائل ومفاهيم مختلفة للطفولة.
كما نعلم جميعًا، فإنّ نوايا الكاتب قد لا تكون واضحة أبدًا، ومن المؤكّد أنّها قد لا تتحقّق كما يرجو الكاتب. في وصفه للأعمال الثلاثة التي ألّفها لفئة المراهقين، أشار بيتر هنت، وهو أيضًا أحد أهمّ النقاد في مجال أدب الأطفال، إلى إنّ جميعها:
كانت تستهدف، على نطاق واسع، قرّاءً أذكياء وفصحاء، لا سيّما الأطفال. جميعها تجريبيّة، وتهدف إلى تحدّي التوقّعات بدلا من تأكيدها. أول عملين هما بمثابة محاولة للابتكار في أدب الخيال/التكلّف، أما الثالث، فقد كان بمثابة محاولة لفعل الشيء نفسه في مجال القصّة البوليسيّة، وقد استخدمت في ثلاثتهم أسلوبًا مُبهمًا، لا يسهل استيعابه بسرعة، مرتكزًا على ثلاث قناعات: أولا، القارئ-الطفل قادر على فهم النصوص بشكل متطوّر للغاية (ولكن ليس أكثر ممّا يريدنا المؤلّفون أن نصدّقه، وليس أكثر ممّا توصّل إليه المُربّون)، ثانيًا، لكي يتمكّن الكتاب من الصمود أمام وسائل الإعلام البديلة والمتطوّرة، لا يمكنه أن يكون ركيكًا وعليه استخدام جميع الموارد المُتاحة له، ثالثًا، لأنّه يجب تحدّي الرواية الكلاسيكيّة الواقعيّة، بجميع مظاهر هيمنتها.
المُدهش في تصريحات هنت ليس فقط نواياه الواضحة، إنّما أيضًا حجم استثماره في أعماله وحرصه على توظيف استراتيجيّات سرديّة ومفاهيم الطفولة لحلّ مشاكل شخصية. يقّر بصراحة بأنّه ليس قادرًا بما فيه الكفاية على التحكّم بالمنتج النهائيّ، مع أنّه أكثر اهتمامًا من الآخرين بالأثر الذي تتركه أعماله. مع ذلك، العديد من الكتاب يريدون أساسًا جني الأرباح، ولا يتعاملون بجدّية مع مهنتهم المزعومة. يسعى البعض منهم للترفيه عن أنفسهم ولتسلية قرّائهم، بينما توجد لآخرين عقائد دينيّة أو سياسيّة يسعون لنشرها. جميع هذه النوايا تنعكس إلى حدٍّ ما في أسلوب وفحوى الكتاب أو القصة، ولكن هناك المزيد بين السطور، أكثر ممّا يظّنه الكاتب نفسه. بالإضافة إلى ذلك، العمل الأدبيّ نفسه مُضمّن داخل مؤسّسة أدب الأطفال الواسعة التي قد تُضعف أو تعزّز من نوايا الكاتب. دور الكاتب في العمل الأدبي ينتهي عند صدور الكتاب، إذ يحدّد الموزّع والسوق معًا كيفيّة تلقّي وقبول الكتاب في مؤسّسة أدب الأطفال. في الواقع، التصوّرات العقليّة الخاصّة بالكاتب، والمتجسّدة في الكتاب، تعتمد كليًا على المكانة التي يحتلّها داخل مؤسّسة أدب الأطفال، وعمّا إذا أراد الكاتب التواصل مع مختلف الجماهير، أو ضمان هذا الشكل من التواصل في الحيّز العام.
إنّ مؤسّسة أدب الأطفال في صيغتها الحاليّة ضخمة ومعقّدة جدًا، وقد مرّت بتغييرات جذريّة في العقود الثلاثة الأخيرة. على الرغم من إنتاج أدب الأطفال على نطاق ضيّق في العصور الوسطى وعصر النهضة- تجدر الإشارة إلى أنّ 95 بالمئة من الأطفال في أوروبا لم يجيدوا القراءة حتى القرن الثامن عشر، وأولئك الذين أجادوا القراءة كانوا أساسًا من الذكور- إلا أنّ مؤسّسة أدب الأطفال لم تكن حاضرة بقوّة قبل القرن الثامن عشر، وقد كانت مكوّنة من ثلاثة عناصر: الإنتاج، التوزيع والتلقّي. في تلك الفترة، تطوّرت تكنولوجيا الطباعة والتوزيع التجاريّ وأصبح تأثيرها أكبر، وبدأت متاجر الكتب تمتلئ بكتب الأطفال. تزامن ذلك مع الارتفاع التدريجيّ في معدّلات تعلّم القراءة والكتابة لدى الأطفال، على إثر نشوء الطبقات الوسطى، وتعزيز القراءة على إثر تأسيس منظومات المدارس العامة. على إثر ارتفاع معدّلات التعليم وانخفاض معدّلات الأميّة، أدرك الناشرون وجود سوق لكتب الأطفال، والتي احتوت أدبًا قصصيًا أكثر من أي وقت مضى. الحافز وراء إصدار كتب للأطفال في ذلك الحين لم يقتصر على جني الأرباح، إذ رأى الناشرون أنّ واجبهم المدني يحتّم عليهم نشر كتب للأطفال، من شأنها أن تحسّن من أخلاقهم، تثقّفهم في مختلف المجالات وتوفّر لهم مصدر متعة لرفع معنوياتهم. كانت الجمعيّات والمؤسّسات الدينيّة والتربويّة على أتمّ الاستعداد لدفع الأموال لنشر كتب للأطفال. لذلك، فإنّ معظم الكتب التي أصدِرت للأطفال منذ القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر كانت غالبًا دينيّة، تعليميّة وجادّة. تكوّن جمهور القرّاء أساسًا من أطفال الطبقتين الأرستقراطية والوسطى، وكانت الكتب باهظة الثمن. نادرًا ما كان الأطفال يشترون الكتب، وكانوا يتلقونها كهدايا في المناسبات الخاصة. في الأوقات التي لم يقرؤوا فيها الكتاب المقدّس أو المواد الأساسيّة أو الكتب المستعارة من مكتبات أهاليهم، كانوا يقرؤون الكتب التي اختيرت من أجلهم، أو أنّ هذه الكتب كانت تُقرأ لهم من قِبل البالغين.
لكي يُصنّف الكتاب ككتاب للأطفال، كانت هناك حاجة لوجود منظومة ملائمة، أي إنشاء سيرورة إنتاج، توزيع وتلقّي وفيها تُخصّص أماكن لمجموعات مختلفة من الناس، وقد لعب الجندر (النوع الاجتماعيّ)، السنّ والطبقة الاجتماعيّة دورًا مهمًا. في الحقيقة، لم يكن من الممكن المصادقة على مجموعة واسعة من الكتب وتعميمها على الأطفال بطرق محدّدة قبل تأسيس منظومة للإنتاج، التوزيع والتلقّي، والتي ركّزت على تهيئة الأطفال للاندماج في البيئة الاجتماعية من خلال القراءة. احتياجات الأطفال لم تؤخذ حتمًا بعين الاعتبار، فلطالما حدّد النظام الاجتماعيّ-الاقتصاديّ كيفيّة تنشئة الأطفال وما هي أشكال التنشئة المقبولة وغير المقبولة. جميع جانرات أو أنواع أدب الأطفال، بما في ذلك الكتب التمهيديّة للأطفال ككتب تعليم الأبجديّة، الكتاب المقدّس، الأساطير، الحكايات الرمزيّة، الحكايات الخرافيّة، أغاني الأطفال، الكتب القصصيّة الصغيرة، الشعر، الكتب التفاعليّة، الكتب التعليميّة، السلاسل الروائية زهيدة التكلفة، الكتب المصوّرة، الرومانس والمنشورات الهزليّة، تمأسست بمختلف الوسائل في أمريكا الشماليّة وبريطانيا العظمى. اتّخذت مؤسّسة أدب الأطفال على عاتقها مهمّة تثقيف الأطفال وبلورة عادات القراءة لديهم ولديهنّ، على ضوء احتياجات اجتماعيّة-اقتصاديّة محدّدة. في الحقيقة، وَجب إخضاع القراءة في القرن الثامن عشر لبعض القيود بطريقة عقلانيّة لتجنّب الخطر، فقد رأى بعض المربّين والكهنة بأنّ القراءة قد تكون فعاليّة ممتعة، والإفراط في القراءة قد يؤدي إلى الاستمناء.
مع ذلك، لم يكن بالإمكان التحكّم بالقراءة وبالمتعة المستخلصة منها بشكل مطلق، وعلى إثر الارتفاع التدريجيّ في معدّلات تعليم الأطفال في القرن التاسع عشر وانخفاض معدّلات الأميّة، تابعت مؤسّسة أدب الأطفال تعديل وتغيير تكوينها ووظائفها، تماشيًا مع التجارب التي يخوضها الأطفال والبالغون في البيت وفي المدارس. تجدر الإشارة إلى أنّ القدرة على القراءة كانت مقياسًا لمكانة الفرد في المجتمع، وبأنّ القدرة على القراءة وتحديد ما هو مناسب للإنسان المتحضّر وللأطفال كانت تدلّ على المستوى الثقافيّ للفرد. ازدادت أهميّة تصميم ومظهر الكتاب، إذ أصبح الكتاب، كسلعةٍ، يدلّ على شخصيّة مستخدمه. ومع اتّساع سوق كتب الأطفال بحلول نهاية القرن التاسع عشر، سعى الناشرون بذكاء لجذب الأطفال والبالغين بواسطة أغلفة الكتب والرسومات، ليقوموا بشراء الكتب باعتبارها سلعًا سحريّة قد تكشف الأطفال على عوالم جديدة.
لطالما كانت لجاذبية الكتاب جوانب إيجابيّة وأخرى سلبيّة، إذ أنّ النصوص والصور بين غلافيّ الكتاب الأماميّ والخلفيّ ساعدت العديد من القرّاء الصغار على اكتشاف واستيعاب العالم المحيط بهم بطريقة ممتعة وبنّاءة. مع ذلك، أتاحت هذه الجاذبية للمؤلّفين والناشرين المجال للانقضاض على ميول ورغبات القرّاء الصغار لتسويق وبيع "قائمة طعام" التي يتضح في نهاية المطاف أنّها تحتوي على "وجبات سريعة". النصوص والصور تدغدغ الأطفال أو تعزّز بعض أنماط التفكير التقليديّة التي تحدّ من قدرة الطفل/ة على تطوير مهارات إبداعيّة أو نقديّة.
ولكن في عالم التعلّم المحوسب والربحيّ، للكتاب دور مختلف تمامًا عمّا كان عليه قبل عدة عقود. كما يوضّح بوينتون في مقاله "الطريقة الهوليووديّة"، فإنّ "النشر على نطاق واسع جعل من الكتب ممتلكات أقلّ تميّزًا من رابط إلكترونيّ لسلسلة غذائيّة، إذ يمكن لهذا الرابط أن يبدأ بمجرّد بفكرة، ويطوَّر إلى مقال في مجلة، يُحوَّل إلى كتاب، من ثم يحظى بحضور في فيلم أو على شاشة التلفزيون، ليُنتج فيما بعد على شكل شريط فيديو أو يكون بمثابة مصدر إلهام للعبة ما". في سياق أدب الأطفال، من المرجّح أن تصبح هذه النزعة مهيمنة لدى معظم المشترين. إذا كان الأمر كذلك، فإنّ أدب الأطفال سيصبح عرضيًا وتجاريًا.
إلا أنّ الأمر ليس ذلك، مع أنّ إنتاج وبيع كتب الأطفال خاضعَين لهيمنة الشركات الكبرى، التي تنتج كتبًا مُعدّة خصيصًا لجذب البالغين والصغار لشراء ماركتها، ومع أنّ الكتب نفسها تحتلّ المرتبة الثانية بعد الأفلام، البرامج التلفزيونيّة وحتى الدعايات، إلا أنّ مؤسّسة أدب الأطفال تشهد ازدهارًا في مجال الكتب المبتكرة للقرّاء من عمر السنتين وحتى السادسة عشر، والتي لا يمكن اعتبارها مجرّد مشاريع اقتصاديّة. تحتاج مؤسّسة أدب الأطفال لمؤلّفين ورسّامين جيّدين، وبفضلهم يمكنها تحقيق الازدهار المرجو، بالإضافة إلى أنّها تشجّع أيضًا على خوض تجارب جديدة وعلى تحدّي السوق. ولكن للأسف، فإنّ البنية المؤسّسية للشركات الكبرى تستملك أحيانًا كتب الأطفال الجديدة، والمميّزة جدا في بعض الحالات، لمعايرتها وترشيدها بما يتماشى مع احتياجات وحسابات السوق. أيّ أنّ هذه الكتب تُحوَّل إلى مطبوعات رائجة ومألوفة بغيّة الحدّ من أصالتها وتميّزها. في الوقت نفسه، هذه البنية المؤسّسية التي تنمو وتنجح بفضل التجانس والتقليديّة ستبحث دومًا عن التغيير، الابتكار، التميّز والتنوّع للحفاظ على اهتمام القرّاء والمستهلكين بمنتجات الشركة. يبقى السؤال مفتوحًا- إلى حدٍّ ما- حول ما إذا كان بإمكان الأدب النوعيّ الصمود أمام الرسملة العالميّة لمؤسّسة أدب الأطفال، وحول ما إذا كانت القراءة الترفيهيّة ستصبح أكثر تجاريّة ووظيفيّة، خاضعة لإملاءات تحدّدها صيحات ونزعات صناعة الثقافة.
ولأنّني لم أجرِ بحثًا معمّقًا جدًا حول مؤسّسة أدب الأطفال في الوقت الحاليّ، لا يمكنني أن أشرح بإسهاب عن الآليّات المركّبة المعُتمدة في هذه المؤسّسة. مع ذلك، يمكنني وضع الأساسات لبحث كهذا، لكي أوضّح كيفية ارتباط ذلك بتقييمنا لأدب الأطفال. بما أنّ العناصر الأساسيّة لهذه المؤسّسة- أي الإنتاج، التوزيع والتلقّي- بقيت على ما هي عليه، سأقوم باستخدامها فقط لأفصّل بإسهاب كيف ولماذا تغيّرت على ضوء التغييرات الجذرية التي طرأت على إصدار وتسويق كتب الأطفال.
إنّ مُنتجي كتب القرّاء الصغار هم الكاتب، الوكيل الأدبيّ، المحرّر، مدير التسويق، الفنّان (إذا كانت هناك رسومات)، المصمّم ودار النشر. لقد حاولتُ أن أثبت سابقًا أنّه ليس هناك مؤّلف يكتب من أجل الأطفال، أو مؤلّف مُصنّف كـكاتب لأدب الأطفال. كلّ ما في الأمر هو أنّ بعض الأشخاص يقرّرون تأليف كتاب يمكن تسويقه للقرّاء للصغار، وأثناء هذه العمليّة، تقوم الكاتبة بتوظيف ومعالجة اهتماماتها وميولها بأسلوب قصصي معيّن. على سبيل المثال، العديد من الكتب تؤلّف حاليًا على يد نجوم الرياضة، مستعينين غالبًا بأقلام مأجورة، إذ تستهدف هذه الكتب القرّاء من فئة المراهقين، وتهدف أساسًا إلى الاحتفاء بالسيرة الذاتيّة للنجم، وتروي عامة قصة نموذجيّة عن انتقاله من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش. هناك أيضًا كتب مصوّرة تشمل نصوصًا بسيطة تُطلق العنان لخيال الفنان-الكاتب، وهي مُعدّة لتحفيز وتسلية الطفل بين الثالثة والخامسة من عمره. بغضّ النظر عن الدوافع الاقتصاديّة والنفسيّة للكاتب، فهو يستخدم اللغة دومًا لتمثيل نفسه أمام العالم. إذا قرّر الكاتب إنتاج كتب للقرّاء الصغار، من فئة عمريّة محددة، سيضطرّ في المرحلة التالية إلى التفكير مليًّا في الوكيل الأدبيّ والسوق الملائمَين لهذا الكتاب. في هذا الصدد، يشير بيتر هنت إلى أنّه:
قبل أن يبدأ المؤلّفون بالكتابة، فإنّهم يجرون بعض التعديلات ضمن جانر العمل الذي سينتجونه. يقتبس دوبرو مقولة أي.دي. هيرش بأنّ "الجانر أشبه بمجموعة من القواعد السلوكيّة، وليس مجرّد لعبة"، وللقواعد السلوكيّة المتعلقة بكتب الأطفال هناك محوران، بنيويّ وأسلوبيّ ، يرتكزان على تصوّر شخصيّ- حنينيّ وتعليميّ للنص، لا يشبه تصوّر الكاتب لأي من جانرات الكتب الأخرى. وكما نقرأ نحن كتب الأطفال بطرق مختلفة في الوقت نفسه، فإنّ الكاتب أيضًا يأخذ بالحسبان، عن وعي أو عن غير وعي، الآثار العامة، الاجتماعيّة-الثقافيّة والتعليميّة لتأليف كتب أطفال. نخصّ بالذكر أيضًا تأثير المشهد الطبيعيّ والمكان، على المستويَين الشخصيّ والثقافيّ.
أصبح الوكيل الأدبيّ أحد الأعمدة المهمة في عالم إصدار الكتب، ويصعب حاليًا على الكُتّاب الوصول إلى دور النشر دون تلقّي مساعدة من الوكيل الأدبيّ، الذي يسدي النصائح التحريريّة حول سيرورة إنتاج الكتاب، ويعتبَر بمثابة وسيط بين المحرّر في دار النشر والكاتب. عندما ينجح الوكيل الأدبيّ في بيع الكتاب، قد يقترح أو يطلب المحرّر إجراء تغييرات جذريّة أو بسيطة، وغالبًا ما تُحدَّد هذه التغييرات بالاستناد إلى النقاشات الداخليّة مع محرّري الإنتاج والتسويق. أخيرًا، عندما يكون الكتاب جاهزًا للإنتاج، يظهر في الصورة المصمّم وكادر التسويق، الذين يحتلّون في صناعة النشر مكانة لها تأثيرها، أكثر من أي وقت مضى. في الكثير من الأحيان، لا يتمّ التشاور مع الكاتب حول غلاف أو رسومات الكتاب، مع أنّه من المتّبع عامةً مجاملة الكاتب، خاصة إذا احتوى الكتاب على العديد من الرسومات.
بعض الكُتّاب شديدي الاهتمام بمنتجهم يُدرجون في العَقد بندًا يخوّلهم بإعطاء الموافقة النهائيّة على غلاف ورسومات الكتاب. إنّها حالات استثنائيّة لكُتّاب ذوي نفوذ. باستثناء بعض الحالات القليلة جدًا، لا يمكن لمؤلّفي كتب القرّاء الصغار كسب قوتِهِم من الكتابة، فنجدهم يزاولون مختلف المهن الأخرى: معلّمين، محامين، حُرّاس، أساتذة جامعات، ربّات بيوت، رياضيّين، صحفيّين مهنيّين، نُدُل، مقدّمي مشروبات في الحانات، ممثّلين وغير ذلك. البعض منهم يحتقرون عملهم، خاصة أولئك الذين يكتبون سلاسل روائيّة باسم آخرين، أو يجمّعون ضمن عمل واحد حكايات خرافيّة حاضرة في الحيّز العام. يعتقد بعض الكُتّاب أنّهم مبعوثون خصيصًا لجعل الأطفال يرون ويعايشون العالم بطريقة خاصة. العديدون منهم هم كُتّاب موهوبون، لا يأبهون كثيرًا بكيفيّة تفاعل الأطفال مع أعمالهم، ولكنّهم متفانون لفنّهم، ويسعدهم إقبال الأهالي والأطفال على أعمالهم. يتنقّل بعض الفنانين والكُتّاب الناجحين في مختلف أرجاء الولايات المتحدة لقراءة قصصهم على الأطفال والعمل معهم، ويستخلصون من هذه التجربة دروسًا مستفادة تساعدهم على إنشاء علاقة أكثر "صدقًا" مع الأطفال في أعمالهم القادمة. يدرّس عدد متزايد من الكُتّاب موضوع أدب الأطفال، بينما يخوض غيرهم من الأكاديميين تجربة أولى في كتابة مؤلفات للأطفال. يغزو كُتّاب آخرون مجتمع البالغين وسوق كتب الأطفال في آنٍ واحد من خلال إصدار كتب جدليّة واستفزازيّة. جميع هؤلاء الكُتّاب المختلفين يقدّمون أدبًا متنوّعًا إلى حدّ الإذهال، ولكن هذا التنوّع يُحصَر بين هلالين ويُصنَّف وفقًا لمتطلبات واحتياجات الناشرين. ما يبدو للوهلة الأولى متنوعًا يُدمَج عاجلا أم آجلا في بوتقة متجانسة، أو يُطمَس إن لم يلائم نفسه لدور النشر وللمؤسّسات التعليميّة.
نوايا وقرارات الكاتب في مرحلة الإنتاج تعتمد أساسًا على الناشر وعلى صناعة النشر بشكل عام. في عام 1997، أصدرت مجلة "ذا نيشن" عددًا خاصًا عن "القوّة الهدّامة لعمالقة النشر"، حيث أشار مارك ميلر إلى أنّه:
إلى جانب نورتورن وهوتون ميفلين (آخر دور النشر الكبرى المستقلة)، بعض دور النشر الجامعيّة وعدد لا بأس به من دور النشر الصغيرة والمحدودة، فإنّ دور النشر التجاريّة الأمريكيّة تابعة لثماني مؤسّسات إعلاميّة عملاقة. فقط في واحدة منها- هولتزبرينك- يبدو (حتى الآن) بأنّ الإدارة تكترث لما يقرأه الناس. بالنسبة للبقيّة، فإنّ الكتب هي حرفيًّا آخر اهتماماتها. بالنسبة لهيرست، تايم وارنر، الشركة الإخباريّة روبرت مردوخ، بيرسون البريطانيّة، بيرتلسمان الألمانيّة، شركة فياكوم التابعة لسامنر ريدستون وأدفانس التابعة لصامويل نيوهاوس، فإنّ الكتب أقلّ أهميّة من بيع الصحف وصناعة التلفزيون، التي حكمها دائمًا عدد قليل من الشركات، على عكس ما كان عليه عالم النشر في قديم الزمان.
بالرغم من وجود العديد من المحرّرين الحريصين على جودة كتب الأطفال الصادرة عن دور النشر التابعة لهذه المؤسّسات الإعلاميّة، فإنّ النزعة السائدة هي إيجاد وإنتاج الكتب الأكثر قابليّة للتسويق والبيع للقرّاء الصغار، واستيفاء النِصاب المطلوب للحفاظ على التدفّق الثابت للمنتجات الجذابة. إنّ احتمال إقبال أو عدم إقبال الجمهور على الكتاب هو أمر تصادفيّ، فعلى ضوء العدد الكبير من الكتب الصادرة سنويًّا، لا يمكن لجميعها أن تحقّق نجاحات باهرة. إذا نجحت بعض الكتب في لفت الانتباه لسبب ما، فإنّ الناشر سيستفيد من هذا النجاح. ولكن في بعض الأحيان، قد لا يسعى الناشر للحفاظ على نجاح الكتاب، خاصة إذا كان طاقم العمل منهكًا والميزانيّة قليلة، وإذا كانت قائمة الكتب المقترحة للنشر طويلة. زد على ذلك، معظم أموال الدعاية تُنفق في أيامنا هذه على كتب الأطفال المستوحاة من برامج تلفزيونيّة أو أفلام، أو العكس. الكُتب الرائجة يؤلفها غالبًا كُتّاب تابعون لشركة ما، والذين قد يكون لهم دور في إنتاج الفيلم أو البرنامج التلفزيونيّ.
دور النشر الضخمة، خاصة تلك التي تتمتّع بسمعة حسنة، تصدر عامةً منتجات قابلة للتسويق، وتحرص على أن يكون الكتاب جذابًا. ولكن بعد إصداره، يكون هناك شيء من اللامبالاة حِيال مصير هذا المُنتج، لأنّ هناك المزيد من الأعمال التي تنتظر النشر، ولذلك لا حاجة للاعتناء بالمنتج النهائيّ. دور النشر الأصغر التي تُصدر كتبًا للقرّاء الصغار- وهي كثيرة في الولايات المتحدة- هي أكثر اهتمامًا بالمنتج الأخير، وتميل إلى صنعه وصقله برعاية ومحبّة قصوى. أعود وأكرّر أنّ هناك فروقًا عديدة بين هؤلاء الناشرين المستقلين الصغار- الذين يمثّلون رؤى نسويّة، المشهد البديل، العصر الجديد، الأقليّات العرقيّة، المنظّمات الدينيّة- ولذلك، فإنّ التعميم ينطوي على مخاطرة. ولكن من أجل البقاء، وما لم يكن الناشر مدعومًا من قِبل مجموعة غير ربحيّة أو مؤسّسة غنيّة، ينبغي على الناشرين الصغار المستقلين التعاون مع الكاتب، المحرّر وكادر التسويق، والسعي لإصدار كتاب ذي قابليّة نجاح عالية لدى الجمهور المستهدف.
حتى إذا كان الكتاب الصادر لفئة القرّاء الصِغار رائعًا، فإنّ ذلك لا يعني حتمًا بأنّه سيُقرأ، يُنقد أو يحظى باهتمام خاص، ما لم يتمّ تسويقه وتوزيعه كما بنبغي. بالنسبة لعمالقة النشر، فإنّهم لن يواجهوا أيّ مشكلة، إذ لديهم شبكات قطريّة وعالميّة قادرة على إدخال كتبهم إلى متاجر الكتب التي يختارونها. وتمارس هذه الشركات التأثير على النّقاد الأدبيّين لأنّ الناشرين لن يعلنوا عن إصداراتهم في الصحف والمجلات ما لم يتمّ نقدها بالقدر الكافي. زد على ذلك، توجد لهذه الشركات الكبيرة ميزانيّات ضخمة للتسويق ولإصدار كتالوجات جذابة تُرسل إلى القُرّاء في جميع أنحاء الولايات المتحدة. في بعض الحالات، يوجد لدى الناشرين مندوبون إقليميّون الذين يزورون متاجر الكتب للتحقّق من أنّ الكتب معروضة في مكان بارز، بينما ينسّق محرّر الدعاية حلقات القراءات، إذا كان الكاتب معروفًا، أو لديه الفرصة لأن يصبح معروفًا. تُرسل الكتب أيضًا إلى مؤتمرات يتحدّث فيها الكاتب أو يقدّم عرضًا ما.
مع أنّ غالبيّة المدن الكبرى وبعض المدن الصغرى في الولايات المتحدة تحتوي على متاجر كتب متخصّصة في أدب الأطفال، إلا أنّ العديد من هذه المصالح تُقصى من هذا الحقل (كما يظهر في كتاب You’ve Got Mail والذي يبدو أنّه يدعم هذه النزعة) من قِبل سلاسل تجاريّة مثل بارنز ونوبل، بوردرز، وولدن بوكس ومتاجر الخصم الكبيرة. في بعض الحالات، تتدخّل شركة بارنز ونوبل في تصميم وعنوان الكتاب، ويمكنها أن تحدّد ما إذا كان الكتاب سيحقّق الحدّ الأدنى من النجاح. بعض السلاسل التجاريّة الضخمة توفّر للأهالي والأطفال زوايا من أجل القراءة، الاستراحة وتناول الوجبات والمشروبات الخفيفة. هذه الزوايا، التي يبدو ظاهريًا أنّها توفّر جوًّا مريحًا ودافئًا للقراءة واختيار الكتب، مصمّمة بطريقة تجعل من تجربة الشراء أكثر متعة، وغالبًا ما تكون أشبه بالمكتبات الصغيرة. في بعض الأحيان، يطلب الأهالي والأطفال النصائح حول الكتب الجيدة والمناسبة للقراءة، ويُعتبَر الموظفون (خاصةً في سلاسل المكتبات)، الذين نادرًا ما يكونوا ملمّين بأدب الأطفال أو ذوي خبرة في تدريس الأطفال، خبراء في هذا المجال. في متاجر الكتب المتخصّصة في أدب الأطفال، غالبًا ما يكون المساعدون خبراء في هذا المجال. أصحاب وموظّفو هذه المتاجر هم بمثابة قوائم مراجع متنقّلة، بعد أن كرّسوا الكثير من الوقت لدراسة أو تدريس أدب الأطفال.
بما أنّ الكتب المجلّدة والمصوّرة باهظة الثمن إلى حدّ يحول دون إمكانية شرائها من قِبل معظم العائلات الأمريكيّة، فهي تُشترى عامةً من قِبل المكتبات، العائلات المقتدرة والبالغين هواة جمع كتب الأطفال. الطبعات ذات الغلاف الورقيّ أكثر قابلية للوصول إلى جمهور أوسع، مقارنةً بالطبعات الأولى، ولكن السلع الرائجة غالبًا ما تكون كتب ديزني، سلاسل الكتب مثل سلسلة الكتاب الذهبيّ (The Golden Books)، كتب مستوحاة من حياة شخصيات تلفزيونيّة شهيرة، كتب تعليم الأبجديّة زهيدة التكلفة، كتب تقليد للكلاسيكيات الشعبيّة مثل قصص "بيتر الأرنب" لبياتريكس بوتر و"قمري المسافر" لمارغريت وايز براون، كتب الحكايات الخرافيّة وأغاني الأطفال. تباع هذه الكتب بمئات آلاف النسخ، وكذلك هو الأمر بالنسبة لكتب الرسوم الهزليّة، كتب الصور المتحرّكة، المجلات والمواد المرفقة للأقراص المُدمجة، الأشرطة السمعيّة وأفلام الفيديو.
يصعب على غالبيّة الناشرين الصغار لكتب الأطفال توزيع كتبهم على المستوى القطريّ وضمان عرضها في مكان بارز أو الترويج لها من قِبل متاجر الكتب. يكتفي العديد من الناشرين الصغار بخدمات إقليميّة جيّدة، ويستخدمون الكتالوجات بنجاعة من خلال خدمة التوزيع البريديّ. ولكن ازدهار عالم الإنترنت أتاح إمكانيات جديدة. بالإضافة إلى حقيقة أنّ أمازون وبارنز ونوبل قاموا بتعديل نطاق التوزيع والنشر والإعلان عبر شبكة الإنترنت، يوجد لمعظم الناشرين في الوقت الحالي مواقع إنترنت خاصة بهم، لبيع وتوزيع كتبهم، يروّج العديدون من مؤلّفي كتب الأطفال لأنفسهم عبر مواقع إنترنت خاصة بهم ويقوم آخرون بإنشاء مواقع للدردشة مع قرّائهم. توجد لمتاجر الكتب أيضًا مواقع إنترنت لمنافسة الناشرين والموزّعين الذين يُضعِفون نشاط هذه المتاجر، وفي الوقت نفسه يتوقّعون منها متابعة توزيع بضائعهم. بالنسبة لبارنز ونوبل ومجموعة بوردرز، ليست هناك منافسة حقيقيّة لأنّ بنية الشركة تشتمل على آليتيّ إنتاج وتوزيع.
كما نعلم جميعًا، ساهم الإنترنت والحاسوب في تغيير أساليب القراءة والاتصال بين بعضنا البعض، وسيستمرّ في ذلك في القرن الواحد والعشرين. بعض النصوص، تحديدًا الكلاسيكيّة منها، تُنتج وتوزّع عبر شبكة الإنترنت.
على غرار التلفزيون، يستطيع الأطفال والبالغون استخدام شبكة الإنترنت بشكل حرّ وتصفّح المواقع لقراءة ومشاهدة المواد التي تستهويهم.
على ضوء التشكيلة الواسعة وحجم الإنتاج الضخم لمواد القراءة للأطفال، يكاد يستحيل تخمين ما يقرأه الأطفال وكيف يقرؤون ويستوعبون الأدب المخصّص لهم. من المؤكّد أنّهم لا يقرؤون ما نأمل أو نريدهم أن يقرؤوا، وأعتقد أنّ أكبر جمهور قرّاء لكتب الأطفال في الولايات المتحدة وإنجلترا يتكوّن من طلاب الكليّات والجامعات الملتحقين بمساقات الأطفال، إلى جانب المعلّمين، أمناء المكتبات والكُتّاب المنكبّين خصيصًا على قراءة أعداد كبيرة من كتب الأطفال. وهنا أود أن آتي بنظرية بخصوص جمهور كتب الأطفال. سواء كانت فرضيّاتي صحيحة أم خاطئة، فهي تتطرّق إلى بعض الإشكاليّات في ادّعاءاتنا حيال أدب الأطفال، ما هو، وكيف يُقرأ.
مع أنّه ليس كلّ جامعات وكليّات الولايات المتحدة، والتي يزيد عددها عن الألفين، تقدّم بانتظام مساقات في مجال أدب الأطفال، إلا أنّ معظمها تدرّس بالتأكيد مساقًا معيّنًا يتناول بطريقة أو بأخرى أدب الأطفال. في الواقع، تطورّ مجال أدب الأطفال بشكل كبير خلال العقدين ونصف الأخيرين، بدعمٍ من الجمعيّة الأمريكيّة لأمناء المكتبات، جمعيّة أدب الأطفال، جمعيّة اللغة الحديثة، والمجلس الوطني لمعلّمي اللغة الإنجليزيّة. هناك أيضًا عدة مجلات مهمّة مثل Children’s Literature Quarterly، The Lion and the Unicon، The Horn Book، The Bulletin of Center for Children’s Books، Canadian Children’s Literature، The Five Owls، Children’s Literature، Book List، Children’s Literature in Education و Signal. بالرغم من اختلاف هذه الإصدارات عن بعضها البعض من حيث أهدافها وفلفستها التحريريّة، إلا أنّها تنشر مقالات مركّبة وعالية المستوى التي تُعنى بجميع جوانب أدب الأطفال منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا. العديد من هذه المقالات مُتاحة عبر شبكة الإنترنت، وهناك أيضًا مواقع إنترنت خاصة تتضمّن نقدًا لكتب الأطفال، والبعض منها يُدار على يد قرّاء صغار. تقدّم مواقع أخرى نقدًا لأعمال معاصرة وإصدارات علميّة.
إنّ ازدياد الجمهور الأكاديميّ، والذي يشمل الأساتذة، المعلّمين،ـ أمناء المكتبات والطلاب ساهم في نشوء جمهور قارئ كبير يتعامل مع أدب الأطفال بجديّة أكثر من أي وقت مضى، على مدار تاريخ الجامعات وجهاز التربية والتعليم. الأمر لا يقتصر على وجود مساقات التي تُعنى بمجال الأدب بحد ذاته، إنّما هناك ايضًا برامج تتمحور حول تاريخ الطفولة، الأطفال والإعلام الجماهيريّ، سيكولوجيّة الطفل، التعدديّة الثقافيّة وأدب الأطفال، ثقافة المراهقين المشتركة وغير ذلك. ينكشف آلاف الطلاب الأمريكيين والبريطانيين سنويًا على الأدبيّات المكتوبة خصيصًا للأطفال، والتي لم ينكشفوا عليها في طفولتهم. لا بدّ أنّهم قد قرؤوا بعض العناوين، ولكنهم بالتأكيد لم يقرؤوا ولم يناقشوا معظم كلاسيكيّات أدب الأطفال، ومن المؤكّد أنّهم لن يغطّوا المجموعة الكبيرة من الكتب المعاصرة التي سيطلب منهم الأساتذة قراءتها خلال الفصل.
هؤلاء الطلاب يكونون أساسًا من الإناث، بيض البشرة، وينتمون للطبقة الوسطى-الدنيا. العديدون منهم قد يصبحوا معلّمين أو أمناء مكتبات في مراكز للإعلام الجماهيريّ. العديدون منهم يلتحقون بالمساق لمتعتهم الخاصة لأنّهم سمعوا بأنّه ممتع، سهل أو شيّق. ينزعج ويعترض البعض منهم إذا قام أحد الأستاذة بتحليل كتاب من منظور تفكيكيّ، فرويديانيّ، يونغيانيّ، باختينيّ أو ماركسيّ. إلا أنّ أنواع التحليلات هذه أصبحت شبه اعتياديّة في المهن المتعلّقة بأدب الأطفال، والذي يستقبل ويتدارس الأعمال المعاصرة والكلاسيكية بأساليب جريئة، بالاستناد غالبًا إلى أبحاث تاريخيّة شاملة وتوجّهات مُلّحة متعددة التخصصات.
ما يقارب تسعين بالمئة من الأساتذة في مجال أدب الأطفال هم من النساء، ما يعادل نسبتهن في مجال إصدار كتب الأطفال، وعلى مدار سنوات طوال، كان أدب الأطفال (وربّما لا يزال) مقترنًا بالنساء، واعتُبر أكاديميًا "أدبًا طفوليًّا"، وهي وجهة نظر تكشف الستار عن جهل وغطرسة العديدين من الأكاديميّين الرجال في أقسام اللغة الإنجليزية، والذين نادرًا ما بحثوا في أدب الأطفال، ويرجّح بأنّهم لا يفعلون ذلك الآن أيضًا. ولكن التعقيدات الكامنة في أدب الأطفال في العالم الأكاديميّ ليست من اهتماماتي، عدا عن أهميّة الإشارة إلى أنّ جمهور الطلاب والأساتذة ازداد في السنوات الأخيرة، ويُعتبر الجمهور الأساسيّ لأدب الأطفال. ومن هذا الجمهور يولد المعلّمون، أمناء المكتبات، المربّون والصحفيون، إذا جاز التعبير، والذين يشكّلون بدورهم الجمهور الثاني لكتب الأطفال.
المعلّمون وأمناء المكتبات هم بالتأكيد الأكثر نهمًا، تزمّتًا وإلحاحًا من بين قرّاء أدب الأطفال على وجه الأرض، فإلى جانب البحث الدائم عن الكتب الجديدة التي تصدر شهريًا، وقراءتها ومناقشتها، فإنّهم يعيدون قراءة الأعمال المفضّلة لديهم، يطوّرون مناهج دراسيّة تتضمّن أعمالا مهمّة قديمة، يشاركون في التجارب التربويّة لتعزيز الثقافة ويستكشفون توجهات جديدة للقراءة. نظرًا للحريّة المُعطاة للمعلّمين وأمناء المكتبات فيما يتعلّق باختيار الكتب لمساقاتهم، يصعب تحديد تفضيلاتهم وكيفيّة تقييمهم للكتب. يستعين هؤلاء القرّاء قليلا بنُقّاد مهنيّين وبمجلات التي تقيّم الكتب وتمنح الجوائز، مثل كاليدكوت ونيوبيري. يتداخل البعض منهم، على حسب أعباء العمل الملقاة على كاهلهم، في مختلف أنواع المشاريع، اللقاءات والجمعيات التي تُعنى بأدب الأطفال. وفي حين أنّ قرّاء ومستهلكين مهمّين لأدب الأطفال ينكشفون على هذا المجال لأول مرّة في الجامعة، فإنّ المعلمين وأمناء المكتبات هم الموزّعون لهذه الكتب: فهم يحدّدون الكتب التي ستُشترى وتُستخدم في المدرسة، وهم الذين يعمّمون شتّى الأفكار حول مجال الأدب ويؤثّرون على عادات القراءة، بالإضافة إلى الأهالي.
الأهالي أيضًا هم قرّاء مهمّون لأدب الأطفال، خاصة الأمهات، مع أنّ بعض الآباء في السنوات الأخيرة يقرؤون لأطفالهم، وأحيانًا يشترون لهم الكتب. ولكن بالنسبة للجزء الأكبر، فإنّ الأمهات هنّ الأكثر اهتمامًا بأدب الأطفال الذي يقرأه أطفالهنّ، ويصطحبن أطفالهنّ إلى متاجر الكتب أو يذهبن بأنفسهنّ إلى هناك لتحديد ما يردن لأبنائهنّ أن يقرؤوا أو يشاهدوا. تبدأ هذه السيرورة بكتب الأبجديّة للأطفال الصغار ولا تتوقف أبدًا، فعند وجود أحفاد، ستهتمّ الجدّات بالـتأكيد بعادات القراءة لدى أحفادهن. من المؤكّد أيضًا أنّ الطبقة الاجتماعيّة والخلفيّة العرقيّة للعائلة تلعبان دورًا مهمًا في تلقّي الأدب في البيت. على ضوء الفجوة الاجتماعيّة الواسعة في الولايات المتحدة، وارتفاع معدّلات الفقر خاصة في العائلات أحاديّة الوالدين، لا يوجد لدى الكثير من العائلات ما يكفي من المال لشراء الكتب للأطفال، وإذا أراد الأهالي شراء شيء ما لأطفالهم، عامةً ما يكون ذلك جهاز تلفاز أو جهاز فيديو مع مذياع قارئ للأقراص المُدمجة أو حامل أشرطة. تعتبر الكتب لدى العديد من العائلات الفقيرة وعائلات الطبقة الوسطى ترفًا وليست أولويّة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مبيعات الكتب الرائجة مثل "الدببة برنشتاين"، "أين والدو؟"، كتب ديزني المستوحاة من "الجميلة والوحش"، "علاء الدين"، "بوكاهنتس"، الحكايات الرمزيّة وما إلى ذلك تدلّ على أنّ هناك ميلًا لشراء ما تُبرزه وتتيحه صناعة الثقافة. المدرسة والمكتبة هما المكان الذي يحظى به الطفل بفرص أفضل للانكشاف على تشكيلة واسعة من الكتب، مقارنةً بتلك التي يحظون بها لدى أهاليهم وفي متاجر الكتب. في الكثير من الأحيان، يعتمد الأهالي على النقد المنشور في الصحف المحليّة، في نوافذ ورفوف العرض في متاجر الكتب، أو وفق نصيحة بائع الكتب غير الملّم بأدب الأطفال.
لا أقصد بذلك الاستهانة بنقّاد كتب الأطفال في الصحف المحليّة أو في الصحف الشعبيّة، ولكنني نادرًا ما قرأت نقدًا سلبيًا عن كتاب للأطفال أو للقرّاء الصغار. يبدو أنّ كلّ شي يناسب أدمغة وأعين الأطفال. نادرًا ما يتمّ تعريف "الجيّد"، مع أنّه قد يبدو ظاهريًّا بأنّ الناقد يدرك جيدًا ما هو الأدب الملائم للأطفال، بالرغم من أنّه يُعتبر قارئًا تمييزيًّا.
من ناحية أخرى، يميل القرّاء الأطفال ما بين سنّ الثانية والسادسة عشر إلى العشوائيّة. لا أقصد بذلك الاستخفاف بذكائهم أو بأذواقهم، ولكنهم نادرًا ما يتذمّرون. إنّهم يقرؤون ويشاهدون ما يستهويهم، وما لم يُطلب منهم ذلك، فإنّهم يمتنعون عن التعبير عن آرائهم النقديّة، باستثناء الحديث عمّا يعجبهم أو لا يعجبهم، وما إذا كان شيّقًا أم لا. إنّهم يقرؤون ويشاهدون كلّ ما يرونه أمامهم من كتب، مجلات رسوم هزليّة، مجلات الموضة والرياضة، صحف، إعلانات، قواميس، كتب دراسيّة، أدلة العناوين، رسائل البريد الإلكتروني، يافطات وشارات. يطوّر الأطفال أذواقهم وعادات القراءة في البيئة المحيطة، التي تتكوّن من المنزل أو الشقة، المدرسة، الحي، التلفاز والأفلام. يكبرون ويطوّرون قدرتهم على القراءة، استيعاب ما يقرؤون، فهم معناه وتطوير ميولهم استنادًا إلى تجاربهم وأذواقهم. سيواجهون كميّة هائلة من مواد القراءة التي تشبه ساحة قتال أو انفجار لإشارات ورموز تسعى لاجتذابهم، إغوائهم، التحكّم بهم، دغدغة مشاعرهم، استفزازهم، تبديل أحوالهم، إرشادهم، إملاء الأوامر عليهم، مناشدتهم، تحذيرهم وتسليتهم. يُدعى ذلك سيرورة تحضير، سيرورة تثقيف. يُتوقّع من الأطفال التكيّف مع هذه الإشارات والرموز، تعلّم كيفيّة استخدام الرموز اللغويّة ليصبحوا مواطنين مثاليّين. من خلال اكتساب وإتقان المهارات اللغويّة، يكتسب الفرد مكانة اجتماعيّة في كلّ دولة، لذلك، كثيرًا ما تندلع معارك حول اللغة التي يجب استخدامها في المدارس والمؤسّسات العامة، وكيفيّة تدريس هذه اللغة، وحول الكتب التي يجب استخدامها مع الأطفال. لذلك، لا يمكننا القول إنّ هناك أدب أطفال، والحديث تحديدًا عن جسم قابل للتعريف، وينبغي علينا بدلا من ذلك الحديث عن مؤسّسة أدب الأطفال.
يمكننا بالتأكيد الادّعاء بأنّ كلّ ما يقرأه الأطفال يُعتبر نوعًا من أدب الأطفال، إلا أنّ هذا ليس أدب الأطفال الذي نتصوّره عادةً عندما نستخدم المصطلح. ولكن إذا ركّزنا عمّا يستملكه أو ما ينتجه الأطفال، فإنّ القراءات التي ينكشفون عليها، أيّ أدب الأطفال، تتكوّن ظاهريًا من كتب الصور المتحرّكة، نصوص البطاقات الرياضيّة، القصص المرافقة للألعاب (ابتداءً من الدمى الأمريكيّة الجديدة وصولا إلى دمى باربي الشهيرة)، الألعاب اللوحيّة، أغلفة العلكة، القصص المصوّرة، المنشورات، الكتيبات التي ترافق الأشرطة والأقراص المُدمجة، الكتب المصوّرة منخفضة التكلفة، مجلات الموضة والرياضة وسلاسل الكتب مثل Sweet Valley Twins أو صرخة الرعب، بطاقات التهنئة، واجهات العرض، الملصقات، الكتب التمهيديّة، تعليمات الاستخدام على الماكينات، ألعاب فيديو تشمل ألعابًا حاسوبيّة، نصوصًا وقصصًا على شبكة الإنترنت، إعلانات تلفزيونيّة، جداريّات، مختلف أنواع اليافطات، رسائل، سِير ذاتية لنجوم رياضيين وممثّلين، قصص الكلاب والقطط ونصوص للإمتحانات. من المؤكّد أنّني لم أتطرّق إلى جميع النقاط الهامة، ولكن نقطتي الأساسيّة هي أنّ الطفل يميل إلى قراءة المواد أعلاه أكثر من قراءة قصيدة، قصة أو رواية لكاتب مرموق.
هذا الوضع ليس بائسًا- إلا إذا رأينا أنّ ثقافتنا حقًّا بائسة. الحقيقة هي بأنّ هناك أعمال رائعة لكُتّاب وفنانين موهوبين وجديّين، بالإضافة إلى جميع مواد القراءة الأخرى، جميعها تتنافس على جذب اهتمام الأطفال. تبلور هذه الأعمال سيرورة القراءة الثقافيّة التي يخوضها الأطفال والبالغين على حدّ سواء. وبدلا من التجادل بشكل غير مسؤول حول مقرّر النصوص الأدبيّة المفضّلة التي ينبغي على جميع الأطفال الاطّلاع عليها، وهي الغاية التي سعى ويليام بينيت، إدوارد هيرشي وآخرون لتحقيقها، علينا تحمّل المسؤولية حيال مختلف أنواع النصوص التي نساهم نحن في إنتاجها، تعميمها والترويج لها، والتي ينكشف عليها الأطفال. يمكن للطفل أن يتعلّم قراءة وتقييم النص بشكل نقديّ طالما تحلّى المعلّمون والأهالي بالقدر الكافي من الصبر لإرشاد الطفل، وتعلّموا كيفية استيعاب وفهم ما يقرأه ويواجهه الأطفال.
يؤكّد جيفري ويليام بأنّ "إتاحة بعض الأدوات السيميوطيقيّة للأطفال، والتي تمكّنهم من وصف التنميط اللغويّ والبصريّ في النصّ الأدبيّ، قد تساهم في تطوير أصول قراءة مختلفة، ممّا يتيح للأطفال المجال للاستمتاع ذهنيًّا ونقديًّا بطبيعة مبنى النص، ولكن دون التخلي عن فكرة الاستمتاع بالقصة نفسها". أقترح هنا أن نولي أهميّة للطبيعة التناصيّة لعادات القراءة لدى أطفالنا، وأن نطّلع معهم على مختلف أنواع أدب الأطفال، لنتمكّن، نحن وهم، من تعلّم واستخدام رموز لغويّة في القراءة، من أجل متعتهم وتطوّرهم. أثناء هذه السيرورة، سيتعلّم الأطفال التمييز والتقييم الحكيم، وسيقاومون، بشكل نقديّ وإبداعيّ، القوى الاجتماعيّة-الاقتصاديّة التي تؤثّر عليهم، تصقلهم وتثقفّهم. ربّما سيتعلّمون أيضًا كيفيه وضع معايير عالية لسيرورة الإنتاج بالتعاون مع البالغين، الأمر الذي سيؤدي إلى إنتاج أدب قصصيّ وشعر نوعيّ للقرّاء الصغار.
ما لم يدرك الأطفال والبالغون بأنّ موضوع القراءة هو جزء لا يتجزأ من مؤسّسة أدب الأطفال التي تعمل ضمن صناعة ثقافة ضخمة، فإنّ قراءة الأدب والاستمتاع به سيكونان مجرّد سلوكيّات استهلاكية من أجل الاستهلاك. إنّ وجود أدب أطفال يعتمد على هذا النوع من الإدراك، وإلا، فإنّ أدب الأطفال ليس موجودًا.
تعليقات (0)
إضافة تعليق