جورج بيرنارد شوو
ربما يذكر كلّ منا آخر مرة تحدّث فيها عن مسلسل تلفزيوني كان معتادًا على مشاهدته في الصغر. تخطفنا الذاكرة عندها إلى مكان جلوسنا، شعورنا آنذاك، روتيننا اليومي، رائحة الطعام الذي يتم تسخينه للغداء. باعتقاد البعض منا، مسلسلات "زمان" كانت ذات معنى. هذا ما نسمعه من والدينا، وما نقوله في الكثير من الأحيان لإخوتنا الأصغر سنّا. وعندما نقول "مسلسل ذو معنى حقيقي"، فنحن نتحدث عادةً عن فحواهُ التربوي، أو الرسالة التي يحملها المسلسل للمُشاهد الصغير. قد نقصد أشكال الصداقة، الترابط الأسري الناجح، الجِد والاجتهاد، البطولة الحقيقية، تقبُّل الآخر، أو القيم الانسانية العديدة التي تتبلور في شخصيات المسلسل او أحداثه أو من ناحية أخرى، نقصد بهذا حنيننا إلى الماضي وإلى ذكرياتنا الجميلة منه. مع ذلك، تلعب التسلية والضحك أدوارًا هامةً في شق طريقٍ لا تمحى آثاره إلى ذكريات الطفولة - وربما الشباب.
"الضاحكون" أو "Animaniacs"، سلسلة كرتونية للرسام والفنان توم روجر، من إنتاج شركة "امبلين إنترتاينمنت" بالتعاون مع "وارنر براذرز أنيميشن". تم إنتاج السلسلة في عام 1993 باللغة الانجليزية، وقد تألفت من تسعة وتسعين حلقة قصيرة، مدّة كلّ واحدة قرابة العشرين دقيقة، وتبعها فيلم بعنوان "أمنية واكو" الذي عُرض سنة 1999.
تتألف كلّ حلقة من ثلاث تمثيليات هزلية، تستعرض كل منها مجموعة أخرى من الشخصيات التي تعيش قصة مختلفة في كل حلقة. أما الضاحكون أنفسهم، فهم ثلاثة أخوة مجهولي الهوية والنوع والجيل، هم ياكو، واكو ودوت. تعرض السلسلة في الأساس كوميديا تهريجية ساخرة وهجاء، تتكشف من خلال الأحداث وحديث الشخصيات والطابع الموسيقي والغنائي للسلسة.
تظهر في مسلسل "الضاحكون" العديد من الأمور المثيرة للاهتمام والنقد؛ كالموسيقى والرموز القومية الأمريكية والفكاهة السوداء الطاغية على المسلسل. يجد البعض أنّ الكثير من مقاطع المسلسل مثيرة للجدل وغير ملائمة للأطفال، إذ تحتوي على فكاهة ذات مضامين جنسية وكلمات بذيئة ومشاهد غير تربوية. من الجدير بالذكر أنه تمت دبلجة المسلسل للغة العربية، وبُث سنة 2005 في قنوات عربية مثل MBC3 وسبيستون، مع حذف غالبية المقاطع المذكورة أعلاه. ورغم ذلك، مرّت بعض تلك المقاطع تحت رادار الرقابة العربية.
تستعرض هذه المقالة تحليلًا لمضامين مختارة من مسلسل الضاحكون، وتقوم بعرض نقاش ومحاولة لتوفير إجابات للتخاطرات المتعلقة بمدى ملاءمة المسلسل للأطفال، ومدى أهمية المضامين المعروضة لهم، وصفات ومميزات جمهور الهدف الذي يتوجه إليه المسلسل، بنسخته المدبلجة للغة العربية.
تعرض المسلسلات التلفزيونية والأفلام المخصّصة للأطفال صورة جامدة ومُقَولبة لشخصية الطفل: إنه في الغالب ذلك المخلوق الصغير والجميل، المُفعم بالحيوية والبراءة. الطفل في المسلسلات والأفلام عادةً ما يكون مطيعًا، يتبع تعليمات البالغ، يتحلّى بالصبر، لا يستخدم العنف في حلّ المشاكل ولا يتلفّظ بالكلام البذيء. وأهم ما في الأمر أنه يُكافأ بطريقةٍ ما على كونه كذلك، ويُعاقب إذا تصرّفَ بعكس ذلك، الأمر الذي غالبًا ما نراه في المسلسلات والأفلام: الطفل غير المطيع وغير المؤدّب لا يكون شخصيةً مرغوبًا بها، وعليها أن تصبح على حالٍ أفضل في النهاية.
يستعرض مسلسل "الضاحكون" عدة أمثلة لتصرفات الأطفال التي قد تُقابل بعدم تقبُّل مُطلق من البالغين. قد يتذكر البعض منا ردّ فعل والديه عند نشوب شجارٍ بين الإخوة أو الأخوات. ربما يكون يوسعنا -الآن بعد أن تقدم بنا العمر- استيعاب غضب الأهل عند حدثٍ كهذا، فبالنسبة للبعض لا يجوز للأطفال الإخوة أن يعتادوا على الخصام، فالأمر قد يزداد سوءًا بينهم عندما يكبرون. على عكس هذا التوجّه، يقوم مسلسل "الضاحكون" بعرض شجارٍ تقليدي بين الإخوة ياكو وواكو ودوت، حين يصرخ أحدهم بوجه الآخر ويوجهون التهم لبعضهم البعض: "ضربني"، و"استخدم فرشاة أسناني"، و"جلس في مكاني في السيارة". النقد الوحيد على شجار الاخوة هو أنّ الشخصية التي تلعب دور البالغ في المسلسل اشتكت من صداع إثر الصراخ والأصوات العالية، بينما أخذ الإخوة الثلاثة المساحة والوقت الكافي لينسوا المشكلة ويواصلوا يومهم كالمعتاد، بل وإنهم استطاعوا في نهاية المقطع أن يتصرفوا بلطف تجاه بعضهم البعض. هذا العرض يدفعنا للتساؤل ما إذا وجب على البالغين دومًا التدخل في شجارات الإخوة الأطفال، أو ما إذا كانت هذه الشجارات وسيلة تعلّم للأطفال عن كيفية التعامل مع المشاكل وإيجاد حلول لها.
مقطع آخر في المسلسل يعرض "واكو" على منصّة أمام الجمهور ليؤدي عرضًا موسيقيًّا لمقطوعة "الدانوب الأزرق الشهيرة، بمرافقة "ياكو" خلف البيانو. بينما يستمع الجميع لعزف "ياكو" على البيانو في مقدمة العرض، يبدأ "واكو" بإصدار أصوات "موسيقية" مرافِقة للعزف. لا نتحدث هنا عن موسيقى عادية أو كلمات أغنية، بل إنها أصوات إيقاعية يصدرها "واكو" بينما يتجشّأ حسب أنغام البيانو! مقطع موسيقي كامل من التجشّؤ، يتبعه عزف بيانو منفرِد، بينما يتناول "واكو" مشروبًا غازيا بسرعة كبيرة، ومن ثم يواصل التجشؤ حسب اللحن.
ينتهي المشهد بالترحيب والتصفيق وأمطار من الورود الحمراء التي تلقى أمام قدمي "واكو"، تحيةً لموهبته. ورغم أنه عرضٌ مبالغ فيه لتصرفات "غير مقبولة" اجتماعيا، إلا أنها قد تكون دعوة للبالغين للنظر في الأسباب التي تدفع أطفالهم للقيام بتصرفات مماثلة. قد لا يتقبل الأهل الكثير من الأمور التي تتعلق بتصرّفات أطفالهم، وقد يعتبرونها أنواعًا من الفوضى. ولكن، في بعض الأحيان يغيب نظرهم عن الصورة الأعمق "للفوضى" التي يفتعلها الأطفال، والتي قد تولّد أحيانا نوعًا من الإبداع المختلف والمميز. في هذا المشهد خاصّة، نجد أنّ الطفل المشاهد قد يحاول تقليد واكو في التجشؤ، ولكن من خلال هذا فهو يحاول التمعّن بالمقطوعة الموسيقية وبايقاعها وتقليدها، حتى لو كان ذلك من خلال تصرّف غير مقبول اجتماعيًا.
يعتمد هذا النقد لـ"الطفل المثالي" على نقد العادات والتقاليد المجتمعية الجامدة وغير القابلة للتشكيك، وفي ذلك نقد تجاه البالغين عامًة وعالمهم الاجتماعيّ. تُقابل شخصية البالغ في المسلسل نقدًا لاذعًا وسخرية كبيرة، وفيه البلوغ يعني أن تكون بليدًا وكسولًا وكاذبًا وخاليًا من الإبداع وساذجًا، ما يسهّل على شركات التأمين خداعك. يلخّص ياكو هذه الفكرة في إحدى الأغاني بقوله: "الصّدق عفا عنه الزمان في هذا المكان، التملّق للنجاح هو الضمان".
أبطال "الضاحكون" هم ثلاثة إخوة لا يتم التعريف عن نوعهم من خلال المسلسل. فهم ليسوا بشرًا أو نوعًا من الحيوانات. ما نعرفه عنهم فقط هو أنهم شخصيات صُنعت في مرسمٍ للصور المتحركة. إن حقيقة كونهم مخلوقات بلا نوعٍ معروف تساعدهم على التوجه للمُشاهد بدورِ المرشدين، الذين يفسرون الواقع البشريّ والحيواني وحتى الكوني بطريقةٍ تجعلهم يستثنون أنفسهم من هذا التفسير، أو النقد والتهكّم في بعض الأحيان.
يتناول المسلسل أهمية المخلوقات الحيّة، والحيوانات على وجه التحديد. ويتداول أيضًا تساؤلاتٍ تتعلق بموقعهم وشراكتهم في البنية الكونيّة. بعض هذه التساؤلات هي حول "سلم الأهمية" الذي قام البشر بإنشائه، ومَوْضَعوا أنفسهم في أعلاه. يوجه المسلسل أصبع الاتهام نحو البشر، ويسألهم عن مصدر الحقّ الذي سمح لهم بفعل ذلك.
تتساءل القطة "ريتا" في أحد مقاطع المسلسل: "من الذي أعطى الحقّ للبشر في سجننا؟" بينما تتناول غالبية المقاطع التي تظهر فيها القطة "ريتا" أسئلةً فلسفية حول التفضيل المطلق الذي منحه البشر لأنفسهم على غيرهم من المخلوقات. تحتوي هذه المقاطع أيضا على محاولات الحيوانات للهرب من الأيدي البشريّة المؤذية، ومحاولات أخرى باتحاد أصناف مختلفة من الحيوانات (كالكلاب والقطط) في الثورة على النظام البشريّ القائم.
ورغم أنّ المسلسل عُرِض في سنوات التسعينات، إلّا أن عالمنا لم يخلُ من هذه الظواهر مع تقدُّم الوقت، إذ يعتبر البشر أنفسهم أسيادًا للكائنات الأخرى، وما يزالون يعتبرون لغتهم وأنظمتهم الاجتماعية كمميزات تفصلهم عن العالم الحيوانيّ، وتعطيهم مصداقية للسيطرة عليه وسيادته.
يتعامل المسلسل في الكثير من الأحيان مع موضوع تقديس الشخصيات البشريّة وبطولاتها في حقل العلوم والتكنولوجيا. ولا يقتصر تعريف توماس إديسون وألبيرت أينشطاين ومايكل آنجلو على أنهم أيقونات للتكنولوجيا والعلم والفن فقط، انما نجاح هذه الشخصيات هو نجاحٌ وفخرٌ قومي لبلادهم أيضًا. فلا بدّ أن نتذكر ايطاليا والفن الإيطالي في كل مرة يذكر فيها اسم مايكل آنجلو، وألمانيا عند سماعنا لاسم ألبيرت آينشطاين.
يسخر "الضاحكون" من هذه الشخصياتٍ المشهورة، وفي مقاطع من المسلسل يقوم الأخوة الثلاثة بزيارة كلٍّ من العالِم ألبيرت آينشطاين والرسام بابلو بيكاسو وصانع آلات الكمان ستراديفاريوس، وتصوريهم على أنهم عاديّون جدًا، يخلون من الإبداع ولا تومض أعينهم ببريق اللهفة للاستكشاف. كما أنهم سريعو الغضب ومتكبّرون ولا يتقبلون أيّ ملاحظاتٍ او نصائحَ من الآخرين. يدخل الأخوة الثلاثة الى عالم هؤلاء العلماء والفنانين، ويبدؤون بالمشاكسة، فيرسمون على لوحات بابلو بيكاسو، ويغنون لألبيرت آينشطاين. ويقوم بيكاسو بنسب رسومات الاخوة الثلاثة الى نفسه، بينما يقوم آينشطاين باستخدام مقطع من أغنيتهم لاستنتاج نظريته. ولكن، هل يعقل أن يكون هذا النوع من السخرية عبثيًا؟ أم أنها محاولة للتقليل من شأن الدور الهام للدول الاخرى في المساهمة بنشر الفن والوعي عالميًّا، فقط من خلال السخرية الأمريكيّة (التي تتمثل في إنتاج المسلسل) من المنتوج الثقافي للدول الأخرى؟ ولربما الأمر أكبر من ذلك وفيه نسب جزء من ابداعاتهم إلى الأبطال الأمريكيين المتمثلين بالأخوة الثلاثة.
يتوجّه مسلسل "الضاحكون" للأطفال والبالغين، مع افتراضٍ مسبق بأنّ ما يُعرض من مضامين هو ذو صلة لكلا المجموعتين. من غير المهنية أن يفترض البعض أنّ الرسالة الموجّهة لجمهوريّ الهدف قد تفسّر بنفس القدر من الوعي وبنفس الأسلوب من التحليل. مع ذلك، بإمكاننا أن نفترض أنّ كليهما على دراية بالهدف الأوّليّ للمسلسل، وهو الفكاهة والضحك. فقد تناول "الضاحكون" نوعًا مختلفًا من العروض المخصّصة للأطفال؛ وليس على المشاهد الطفل أن يأخذ عبرةً تربويةً من كل شيء يشاهده أو يقرأه، بإمكانه أيضًا الاطلاع على ما هو طبيعي، على ما يشبه واقعه في بعض الأحيان، وأن يجد نفسه في المسلسل.
تعليقات (0)
إضافة تعليق