العنف في برامج التلفزيون: التربية وتقبّل الآخر كأداة لمواجهة الميديا العالميّة


العنف في برامج التلفزيون: التربية وتقبّل الآخر كأداة لمواجهة الميديا العالميّة
ليس الحلّ في إبعاد الأطفال عن شاشات التلفاز بشكل قطعيّ، بل في زيادة ساعات المشاهدة المشتركة مع الأطفال، وهناك حاجة كبيرة لتجسير البرامج للطفل وتوضيحها على يد المُشاهد البالغ

لا شكّ أنّ هناك جهدًا كبيرًا في جهاز التربية والتعليم للتعامل مع ظواهر العنف في المجتمع المحليّ، إلّا أنّ الكثير منها لا يُجدي نفعًا كبيرًا كما هو متوقّع منها، والسبب النظريّ النابع من أبحاث عديدة في المجال واضح: برامج الأطفال التلفزيونيّة وألعابهم الإلكترونيّة؛ فهي عدوّ لدود يتغذّى على مدخول ماديّ كبير تصعب منافسته.
في العقد الأخير من القرن العشرين، تعاملت أبحاث كثيرة في جميع أنحاء العالم مع الموضوع بجديّة، وكانت نتائجها واضحة وحادّة. فمشاهدة برامج تلفزيونيّة عنيفة تؤدّي إلى تصرّفات عنيفة، وإلى تعامل متهاون مع ظواهر العنف، وإلى خوف كبير عند المشاهدين من عالم عنيف ووقوع ضحايا للعنف في الشارع.
ليس هناك بحث واحد يدّعي أنّ مشاهدة العنف وحدَها هي عامل أساسيّ وكافٍ لبناء شخصية عنيفة، إلّا أنّ التعرّض لمشاهد عنيفة يزيد احتمال التصرفات العنيفة بشكل ملحوظ. وهناك دلائل كبيرة على علاقة مباشرة بين التصرّف العنيف ومشاهدة برامج تظهر أحداثًا عنيفة.
وتُظهر أبحاث عالم النفس ألبِرت بندورة (Bandura) حول التعلّم، منذ الستينات وحتى يومنا، أنّ مشاهدة أيّ تصرف من قبل أطفال في جيل الطفولة المُبْكِرة، لا تؤدّي إلى تقليد ما يرونه من أحداث واقعيّة أمامهم، فحسب، بل وأيضًا لتقليد ما يرونه من أحداث في الميديا المصوّرة. ويجري هذا التقليد بالذات عندما تعود ممارسة العنف بتائج جيّدة على من قام به، وأيضًا عندما تكون هذه النتائج غير واضحة. في الكثير من البرامج، يكون الصراع العنيف أداة لحلّ النزاعات والمشاكل، يتغلب فيها الخير على الشرّ- ولكن بمساعدة العنف.
شرح آخر لظاهرة التعلّم يتمّ من خلال مصطلح التهيّؤ أو التهيئة (Berkowitz)، وهو زيادة الحساسية تجاه محفّز معيّن بسبب تجربة سابقة. وهو يعتمد على الذاكرة اللاواعية بخلاف التذكُّر الذي يعتمد على الذاكرة الواعية. تُظهر الدراسات أنّ التهيئة يمكن أن تؤثّر في عملية اتخاذ القرارات. فمشاهدة مشاهد عنيفة تهيّئ المشاهد لاتباع العنف كأداة وتحفّزه على استعمال ما يتذكّر أنه طريقة للتعامل مع الأحداث المختلفة في حياته.

الأطفال في جيل الطفولة المبكرة ما زالوا يتعلّمون نهج العالم ويستصعبون التمييز بين الواقع والخيال

يتطرّق الشرحان السابقان لتأثير العنف على المدى القصير، إلا أنّ هناك أبحاثًا طويلة الأمد، تتطرّق للتأثير على المدى البعيد، أيضًا. مثال على ذلك هو بحث هوسمان (Huesmann)، الذي أظهر تصرّفات عنيفة في جيل الثلاثينات لأشخاص شاهدوا العنف في صغرهم على شاشة التلفاز. لا يمكن أن ندّعي أنّ تأثير برامج التلفاز حصريّ، إلا أنّه كان عاملًا مؤثرًا لا شكّ.

تؤدّي مشاهدة برامج تلفزيونيّة عنيفة إلى تصرّفات عنيفة، وإلى تعامل متهاون مع ظواهر العنف، وإلى خوف كبير عند المشاهدين من عالم عنيف ووقوع ضحايا للعنف في الشارع

واقع/ خيال...

تأثير آخر ظهر بشكل أوضح في الدراسات، هو كما أسلفنا، التعامل المتهاون مع ظواهر العنف. فمشاهدو البرامج العنيفة يطوّرون تهاونًا ولا مبالاة تجاه مظاهر العنف في مجتمعاتهم، بالاضافة للتهاون مع مظاهر ألم الآخر وتقليل احتمالات التعاطف معه. وهكذا يعتاد الانسان على مشاهدة العنف ويعتبره جزءًا سويًّا واعتياديًّا في العالم الحقيقيّ، فيعتبر المشاهدون العالم عنيفًا والواقع بطبيعته يحوي العنف، وليس هناك ما يمكن أن يفعله الانسان لوقف أو تقليل مظاهر العنف فيه. هذا ناهيك بالأطفال في جيل الطفولة المبكرة الذين ما زالوا يتعلّمون نهج العالم ويستصعبون التمييز بين الواقع والخيال (Chandler). فكيف لهم أن يميّزوا أنّ أفعال أبطال الديجيتال (Digimon) القتاليّة، على سبيل المثال، ليست الطريق الوحيدة لحلّ النزاعات.
هناك 4 مظاهر واضحة للعنف تدفع الأطفال إلى تقليدها، وهي:
1) عنف لأهداف إيجابيّة: مساعدة أو إنقاذ ضحيّة عنف بواسطة العنف، أو حتى إنقاذ العالم.
2) عنف مُربح (ذو جدوى): القويّ هو الرابح الأكبر.
3) عنف الخير: مظاهر العنف التي تبدر عن قوى الخير ضدّ قوى الشر، حيث يتغلب الخير على الشرّ بواسطة العنف.
4) "لا يمكن وقف العنف": مظهر يؤثّر على تطوير مفهوم العالم القاسي والعنيف.

تأثير آخر ظهر بشكل أوضح في الدراسات هو التعامل المتهاون مع ظواهر العنف. فمشاهدو البرامج العنيفة يطوّرون تهاونًا ولا مبالاة تجاه مظاهر العنف في مجتمعاتهم، وتهاونًا مع مظاهر ألم الآخر وعدم التعاطف معه

وترتبط زيادة الدراسات في المجال، بشكل مباشر، بزيادة مظاهر العنف في المدارس والشوارع والبيوت، وفي المجتمعات بشكل عامّ. وهذه المظاهر لا تقلّ مع زيادة العولمة وتواصل العالم، بل العكس تمامًا! فالاختلافات الاجتماعيّة والتعدّديّة تشكّل أرضية خصبة لتطوّر مظاهر العنف السياسيّة والاجتماعيّة. التهديد الأمنيّ في المجتمعات، بشكل عامّ، هو عامل مؤثر كبير لتطوّر هذه الأرضيّة. ولذلك، ليس لنا سوى اتخاذ التربية للتفاهم والتسامح وتقبّل الآخر كأداة لمواجهة الميديا العالميّة وتأثيرها على واقع أطفالنا.
ما ينتج من كلّ هذا لا يتجسّد في إبعاد الأطفال عن شاشات التلفاز بشكل قطعيّ، بل في زيادة ساعات المشاهدة المشتركة مع الأطفال. برامج الأطفال مثلها كمثل أفلام الأطفال أو قصص الأطفال؛ في الكثير من الأحيان هناك حاجة كبيرة لتجسيرها للطفل وتوضيحها على يد المُشاهد البالغ.

الأبحاث المذكورة في النص:

Bandura, A., Ross ,D. ,Ross .S .A .(1961) Transmission of aggression through imitation of aggressive .models Journal of Abnormal and Social ,Psychology ,63, .575-582 Bandura .A .(1965) Influence of model׳s reinforcement contingencies on the acquisition of imitative .responses Journal of Personality and Social ,Psychology ,1, 589-595. Bandura .A . (1994) Social cognitive theory of mass .communication In .J Bryant .D Zillman ,(Eds.) Media effects advances in theory and research .(pp .61-89) ,Hillsdale: NJ .Erlbaum. Berkowitz .L .(1984) Some effects on thoughts on anti and pro social influences of media :events A cognitive neoassociation .analysis Psychological ,Bulletin ,95(3) .410-427. Berkowitz ,L. ,Powers .P .C .(1979) Effects of timing and justification of witnessed aggression on the observer׳s .punitiveness Journal of Research in ,Personality ,13 .71-80. Chandler .D .(1997) Children׳s understanding what׳s ״real״ on :television A review of the .literature Journal of Educational ,Media ,23(1) .65-80. Huesmann .L .R .(1986) Psychological processes promoting the relation between exposure to media violence and aggressive behavior by the .viewer Journal of Social, Issues ,42(3) .125-140. Huesmann .L ,R. ,Eron .L ,D. ,Lefkowitz .M ,M. ,Walder .L .O .(1984) The stability of aggression over time and .generations Developmental ,Psychology ,20(6) .1120-1134.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق