حكايا

القملة والبرغوث - توظيف التراث لقراءة الحاضر والمستقبل


القملة والبرغوث - توظيف التراث لقراءة الحاضر والمستقبل
مسرحية القملة والبرغوث، مركز الإثراء والفنون في طمرة
المربية فاطمة حجازي

مركز الإثراء والفنون الأول من نوعه في الوسط العربي - بلدية طمرة، قسم جيل الطفولة
منذ عام 2007 شهد مركز الإثراء والفنون تغييرًا، بعد أن بدأت بإدارته مستشارة مختصّة في كتابة المسرح لجيل الطفولة. يقدم المركز عروضًا مسرحية ومجموعة من الفعاليات الحسّيّة العاطفية الإدراكية الحركية تحت إشراف ورقابة مختصين في المجال. خلال السنوات الأخيرة، قدم المركز العديد من المسرحيات مثل: تولا والقمر، والبالونات الخمسة، ولا تهزوا الزورق، والقملة والبرغوث، والولد الذي لا يحبّ أن ينام وحده، وفستان العيد. يكرّر المركز تحديث وتجديد مسرحياته كلّ أربع سنوات حتى يتمكن فوج الأطفال الجدد في الروضة من التمتع بعروض مسرحية حدّثهم عنها الأصدقاء والأخوة، وبهذا فهو يوفّر حديثًا حول المسرحيات بين الأجيال المختلفة.
يأخذ الأطفال دورًا فعّالًا في كتابة نصّ المسرحيات، وذلك عندما يشارك أطفال صف الروضة (جيل 3-4 سنوات) وصف البستان (5-6) تجاربهم وأفكارهم أثناء العرض التجريبيّ للمسرحية، ما يوفّر كذلك إمكانية أمام طاقم العمل لمراقبة ردة فعل الأطفال المشاركين، فيتمّ تعديل النصّ المسرحيّ ليكون متقناً من حيث النمو اللغوي العاطفي والفكري. كذلك ثمة تركيز على المجال الحسّيّ بما يشمل ورشات عمل قبل أو بعد المسرحية أيضًا.
في هذه المادة أسعى للتعمّق في قراءة إحدى المسرحيات المعروضة في المركز، وهي مسرحية "القملة والبرغوث". طاقم العمل المسرحي هو كادر نسائيّ مهني يلتقي ضمن مشروع "كَريف".

القملة والبرغوث

يتم التمهيد للعرض في ثلاث مراحل مركزية: حوار ومناقشة نصّ المسرحية مع المعلمة؛ استقبال الأطفال في يوم العرض؛ ثم صنع العجين أمام الأطفال لتحضير وجبة مناقيش للاستراحة.
تعلو خشبة المسرح عشرة سنتيمترات عن الأرض، ويجلس الأطفال أمامها على الأرض المفروشة بالسجاد الملوّن بانتظار بدء العرض وأعينهم تتلفت وتلاحظ خلفية خشبة المسرح، فعلى الحائط صور قديمة لأشخاص باللون الأسود والأبيض.
ما هي إلا لحظات حتى تدخل الجدة والتي تعرّف الأطفال بنفسها، الجدة فاطمة. تحاول الجدة ارتداء "الشنتيان"، ويدور الحديث بين الجدة والأطفال بلجهة عامية ولهجة فصحى بسيطة:
- "شو بتعملي"
- "هاد بنطلون زي بنطلوكم لكن له جيبه كبيرة عشان توسع كل اغراضي، عم بحاول ارتبه"
- "ليش هيك؟"
- "هاد لأنو يا ستي بشتغل كثير كثير بالدار وبحوص وبحط فيه أغراضي زي امهاتكو اليوم بمسكو جزدان بالزبط".
تقف الجدة وترتب شعرها الطويل ذا الجدولة وتبحث عن مشايتها (شو المشاية؟ هاي حفاي يا ستي) وهكذا يستمر الحديث بين الجدة والأطفال ليتعرّفوا على التسميات المختلفة التي تلقيها الجدة على ثيابها التقليدية ("ليش ما في بإيدك عكاز يا ستي فاطمة؟" "لاني قوية ي ستي وباكل أكل صحي").
بعد هذه المقدمة، تروي الجدة للأطفال قصة القملة والبرغوث:
"بدي أحكيلكم اليوم قصة عنتر وهو رجل ضخم وعلى راسه قملة والقملة بتعيش ع راس الانسان وبين شعراته. عند عنتر في كلب، وعلى شعرات الكلب بعيش برغوث". هكذا تنتقل الجدة للحديث عن قصة تعرّف القملة على البرغوث ووقوعهما في قصة حب. في الخلفية، يتم استعمال شرائح الكترونية لعرض صورة القملة وصورة البرغوث. تتابع الجدة الحديث بأنّ القملة والبرغوث طالما شغلا الفلاحين وخوف اقتراب هذه المخلوقات من البشر، لقلة وجود الآليات المختلفة لمعالجتها والتخلّص منها عند انتشارها.
أول أسبوع بعد الزواج زار الضيوف البرغوث والقملة وبالتالي العادة العربية في تراثنا هي تقديم الطعام وهذا ما فعلته القملة، وهو خبز الفطائر في الطابون وهو من الأمورالاساسية التراثية، وعندما لم تتمكن من اخراج الفطائر نادت على زوجها ليساعدها فسقط في الطابون فتفحم وصار "قحمشانة" وهو تعبير خاص بالمعجنات والمخبوزات. وكذلك هي القملة "تسخمت" بتراب المزبلة الأسود حتى صارت "سخمانة"، وفي هذا دلالة على حالة المرأة حين تُظلم حياتها. الحزن كافة الحيوانات والجماد مع القملة، فالمزبلة التي هالت أصبحت "هيلانة" والغنم "عرجانة" والزيتونة "شلانة" (لقلة التغذية) والطير "معطانة" لضعفها هي أيضًا، والعين "نشفانة" من كثرة البكاء وقلة الأمطار والنساء "كسرانة" أي جرارها مكسورة. وحتى البدو أصبحت "رحلانة".
وهكذا كل مجموعة من الحيوانات والطبيعة عبرت عن حزنها بطريقتها وبأسلوبها، وقد طغى الحزن على الأطفال أثناء العرض فتعاطفوا بالفطرة مع القملة. وهنا تأخذ الجدة دورًا فبدأت حوارًا خلاصته أنّ لمجموعة البشر الحق في التنقل والابتعاد عن الحزن وجلب معالم الفرح لعالمهم وحرصهم على وجود هذا النوع من الحكايا الذي كان وما زال حاضرًا في التراث العربي لتحفيز الصغار والكبار على النظافة والاستنفار من البراغيث والقمل.
تحاول الجدة إيقاظ بعض التساؤلات مثل: ماذا لو لم يصبح البرغوث قحمشاني؟ ماذا لو لم يرحل البدو؟ ماذا لو حزنا كل الوقت؟
من خلال هذه التساؤلات حفزت الجدة الأطفال على التفكير فعُرضت الشرائح بطريقة زمنية عكسية والتنبه للسبب والنتيجة. شدّني حماس الأطفال فظهرت أمامي مرآة فيها جمهور الهدف صغار في السن. وبرزت في الحضور صور مختلفة عن الأطفال، فيها الطفل المحلل والذي تبرز قوته في تحليل معطيات المسرحية، والطفل المعبر عن رأيه وأفكاره، وهناك الطفل المتعاطف الذي يحل المشاكل بودّ وإحتواء الأسباب والنتائج للنص المسرحي والتي لامست كل حواسه. لذا وضع العرض المسرحي أهمية تعلم ترتيب أولويات الاستمرار العيش؛ فأولاً علينا إدراك أهمية توفير الحاجيات الأساسية، فمنذ بداية الاحداث حتى ذروة الاحداث وتعاطف الأطفال مع الشخصيات استمعوا عميقاً لداخلهم أيضًا، وبدأوا البحث عن حل يرضي جميع الأطراف. هكذا فكر الأطفال بصنع التوازن بين الأحداث والأفكار والسلوك وعدم التطرّف لأيٍّ منها. بل العكس صحيح، فقد فكروا بأسلوب إيجابي بحت، وهذه إستراتيجية الذكاء العاطفي، حيث تحرّر الأطفال من إلتزامات تعاطفية مبهمة الى إلتزامات واقعية واضحة.
هكذا خاض الأطفال تجربة "هرم بلوم" ذي المستويات الستة: التذكر، الفهم، التطبيق، التحليل، التقويم والإبتكار. عند انتهاء العرض يقوم الأطفال بتمثيل بعض فقرات المسرح وإرشادهم من قبل الطاقم.

الإنتقال لفعاليات حسية عاطفية

علينا أن ندرك، كأهالٍ، أهمية ثقافة المسرح للأطفال فهي الحل الأنسب لملء فجوات الفراغ بين الأجيال، ولأني أعتبر مركز الإثراء متحف خيال وابداع ومحفزًا للمتعة والتعلم، فأوصي بزيارة المركز ومرافقة الأطفال لمشاهدة مسرحياتهم وتدوين لهفتهم وترقبهم لها. بين فقرات العرض المسرحي دار حوار هنا وهناك بين الجدة والأطفال وبين الأطفال أنفسهم. وما ميّز الحوار أنه كان مضحكًا وجديًا وحاسمًا في الوقت ذاته.
لا شكّ بأنني كأيّ أم، أرغب بأن يصبح ابنائي مؤثرين وقياديين، لذا أستطيع أن أخاطب نفسي وأجعلها ترفض كل المخاوف من عرض أمور معيّنة على الأطفال، حيث وثقت بآلية زراعة المؤثرات المسرحية للبذرة الصغيرة لدى أطفالنا في إكتشافهم أنفسهم، وبأنّ الرغبة في القيادة يمكن أن تتماشى مع شخصياتهم. فيمكنك أن تدير وتقود بأفكارك وبتحليلاتك وتعبيراتك أو حتى بمشاعرك. كل طفل ينجز بطريقته الخاصة؛ فلا يوجد أحد أفضل من الآخر، والقائد الحقيقي يشعر بالمسؤولية إتجاه القيم والمبادئ لكن بأسلوبه هو. بالضبط كما هي أحداث قصة البرغوث والنملة.
مركز الإثراء والفنون يؤمن بمقولة " لقد تعلمت أن الناس ينسون ما قلت، الناس ينسون ما فعلت، لكن الناس أبدًا لن ينسوا كيف جعلتهم يشعرون" (مايا أنجلو). فعلينا أن نؤمن بأنّ طفلنا هو إنسان له حلم وله غاية، سواء كان ذلك بالعودة للتراث أو تخيّل المستقبل.

القملة والبرغوث

إعداد مسرحي وإخراج: القاهرة عبد الحي.
إشراف عام: وفاء سليمان، مديرة مشروع القصة والمسرح في مشروع "كريف".
الممثلة والحكواتية: هيام ذياب.
تقنيات، صوت وموسيقى وعرض أفلام: نور أبو الهيجاء.
مرافقة معرض التراث: تهاني صفوري.
فعالية الجاروشة وطحن القمح مع الأطفال: حنان ياسين.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق