قصة "الأرنب زرزور" هي أداة مثالية لمناقشة أدب "تقبّل الآخر" أو "المختلف" ومناقشة مفارقاته العديدة. فهل كون الأرنب ذا أذن واحدة فقط هو سبب كافٍ لعدم اللعب معه؟ في إحدى ورشات كتابة أدب الأطفال التي تديرها دفيئة حكايا في عكا، ناقشنا الكتاب وحاولنا معًا سبر غور الموضوع وفهم تعقيده وصعوبة التعامل معه. في هذه المادة أقدم لكم جزءًا من النقاشات التي دارت في الورشة حول الكتاب، والمقارنات التي وردت بكتابات أخرى من أدب ما يُسمى بـ "تقبّل الآخر".
عمليًا القصة تحكي عن أرنب لديه أذن واحد فقط، تدعمه والدته ولا تأبه باختلافه بل تقول له إنّه جميل ومميّز. إلّا أنه عندما ينطلق الأرنب زرزور إلى الحيز العام وإلى المجتمع، مطالبًا الحيوانات المختلفة بمشاركتها في اللعب، ترفضه جميعها مدعية أنه شاذ ومختلف وأنها لا تريد اللعب معه. تلعب الحيوانات بالكرة سويًا وترفض مشاركة زرزور، حتى تطير الكرة إلى أعلى الشجرة، فتحاول الحيوانات الحصول على الكرة وتسلق الشجرة، وكل محاولاتها تأبى بالفشل. هنا يتدخّل زرزور ويقفز إلى أعلى الشجرة، لينزل الكرة بأذنه، وينجح من أول محاولة وبامتياز. تتعجّب الحيوانات من محاولته وتدعوه لمشاركتها في اللعبة.
للوهلة الأولى تبدو القصة مثالية ومميّزة لعرض قضية إقصاء المختلف ونعته بالشاذ، وبين الحين والآخر، تذكّرنا بالقمة الكلاسيكية لهذا الأدب وهي قصّة "البطة القبيحة" لعملاق أدب الأطفال، هانس كريستيان أندرسن. لكن أهداف أندرسن في البطة القبيحة كانت مختلفة تمامًا عن قصة الأرنب زرزور؛ ففي "البطة القبيحة" لم يكن أندرسن يدعو لتقبّل الآخر، بل كتب رسالة هجاء ونقد لاذع للمجتمع الذي يرفض مشاركة المختلف. البطة القبيحة تترك ذلك المجتمع الذي يرفضها في المزرعة، ولا تعود للّعب مع القطة العنصرية ولا مع الدجاجة المتكبّرة، بل تنطلق برحلة لاكتشاف ذاتها فتكتشف أنها لم تكن بطة قبيحة أساسًا، بل كانت فرخة بجع منذ البداية. عندما كتب أندرسن قصة البطة القبيحة، كان يشارك تجربته الشخصية كإنسان وُصف طيلة حياته بالقبح، حتى انفصل عن المجتمع الاستقصائي ليكتشف أدب الأطفال، ويصبح بجعة كبيرة الشأن والابداع فيه.
في قراءتنا لقصة "الأرنب زرزور"، لا نرى الثقة التي تعاملت فيها البطة القبيحة مع المجتمع، ولا النقد اللاذع تجاهه، بل نجد أمرًا آخر، وهو التوجّه الأكثر شيوعًا في أدب الأطفال الفرداني، الذي لا ينتقد المجتمع، بل يقترح على الفرد امكانيات تحديه والتغلب عليه. لا أجزم بايجابية أو سلبية هذا الخيار، ولكنه ربما يكون الأكثر عمليّة والأسهل على المجتمع ليلقّنه لأفراده، بدلًا من أن يلقي اللوم على نفسه في عدم تقبلهم. هذا التوجه في "الأرنب زرزور" قد يوّلد إشكالية البرهان عند المختلف والآخر، بدلًا من تقبله كما هو. فالحيوانات لم تتقبّل الأرنب زرزور حتى أثبت لها أنه كفؤ للتعامل المتكافئ معه، أي أنه كان مضطرًا لإثبات نفسه أمام باقي الحيوانات، بينما هي لم تتطلّب لهذا الاثبات والبرهان بأحقيتها بالتعامل المتكافئ. بكلمات أخرى: القطة والخروف والدجاجة لم تشعر بأيّ حاجة لاثبات أحقّيتها في المشاركة في لعبة الكرة، بينما الأرنب زرزور -المختلف عنها- كان عليه أن يمُرّ بامتحان قبول خاصّ لاثبات أحقيته. البطة القبيحة اضطرت كذلك لإثبات أحقيتها على المساواة، ولكنها استعملت أداة مختلفة تمامًا: اكتشاف الذات وليس إرضاء الآخر.
هذه الاشكاليّة ليست حصرية على الأرنب زرزور، بل هي شائعة جدًا في أدب الأطفال، فيه يسهو الأدباء ودور النشر عن التساؤل الذي قد يتساءله الفرد المختلف عند قراءته للقصّة. كمجموعة تناقش خيارات الكتّاب لأدب الأطفال، كان علينا مناقشة الإمكانيات المختلفة التي على الأرنب زرزور التعامل بها مع رفض المجتمع له. وفي هذه النقطة- أول نص ذكر كنص يحل الاشكالية كان نص "أذنا فراشة" للكاتبة لويزا أغيلار ورسومات الفنان أندريه نيفيس، فيها تختلق وتكرّر البطلة ميرا حججًا خيالية ومضحكة لملابسها المختلفة وشعرها الأشعث وغير ذلك من غرابة أطوارها، وفي النهاية عندما يسخر الأطفال من أذنيها الكبيرتيْن بنعتها أنّهما أذنا فراشة، تقول لهم بكلّ ثقة: "إنهما كبيرتان فقط. لكني لا أبالي".
حلّ آخر اقترحته مجموعة الكتابة كان بتغيير دور أحد الحيوانات الذي لا يبالي بكون الأرنب ذا أذن واحدة فقط، ويلعب معه، بالرغم من رفض الآخرين، حتى تنضم الحيوانات الأخرى للعبة بشكل طبيعي. في هذا الاقتراح إمكانية لعرض نموذج آخر لأطفال يتقبلون الآخر والمختلف بشكل طبيعيّ، من دون حاجته لبرهنة أحقيته. هذا النموذج يرفض عرض كافة مجتمع الأطفال، المتمثل بالقطة والخروف والدجاجة، على أنه مجتمع اقصائي بشكل فطري، بل ينطلق من ايمان بأنّ هذا الاقصاء ليس إلا وليد التربية المجتمعية التي لا تتقبّل المختلف.
صوتٌ أخير وواقعيّ لا بدّ من التطرّق إليه، هو الصوت الذي يدّعي أنّ ما جرى في قصة "الأرنب زرزور" ليس إلا صورة مرآة لما يحدث في الواقع الذي نعيشه. ولكن هنا، للتعامل مع هذا الادعاء المنطقي والواقعي، يجب أن نسعى لمناقشة دور أدب الأطفال عامة، فنسأل ما إذا كان دوره تصوير الواقع فقط كما هو؟
هذا طبعًا يتعلق برؤيتنا التربوية والايديولوجية لأدب الأطفال؛ فبنظري على الأقل، لا يكفي أن يصّور لنا أدب الأطفال الواقعَ، كون الواقع اقصائيًّا للمختلف، بل على أدب الأطفال أن يقترح لنا نموذجًا معيّنًا ولو بصورة بسيطة وصغيرة لتحسين وإصلاح هذا الواقع. أليس هدفنا أصلًا من الكتابة للأطفال هو تزويدهم بأدوات لبناء مجتمع أفضل من المجتمع الحاليّ؟ أليس هدفنا تقديم أدوات لنقد مساوئ الواقع الحالي لمحاولة تحسينه؟ فحتى لو لم تكن لدينا أيّ حلول مثاليّة، ربما جاء الوقت لنقد إقصاء المختلف وعرض ذلك بأنه أمر سيّئ وفاسد.
أظنّ أنّ قصة "الأرنب زرزور" هي رسالة تربوية علينا التعامل معها بهذه الطريقة النقدية وعرض إشكالية البرهان التي تقدّمها، وليس التعامل معها على أنها تعرض مثالًا يُحتذى به للقرّاء الصغار. أي أنّها أداة بأيدي المُربّين والمُربّيات لفتح باب النقاش، وليست منشرًا قيميًا لبناء جيل يطلب من المختلف برهان أحقيته.
تعليقات (0)
إضافة تعليق