بدأت الكاتبة تغريد النجار مشوارها الأدبي في السبعينات وما زال قلمها مبدعًا ولم يجف حبره؛ فمهنيتها وخصوصية نصوصها وأصليتها، تجعلها كاتبة رائدة في أدب الأطفال واليافعين في العالم العربي أجمع.
نشرت الكاتبة تغريد النجار في العقود الأخيرة العشرات من كتب الأطفال القيمة والنوعية. قراءة كتبها تكشف لنا ثيمات وقيمًا متكرّرة في معظم نصوصها، إلا أنها تمكّنت بحرفية ومهنية من زرعها في النصوص من غير كشفها بشكل مباشر وجلي. بالرغم من تكرار القيم هذه، لا يشعر القارئ بأنّ نصّين متشابهان بتاتًا، بل كل نصٍّ قائم بحد ذاته، ويمرر هذه القيم بذكاء وفطنة تحترم الأطفال ولا "تُجاريهم" بمحاولات تبسيط استعلائية كما يحدث في الكثير من النصوص للأطفال.
في بداية التعامل مع نصوصها، ظننت بأن هذه القيم تتغير عبر السنوات، وفي كل فترة زمنية تحرك احدى هذه القيم غريزة الابداع في النجار، وترافقها في كتابة النصوص. لكن بعد الانتهاء من قراءة أكثر من 30 نصًا للكاتبة، أعتقد أن القيم التي تكتب النجار بحسبها، هي قيم انسانية ترافقها منذ بداية الطريق، ويمكننا أن نشخصها في نصوص صدرت في التسعينات على غرار نصوص صدرت في السنوات الأخيرة.
في هذه المادة سوف أقوم بعرض بعض تلك الخصائص والقيم التي تمكنت من استخلاصها، لأحاول بواسطتها فهم ودراسة معايير أدب الأطفال التي تبلور مسيرة الكاتبة تغريد النجار.
الثيمة المركزية التي يمكن الشعور بها من أول قراءة لنصوص النجار، هي العدل والانصاف تجاه البطلات الصغيرات في كتبها. بدايةً أذكر أنني شعرت بأن معظم أبطال القصص من البنات النشيطات وغير الخاملات كما هو مألوف في أدب الأطفال العربي (بناءً على بحث الدكتورة هالة اسبنيولي حول دور المرأة في أدب الأطفال).
هذه الثيمة تتكرر مرة تلو الأخرى؛ فعلى سبيل المثال، في كتاب "نشمة وجاسم" تعتني الطفلة البدوية نشمة بقاعود (جمل صغير) وتشارك والدها وعائلتها في كل الطقوس البدوية المعروفة، كجزء ناشط وواضح ليس في تمثيل دوره أي تردد. في مرحلة معينة يضيع القاعود في المدينة وتأخذه الشرطة إلى حديقة الحيوانات، حتى تأتي نشمة بسرعة وتنقذه.
وفي كتاب "من خبأ خروف العيد" (2012)، تحكي لنا النجار على لسان جدّة تشارك أطفالها بمغامراتها عندما كانت هي طفلة، كيف تمكّنت من اخفاء "خروف العيد" لأنها تعلقت به ورأته صديقاً لها. في القصة، تتمكن الجدة من التغلب على اصرار عائلتها، وتقنعهم بترك الحمل الصغير الذي اعتنت به وعدم ذبح خروفها والاستفادة منه بطريقة أخرى. هكذا تتمكن النجار من مشاركة بطولة الجدة في أيام طفولتها، أي أن قوة صوتها لا تتمثل فقط في الحاضر، انما كذلك في الماضي البعيد.
في قصة أخرى، "ما المانع؟" (2013)، تزرع النجار فلسفتها ورؤيتها في العنوان الذي يسأل ما المانع بأن تستبدل الطفلة الصغيرة سامية والدها المسحراتي أبو سامية في وظيفته عندما يكون مريضًا؟ وما المانع بانضمام بنات الجيران الصغيرات إليها في جولة الغناء والموسيقى في القرية؟ وبكل حق تسأل النجار المجتمع عامة: ما المانع في حضور الطفلة في الحيز العام وقيامها بأي وظيفة اعتدنا أن يترأسها الرجال؟
وأخيراً طبعاً في قصة "جدتي نفيسة" الرائعة، فيها تكشف لنا النجار برنامج يوم في حياة الجدة نفيسة التي تقوم بنشاطات مختلفة جداً بعد تقاعدها. بهذه القصة تعرض النجار رؤيتها لواقع حياة المسنين المثالي، في شخصية الجدة نفيسة النشيطة والناشطة في مجال الفن. هكذا يتعرف الأطفال بشخصية امرأة قوية جداً.
هذه الازدواجية تعتبر واحدة من أكثر الازدواجيات ذكرا في أدب البالغين، إلا أنها نادرا ما تظهر بصورة واضحة في أدب الأطفال. في نصوص تغريد النجار، يمكننا أن نجدها في مواضع عديدة والنجار تستعملها كأداة لعرض فكرة المكان الطبيعي مقابل الصناعي. وأكثر من هذا؛ تستغل النجار هذه الازدواجية لتعرض موضوع حقوق الحيوانات وأفضلية وجودها في مكانها الطبيعي -في الطبيعة- على وجودها في الأسر وفي المدينة، ككائنات لترفيه البشر. من خلال هذه الثيمة ينكشف الأطفال للبيئة المناسبة للحيوانات المختلفة.
على سبيل المثال، نجد هذه الثيمة بشكل واضح في كتاب "فيفي"، الذي فيه تحصل الطفلة دانة على بقرة، كهدية لعيد ميلادها من خالها المزارع صالح. فيفي البقرة اعتادت على الحياة الحرة في الطبيعة، وعندما تعيش في المدينة في حديقة بيت دانة، تقوم بالكثير من المشاكل. قد تؤدي هذه الاشكالية للتفكير بطبيعية المكان وامكانية تأقلم الحيوانات فيه، إلا أن البقرة فيفي لا تتقلم في الأسر، فهي تكره أن يتم ربطها في الحديقة، حتى يأتي الخال صالح ويعيدها إلى المزرعة.
في كتاب "فهمان"، نلتقي بقصة شبيهة، تحكي عن قرد يزور المدرسة لملاقاة صديقه فراس وهناك يقوم بالعديد من المشاكسات والمضايقات لزملاء فراس في بيئة المدرسة التي لا تناسبه. في قصة "نشمة وجاسم" يترك الجمل البادية ويزور المدينة ويسبب شوشرة وفوضى عارمة.
هذه الثيمة تعود وتتكرر مراراً وتكراراً بطرق ابداعية ومميزة، حتى أنها في قصة "ضاع عمر" تتمثل في طفل اسمه عمر يضيع من والدته ويبحث عنها. ربما القصة لا تتوجه بشكل مباشر للتعامل مع موضوع الطبيعة والثقافة والمكان الطبيعي، إلا أننا يمكننا استنتاج ذلك كون البيئة الطبيعية التي من المفروض أن يكون فيها الطفل في جيل عُمر، هي في أحضان والديه وليس وحده.
قد يبدو الأمر مفهومًا ضمنًا، إلا أن بيئة قصص الأطفال تتبلور في الكثير من الأحيان كبيئة عالمية والشيء الوحيد الذي قد يدل على أن الكتاب عربي وغير مترجم هو الأسماء العربية فيه. إلا أنّ هذا الأمر يبدو واضحًا وجليًا في معظم نصوص تغريد النجار. الكتب لا تمثل البيئة العربية (الفلسطينية والأردنية عادةً) بشكل سطحي بل هي تمثل خلفية واضحة جداً للنصوص وفي الكثير من الأحيان كذلك تمثل أحد مسيّرات حبكة القصة.
هذه الثيمة تعرض في نصوص النجار بطرق عدة، أولها عرض العادات والأعياد العربية (الاسلامية بشكل عام والمسيحية أيضًا في بعض الأحيان)، في قصص مثل "ما المانع" و"عندما دق الباب" و"من خبأ خروف العيد" وغيرها الكثير. أو عرض البيئة الحياتية في المجتمع العربي، مثل حياة البادية وحياة الفلاحة، والانتقال بين القرية والمدينة بسلاسة كما جاء في قصص: "فيفي" و"نشمة وجاسم" و"تيتا نفيسة" وغيرها.
هذه الثيمات الثلاث بنظري هي المركزية في نصوص النجار، وتضفي عليها رونقًا محليًا يتواصل معه كل قارئ عربي عامة. ترافق هذه الثيمات قيم وأخلاق عديدة تنادي بها الكاتبة، من تقبّل الآخر، وتوسيع الآفاق للأطفال وتعرفهم على الآخر الذي قد يكون مختلفًا بعض الشيء، ولكنه مألوفٌ أكثر في تصرفاته وتعامله ووصفه في النصوص.
في هذه المادة تطرقت عامة للنصوص التي كتبتها النجار لأجيال 3 سنوات حتى 7، ولكن لا بدّ كذلك من ذكر الفئات العمرية الأخرى التي تطرقت إليها النجار، وهي الطفولة المُبْكِرة واليافعين. لا يمكن أن نتجاهل اصدارات الكاتبة الشعرية الأخيرة: "أهازيج الطفولة المبكرة"، وهي سلسلة من ستة كتب شعرية تحمل في طياتها "أهازيجَ" وأغاني الطفولة المألوفة لمعظم أطفال فلسطين والجديدة الأصلية التي أضافتها الكاتبة. فمثلاً في كتاب "عمّو الشرطي" شملت النجار مجموعة كبيرة من أغاني أصحاب المهن، وفي كتاب "هيك بسبحوا الأسماك" الذي شمل أغانيَ مرافقة لدغدغات وحركات تمرن الأطفال على السيطرة الحركية وعلى أعضاء جسدهم المختلفة. وفي كتاب "طاسة طرنطاسة" الذي يعلم الأطفال العديد من المفردات من التراث العربي الفلسطيني والأردني. كافة الأهازيج تأتي مع قرص مدمج فيه الأغاني كلها مع موسيقى، ويمكن تعليمها وغنائها مع أطفال في سن الطفولة المبكرة.
أما بالنسبة لليافعين، فالنجار هي كذلك عنوان، وقد ترجمت نصوصها إلى لغات مختلفة. كتبها "ست الكل" و"قبعة رغدة" و"ستشرق الشمس ولو بعد حين"، كلها تتعامل مع مصاعب الحياة وصراعاتها (ومجدداً كل بطلاتها هنا من البنات في سن المراهقة). بطلات هذه الكتب تدخل القلب بسهولة وتؤلمه في ما تواجهه من ظروف حياة صعبة وبيئة قاسية، ان كانت بسبب المرض أو بسبب الحرب أو بسبب الظروف العائلية. هذه الثلاثية المميزة، تعرض صوت المرأة، وصوت البنت، كصوت قوي وشجاع في وجه العالم القاسي، ويمكن تطبيق الثيمات الثلاث التي ذكرتها على نصوصها بسهولة فكلها تكرر هذه الثيمات بابداع رائع واختلاف كبير بين النص والآخر.
تعليقات (0)
إضافة تعليق