(بتصرّف عن دراسات الدكتورة نجلاء نصير بشور)
نشأ أدب الأطفال بصُور مختلفة في العالم وفي تاريخ البشريّة؛ فقد تكون بدايته كقصص تُحكى لأطفال الغابات والكهوف حول الموقد في ساعات الظلام، وقد تكون في كلّ تحذير أسمَعَه والد قلق لأطفاله لحرصه على إبعادهم عن المخاطر. إلا أننا في هذا النصّ نتطرّق لأدب الأطفال المكتوب، أو كما يُسمّيه البعض: أدب الأطفال الورقيّ.
يتفق الباحثون على عدد من النصوص الفرنسيّة من القرن السابع عشر، على أنّها النصوص الأولى للأطفال، نذكر منها كتاب "الحكايات الخرافيّة" (1668) للشاعر جان لافونتين، وكتاب "حكايات الاوزة الأم" (1697) لشارل بيرو في أول ذكر نصي لقصة ليلى الحمراء مثلاً. لا بدّ أن نذكر كذلك البريطاني جون نيوبيري، الذي يعتبر مؤسّس أول دار نشر لأدب الأطفال ومجلات الأطفال، الذي أصدر كتابه الأول "كتاب جيب صغير جميل" عام 1744. في ألمانيا، أبدع في هذا المجال الأخوان غريم، ويلهالم ويعقوب، عملاقي جمع الأدب الشعبيّ وكتابة البعض منه بصيغته المألوفة، كـ "سندريلا" و"ليلى الحمراء" و"بيضاء الثلج"، حيث جمعا هذه النصوص في كتابهما "حكايات الأطفال والبيت" الصادر سنة 1812. ولإكمال اللفتة السريعة لتاريخ أدب الأطفال العالمي، بقي أن نذكر هانس كريستيان أندرسن، الكاتب الدانماركي، في كتابه "خرافات تحكى للأطفال" عام 1835، فيه سمعنا لأول مرة "حورية البحر" و"البطة القبيحة" و"بائعة الكبريت".
وعندنا؟
أمّا في العالم العربي، فقد جاء أدب الأطفال المكتوب بشكل رسميّ ومباشر في القرن التاسع عشر. إلا أنّ الأطفال كانوا يحصلون على أدب آخر، لم يكتب لهم في البداية، إلا أنه مرّ بعمليّة تبسيط وتلخيص حتى يناسب الأطفال بصورة أدب محكيّ وكجزء لا يتجزّأ من الأدب الشعبيّ. ونحن نقصد بهذا مجموعة قصص "ألف ليلة وليلة" ومجموعة بيدبا القصصية "الفصول الخمسة"، أو باسمها العربيّ "كليلة ودمنة"، المترجمة عن اللغة السنسكريتيّة. لم يُكتب "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" للأطفال في البداية، لكن مع الوقت، وبعد أن خضع الكتابان للتلطيف والتبسيط، أصبحت قصصهما موجّهة بشكل مباشر للأطفال، كقصّة "علاء الدين والمصباح السحريّ" مثلاً.
كانت نقطة التحوّل المركزيّة في تطور أدب الأطفال العربيّ سنة 1979، حين أعلن أمين عام الأمم المتحدة هذه السنة كسنة عالميّة للطفل، ما دفع دور نشر كثيرة نحو تطوير خطط لإصدار أدب أطفال متقدم ومتطوّر باللغة العربيّة
إذًا، وكما ذكرنا، بدأ أدب الأطفال العربيّ المكتوب الأول في القرن التاسع عشر في مصر بدايةً، في عهد محمد علي، الذي أرسل البعثات العلميّة إلى أوروبا للدراسة والاطّلاع. رفاعة الطهطاويّ، الذي كان من قادة النهضة العلميّة في مصر في تلك الفترة، وبصفته مسؤولاً عن التعليم، أمر بنقل أدب الأطفال الأوروبيّ إلى اللغة العربيّة، وترجم بنفسه قصّة "عقلة الأصبع"، وعمل على إصدار أول مجلة عربيّة للطفل تحت عنوان "روضة المدارس" عام 1870. بعده مباشرةً جاءت الترجمات بتصرّف لنصوص لافونتين وكتابة الشعر بوحي منها على يد أحمد شوقي وعثمان جلال، تلاهما كامل كيلاني في عشرينيات القرن العشرين بكتابة الأدب للأطفال، بداية بـ "السندباد البحريّ" الذي تلته عشرات النصوص. عندها جاءت المسرحيات التي كتبها محمد الهراوي ويعقوب الشاروني.
أمّا فلسطين، فقد كانت حكاية من نوع آخر؛ ففي فلسطين اعتمد أدب الأطفال السابق للنكبة على الحياة المدرسيّة للأطفال وعلى دراستهم وتعليمهم، وبرزت أسماء خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي في تلك الاثناء. لكن منذ النكبة اختلفت الموازين وصار أدب الأطفال الفلسطينيّ أدبًا مقاومًا وأدبًا يحمل همّ القضية. النكبة الفلسطينية أثرت على العالم العربيّ فأصبحت في الخمسينات موضوعًا غاية في الأهميّة يتطرق إليه بكثرة أدب الأطفال في العالم العربيّ، كما في نصوص زكريا تامر في سوريا مثلا، وجمال أبو حمدان في لبنان وفخري قعوار في الأردن ومحيي الدين اللباد في مصر.
ما زال أدب الأطفال في العالم العربيّ، اليوم، في العقد الثاني للألفية الثالثة، بحاجة إلى دعم كبير من الجهات الثقافيّة كي يتمكّن من التطوُّر ومواكبة تطوّره السريع في العالم
كانت نقطة التحوّل المركزيّة في تطور أدب الأطفال العربيّ سنة 1979، حين أعلن أمين عام الأمم المتحدة كورت فالدهايم هذه السنة كسنة عالميّة للطفل. ودفع هذا الإعلان دور نشر كثيرة في العالم العربيّ نحو تطوير خطط عملٍ لإصدار أدب أطفال متقدم ومتطوّر باللغة العربيّة. كانت إحدى النتائج المتميّزة لهذا الإعلان مجلة "سامر" الأردنية التي أصدرت قصص أطفال رائعة وبارزة في العالم العربيّ. وصدر كذلك للقاصّ الفلسطينيّ المقدسيّ محمود شقير عام 1986 كتاب بعنوان "الجندي واللعبة" في عرض قصص من وحي الاحتلال تحكي معاناة أطفال فلسطين. كذلك كانت قصص د. شحادة علي ناطور التي سعت لتنمية روح المقاومة ورفض الاحتلال.
في هذه الفترة بزغ اسم دار الفتى العربي اللبنانيّة ودائرة ثقافة الطفل العراقية، كدور نشر مركزية وغاية في الأهمية في العالم العربي، حيث أصدرت كلتاهما كتبًا وقصصًا للأطفال بالتعاون مع فنانين وأدباء من كافة العالم العربيّ، وتمكّنت من الوصول إلى الأسماء المتميّزة كي تنجح بإصدار إصدارات مميّزة.
في سنة 1990، وفي أعقاب برنامج "التعليم للجميع" الذي أقرّ في مؤتمر القمة العالميّ، ومع تنامي حركة تشجيع حقوق الطفل، بدأ أدب الأطفال كذلك بملاءَمة نفسه لهذه المستجدّات. فقد تأسّست دور نشر تتخصّص بأدب الأطفال في لبنان وسوريا ومصر والأردن والكويت وفلسطين، ومؤخرًا في الإمارات العربيّة المتحدة. وفي أعقاب هذه التطوّرات نشأت جوائز خاصّة لأدب الأطفال في العالم العربيّ، كجائزة كامل كيلاني في مصر، وجائزة اتصالات في الإمارات وجائزة الدولة في قطر، وغيرها.
ما زال أدب الأطفال في العالم العربيّ، اليوم، في العقد الثاني للألفية الثالثة، بحاجة إلى دعم كبير من الجهات الثقافيّة كي يتمكّن من التطوُّر ومواكبة تطوّره السريع في العالم. نرى اليوم دور نشر رائعة لإصدار أدب الأطفال في العالم العربيّ، كدار "كلمات" الإماراتيّة الحائزة على جائزة بولونية لسنة 2016، إلا أنّ هذه الدور المميزة ما زالت معدودة، ولذلك ما زالت الطريق طويلة.
تعليقات (0)
إضافة تعليق