حكايا

قِصّةٌ لِرَأْسِ السَّنَةِ: بائِعَةُ الكِبْرِيتِ


قِصّةٌ لِرَأْسِ السَّنَةِ: بائِعَةُ الكِبْرِيتِ
فِي بَرْدِ الصَّباحِ الباكِرِ، فِي تِلْكَ الزاوِيَةِ، تَجْلِسُ طِفْلَةٌ مِسْكِينَةٌ، بِخَدَّيْنِ وَرْدِيَّيْنِ وابْتِسامَةٍ عَلَى شَفَتَيْهَا، مُتَّكِئَةً عَلَى الحائِطِ...
هانس كريستيان أندرسن | ترجمة: لؤي وتد

|رسم: شارلوت شاما|

© حقوق الترجمة محفوظة لموقع "حكايا" ولا يجوز استخدامها أو إعادة نشرها إلّا بإذن مسبق

في آخرَ ليلةٍ مِنْ هَذا العامِ، مساءُ ليلةِ رأسِ السنةِ الميلاديةِ الجديدةِ، أثلجَتِ الدُنيا. كانَ البردُ قارصًا وشديدًا، وكادَ الظلامُ يُخَيِمُ بِهدوءٍ فِي ذلكَ المساءِ. في هذا البردِ والظلامِ، جابَتِ الشوارعَ طفلةٌ صغيرةٌ، فقيرةٌ، مسكينةٌ، مكشوفةُ الرأسِ وحافيةُ القدمينِ. خَرجَتْ مِنْ مَنزلِها، اِنتعَلَتْ خفَّيْنِ، ولكنْ ما الفائدةُ منهما؟ فَقَدْ كانَا خُفَّيْنِ كبيرَيْنِ جدًا، يعودانِ لِوالِدَتِها، حَتَّى أَنَّ الطفلَةَ المسكينَةَ فقَدَتْهُما عِنْدَما حاوَلَتْ قَطْعِ الشارِعِ وجرَتْ بِسُرْعَةً هاربَةً مِنْ عَرَبَتَيْنِ قَطَعَتَا الشارِعَ بشكلٍ مُخيفٍ. ضَاعَ أَحَدُ الخُفَّيْنِ ولمْ تَجِدْهُ، والثانِي اِلْتَقَطَهُ طفلٌ مشرَّدٌ وَهَرَبَ مُسْرِعًا، فَقَدْ فَكَّرَ بِاسْتِعْمالِهِ كِمِهدٍ عِنْدَما يُصْبِحُ لِدَيْهِ أطفالٌ في أحدِ الأيامِ.
أكملَتِ الطفْلَةُ الصغيرَةُ طَريقَها حافيةَ القَدَمَيْنِ. وَمِنْ شِدَةِ البَرْدِ اِحْمَرَّتْ قَدَمَاها الصغيرَتانِ، وَمَالَتْ إِلى الاِزْرِقَاقِ مِنَ البَرْدِ. حَمَلَتِ الطِفْلَةُ رُزْمَةً مِنْ عيدانِ الثقابِ في مِئْزَرِها، ورِزْمَةً صغيرةً فِي يَدِهَا. لمْ يَشْترِ أحدٌ مِنْهَا طيلةِ النهارِ، ولمْ تَحصَلْ حتى على قِرشٍ واحدٍ. يا لها مِنْ مسكينةٍ، تَزحَفُ مُرْتَجِفَةٍ مِنْ قَسوةِ الصقيعِ وَشدَّةِ الجوعِ. حياةٌ مِلْؤُها الحزنِ والأسَى!

أخرجت عود ثقاب آخر، وفركته على الحائط. عاد النور مرة أخرى، وفي بقعة الضوء وقفت جدتها العجوز

غَطَى رذَاذُ الثَلْجِ المُتَساقِطِ شَعْرَهَا المُلْتَوِيَ حَوْلَ رقَبَتِهَا بِتَجاعِيدِه الصغيرةِ الجميلةِ، إِلّا أَنَّهَا لَمْ تَكْتَرِثْ لِهَذا أَبدًا. مِنْ جميعِ النوافذِ ظَهَرَ ومِيضُ أضواءِ الشموعِ وَفاحَتْ روائِحُ الإِوَزِّ المَشْوِيِّ، فَقَدْ كانَتْ هِذِهِ ليلةَ رَأْسِ السنَةِ. نَعَم، هذا كلُّ ما اِكتَرَثَتْ لَهُ الطفلةُ الصغيرةُ.
في زاويةٍ بَيْنَ مَنْزِلَيْنِ، جَلَسَتْ لِتَسْتَرِيحَ وضَمَّتْ جِسْمَها بِشِدَّةٍ. ضَمَتَ قَدَمَيْهَا قَريبًا مَنْهَا إلّا أنَّ البردَ اِزْدَادَ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ، وَلَمْ تَجْرُؤْ عَلَى العَوْدَةِ إِلى البيْتِ، فَهِيَ لَمْ تَتَمَكَنْ مِنْ بَيْعِ أَيِّ عودِ ثِقَابٍ وَلَمْ تَحْصُلْ عَلَى قِرْشٍ واحدٍ. إِنْ عادَتْ فارغِةَ اليَدَيْنِ، فَسَيَضْرِبُهَا والدُهَا بالتأكيدِ، غَيْرَ أَنَّ البيْتَ نَفْسَهُ بارِدٌ أيضًا. كانَ لَهُ سقفٌ إِلّا أّنَّ الرياحَ تُزَمْجِرُ فِيه دائمًا، رُغْمَ أَنَّ الثقُوبَ في حيطانِهِ كانَتْ محشوّةً بالقَشِّ والأَقْمِشَةِ الباليةِ.
كادَتْ يَدَاهَا تَتَجَمَدّان مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ. فِكْرَةٌ! قَدْ يُسْعِفُهَا عُودُ ثِقَابٍ واحدٌ. قَدْ يَفْعَلُ فَقَط إِنْ تَجَرَأَتْ عَلَى اِخْرَاجِهِ مِنَ الرِّزْمَةِ وَفَرْكِهِ عَلَى الحائِطِ، لِتُدَفِّئَ أصابِعَهَا قليلًا. أَخْرَجَتْ عودًا واحدًا. "ويشْت!". يا لِلْرَوْعَةَ كيفَ لَمَعَ، كَيْفَ اِحْتَرَقَ، كانَتْ الشُعْلَةُ دافِئَةً، كانَتْ الشُعْلَةُ مُتَوَهِّجَةً، كَأَنَّهَا شَمْعةٌ. عنْدَما ضَمَّتْها بِيَدَيْهَا ظَهَرَ نورُها الخلّابُ، بَدَا هذا النورَ حقِيقِيًّا لِلْطِفلَةِ الصغيرةِ وكَأَنَّها تَجْلِسُ أَمَامَ مَوْقِدٍ حَدِيدِيٍّ كَبِيرٍ، قَدَمَاهُ نُحاسِيّتَان مَصْقُولَتان وفِي أَعْلَاهُ زَخْرَفاتٌ جَمِيلَةٌ. اِشْتَعَلَتِ النارُ المُبَارَكَةُ ودفَّأَتَها جَيِدًا.
مَدَّتِ الطِفْلَةُ رِجْلَيْهَا لِتُدَفِئَهما أَيْضًا، إِلّا أَنَّ الشُعْلَةَ الصَّغِيرَةَ اِنْطَفَأتْ. كَذَلِكَ المَوقدُ. لَمْ يَبْقَ لَهَا سِوَى بَقَايَا عودِ ثِقَابٍ مَحْرُوقٍ فِي يَدِهَا.
فَرَكَتْ عودًا آخَرَ علَى الحائِطِ. تَوَهَّجَ بِلُطْفٍ، وَوَقَعَ نُورُهُ عَلَى الحائِطِ حتَّى أَصْبَحَ وكأَنَّهُ سِتارَةً شَفّافَةً مَكَّنَتْهَا مِنْ مُراقَبَةِ ما ورائِهِ. فِي الغُرْفَةِ، وراءَ الحائِطِ، مُدَّ شَرْشَفٌ أَبْيَضُ برّاقٌ كَالثَلْجِ عَلَى مائِدَةٍ كَبِيرَةٍ، عَلَيْهَا وَجْبَةُ عشاءٍ فَخْمَةٍ، تَنْطَلِقُ مِنْهَا بَخَائِرُ الإِوَزَةِ المَشْوِيَّةِ المَحْشُوَةِ بِالتُفّاحِ وَالخَوخِ المُجَفَّفِ. وما كانَ مذهلًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ أنَّ الإوَزَةَ قَفَزَتِ مِنَ الطَبَقِ، والسَكِينَةُ وَالشَوْكَةُ ما تَزالانِ فِي بَطْنِهَا، ورَكضَتْ مُسْرِعَةً إِلى الطِفْلَةِ الصغيرةِ. فَجْأَةً اِحْتَرَقَ عودُ الثِقَابِ، ولَمْ يَبْقَ لِلْطِفْلَةِ سوَى الحائِطِ السميكِ البارِدِ الرّطِبِ.
أَشْعَلَتْ عُودَ ثِقَابٍ آخرَ. وَجَدَتْ نَفْسَهَا بِجَانِبِ شجرةِ ميلادٍ كبيرةٍ ومهيبةٍ، أكبَرَ مِنْ شجرَةِ الميلادِ التِي رَأَتْهَا عَبْرَ البابِ الزُجاجِيِّ فِي بيتِ التاجِرِ الغَنِيِّ. أَكْبَرَ وَزِينَتُهَا أَكْثَرُ. وَمَضَتِ آلافُ الأَنْوارِ عَلَى الأَغْصانِ الخَضْرَاءِ بِصِوِرٍ مُلَوَّنَةٍ زاهَيَةٍ، كالتِي رَأَتْهَا في واجهاتَ الحوانيتِ، تَنْظُرُ إِلَيْها مِنَ الأعْلَى. مَدَّتِ الطِفْلَةُ الصغِيرَةُ يَدَهَا إِلَيْهَا ولَكِنَّ عودَ الثِقَابِ اِنْطَفَأَ. اِرْتَفَعَتْ أضواءُ شجرةِ الميلادِ إِلى أَعْلَى أَكثرَ فأكثرَ، واِمْتَزَجَتْ مَعَ النُجومِ فِي السَّماءِ.
سَقَطَتْ نَجْمَةٌ وَاحِدَةُ إِلى أَسْفَلَ وتَرَكَتْ خَلْفَهَا أثرًا مشتعلاً فِي السَّماءِ.
"لَقَدْ ماتَ أحدٌ الآنَ!" قَالَتِ الطِفْلَةُ الصغيرةُ. لَقَدْ أَخْبَرَتْهَا جَدَّتُهَا يومًا -الوحيدَةُ التِي أَحَبَتْهَا، ولكنَّهَا فَارَقَتِ الحَياةَ- بِأنَّهُ عِنْدَ سُقُوطِ نَجْمَةٌ مِنَ السّماءِ، تَصْعَدُ روحٌ إِلى اللهِ.
أَخْرَجَتْ عودَ ثِقَابٍ آخرَ، وَفَرَكَتْهُ علَى الحائِطِ. عادَ النُّورُ مَرَةً أُخْرَى، وفِي بُقْعَةِ الضوءِ وَقَفَتْ جَدَّتُهَا العَجُوزُ، مُشْرِقَةً ومُشِعَّةً بِرِقَةٍ وتَأَلُقٍ، مُفْعَمَةً بِحُبٍّ كبيرٍ.
"جَدَّتِي!" بَكَتِ الصغيرةُ. "خُذِينِي مَعَكِ! سَتَخْتَفِينَ عِنْدَمَا يَنْطَفِئُ عودُ الثِقَابِ. ستتلاشِينَ كَمَا المَوْقِدُ الحَدِيدِيِّ، وكَمَا الإوَزَّةِ الشهيّةِ، وكمَا شجرةِ الميلادِ المهيبةِ!". فَرَكَتِ الصّغيرةُ رِزْمَةً كبيرةً مِنْ عيدانِ الثقابِ عَلَى الحائِطِ، لِتَضْمَنَ بَقَاءَ جَدَّتِهَا قَدْرَ الِإمْكَانِ بِجِوارِهَا. اِشْتَعَلَتِ العيدانُ بِوَمِيضٍ مُشِعٍّ ومُشْرِقٍ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَوْ أَنَّهَا ساعَةٌ مِنْ ساعاتِ النَّهارِ. لَمْ تَبْدُ الجَدَّةُ مُسْبَقاً بِهَذَا الجَمالِ وَشُمُوخِ القامةِ. حَمَلَتِ الطِفْلَةُ الصغيرَةُ علَى كَفَّيْها، وحَلَّقَتَا كِلْتاهُمَا بِسُطُوعٍ وإشْعاعٍ وَفَرَحٍ. حَلَّقَتَا عَالِيًا. وفي الأَعَالِي، لَمْ يَكُنْ هُناكَ أيُّ بَرْدٍ، ولا جوعٍ ولا خوفٍ. لقَدْ كانَتَا معَ اللهِ.
فِي بَرْدِ الصَّباحِ الباكِرِ، فِي تِلْكَ الزاوِيَةِ، تَجْلِسُ طِفْلَةٌ مِسْكِينَةٌ، بِخَدَّيْنِ وَرْدِيَّيْنِ وابْتِسامَةٍ عَلَى شَفَتَيْهَا، مُتَّكِئَةً عَلَى الحائِطِ... لَقَدْ تَجَمَدَّتْ حتَّى الموتِ في المَساءِ الأخيرِ لِلْسَنَةِ المُنْصَرِمَةِ.
أَشْرَقِتْ شَمْسُ السَّنَةِ الجَدِيدَةِ عَلَى جُثَةِ الطِفْلَةِ المِسكينةِ وَعَلَى عِيدانِ الثِقَابِ المُلْقاةِ حَوْلَهَا، نِصفَهَا محترِقٌ. "لَقْدْ حَاوَلَتْ تَدْفِئَةَ نَفْسِهَا" قالَ النّاسُ. لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُم أَدْنَى فِكْرَةٍ عَنْ المَناظِرٍ الخلابَةٍ التِي رَأَتها الطِفْلَةُ. لَمْ يَتَخَيَّلْ أَحَدٌ بِأَيِّ سَعَادَةٍ وَمَجْدٍ بَدَأَتِ الطِفْلَةُ وَجَدَّتُهَا، السَّنةَ الجَديدةَ.

تعليقات (1)

  • Yazan jabarin (not verified)

    قمة الروعه

إضافة تعليق