حكايا

والآن نقدّم لكم: أدب أطفال غير تربويّ!


والآن نقدّم لكم: أدب أطفال غير تربويّ!
لعب أدب الأطفال دورًا سياسيًّا في القرن المنصرم، ما أخرجه من العالم التربويّ- التعليميّ وجعله أداة لنقد سياسيّ واجتماعيّ
كتب: لؤي وتد

في ثمانينات القرن السابق بدأ أدب الأطفال بدخول أبواب الأكاديميا بشكل ملحوظ، وأصبح أحد المواضيع التي تُدرّس وتُبحث بالجامعات والمراكز الدراسيّة. وما جعل أدب الأطفال يتأخّر حتى الثمانينات كان اعتباره موضوعًا غير جدير بالدراسة، أو بوضعه تحت عين المجهر الأكاديميّ، بما أنه يتوجّه إلى الأطفال الصغار. هل يمكن، حقاً، المقارنة بين أدب الكبار وأدب الأطفال، وهل هناك جدوى بدراسة أدب موجّه لأبناء السنوات الثلاث كما يُدرس أدب الكبار؟ من على استعداد لتكريس سنوات من حياته الأكاديميّة لدراسة هذا النوع من الأدب؟
تلاشت جميع هذه الأسئلة بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما وجد الباحثون أنّ نصوص أدب الأطفال لعبت دورًا مركزيًّا في صقل شخصيّة جيل الشباب وصبّت في نفوسهم الأيديولوجيا في جميع أطراف النزاع. ومنذ فترة هذه الحرب وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي، كان أدب الأطفال إحدى الأدوات المركزيّة في يد السلطة لتلقين الأيديولوجيا السياسيّة أو الاقتصاديّة للأطفال، كي يترعرعوا على قيم الدولة الملقّنة كمواطنين مطيعين للسلطة. لم تكن هذه الظاهرة حصريّة في إحدى الدول بل كانت موجودة في جميع أطراف الصراع، سواءً أفي الولايات المتحدة، أم أوروبا، أم الاتحاد السوفييتيّ، وحتى في الشرق الأقصى.
ولعب أدب الأطفال دورًا سياسيًّا في القرن السابق، ما أخرجه من العالم التربويّ- التعليميّ، وجعله أداة لنقد سياسيّ واجتماعيّ لتطوير القدرة على النقد عند الأطفال، أو لتلقين أيديولوجيّات متعصّبة من ناحية أخرى. وأدّى هذا التطوّر إلى تأثير عالم الأدب والثقافة على عالم أدب الأطفال وجعله ينعطف بشكل حادّ نحو "أدب أطفال ما بعد حديث"، كما تأخذه الثقافة العالمية اليوم. طبعًا بهذا لا نشمل كلّ أدب الأطفال، إنما نتكلم عن مجموعة منتقاة من أدب الأطفال العالميّ، التي بدأت تكبر وتتزايد في السنوات الأخيرة، ولربما ستصبح هي أدب الأطفال المستقبليّ.

لم يعد المؤلف (أو الرسام) مقدّسًا ومراقبًا خارجيًا للنصّ، بل أصبح هو نفسه شخصية في النص

من يكتب الكتاب؟

يبدو لأوّل وهلة أنّ "فلسفة ما بعد الحداثة" هي أبعد ما يمكن عن أدب الأطفال؛ فالأولى تقدّس نقد الأخلاق ومساءلتها، والثانية تربّي على الأخلاق وتضفي عليها هالة من القدسيّة. تشجع الأولى على الحرية من القيود الاجتماعية، وتفضل الثانية التربية التقليدية لتعلم الحدود الاجتماعية. ولكن هذا التناقض أدى لولادة كائن هجين يسمى "أدب أطفال ما بعد الحداثة"، وهو أدب يُكتب من دون القوانين الصارمة المعروفة في مجال أدب الأطفال. هو أدب يطلق عنان الطفولة والبراءة والفوضى عند الأطفال ويعارض فكرة الترتيب والنظام.
قد يصفه الكثير بأنه يهدم ما يبنيه المربون والمعلمون، لكنّ الكثير من الباحثين يدّعون أنه أدب جديد يعطي شرعية للطفل بأن يحقق طفولته ويتصرّف على طبيعته. بل يعطي الطفل أيضًا أدوات لمناقشة ومساءلة القوانين الاجتماعيّة التي يتعلمها. وإذا كانت القوانين هذه صالحة، فسيسهل على الطفل أن يقبّلها ويتعلّمها بعد أن يفهم منطقها، وإذا كانت فاسدة، فمساءلته لها وتشكيكه فيها سيؤديّان لرفضه لها لقلة منطقيتها.

قد يصفه الكثيرون بأنه يهدم ما يبنيه المربّون والمعلّمون، لكنّ الكثير من الباحثين يدّعون أنّه أدب جديد يعطي شرعيّة للطفل بأن يحقّق طفولته ويتصرّف على طبيعته

أحد الأمثلة على هذه النصوص، هو قصة "تشستر" القط (Chester, 2007). تشستر هو قط أليف يعيش مع كاتبة أدب أطفال اسمها ملاني وات. ميلاني تكتب قصة أطفال عن فأر يسكن في بيت صغير في الريف، إلّا أنّ القصة لا تعجب تشستر، فيتدخّل لتغييرها. تشستر يغيّر القصة كلها من خلال زيادات على النصّ بقلمه الأحمر ومن خلال محو مقاطع من النصّ الذي كتبته الكاتبة.
من أول نظرة لغلاف الكتاب يمكن للقارئ أن يفهم الصراع الدائر بين الكاتبة وقطّها في النصّ، فنرى على الغلاف صورة القط تشستر تملأ الصفحة وبيده القلم الأحمر العريض، ونرى خربشة حمراء فوق اسم الكاتبة، وتصليحه لاسم تشستر القط. باقي صفحات الكتاب كلها عبارة عن محاولات الكاتبة لكتابة قصتها عن الفأر، بينما يعترض طريقها القط تشستر ويعرض قصته هو بدلاً عن ذلك.
لا شكّ في أنّ القصة ليست تقليدية وفيها اختلاف كبير عمّا نعرفه اليوم كأدب الأطفال، ولكن بالرغم من ذلك فجمهور الهدف لهذا النصّ هو الأطفال. مركز الصراع في القصة هو بين المؤلفة والشخصيات، أي أنّه صراع خارج عن نطاق أبعاد القصة المألوفة، بل يشكّك فيها ويزعزع أسسها.
في قصة "كلوي والأسد" (Chloe and the lion, 2012)، نرى فكرة شبيهة ولكنها تتوسّع أكثر من ذلك لتضم الرسام أيضًا في الصراع. فالصراع في قصة "كلوي والأسد" هو بين المؤلف والرسام، حيث يقرّر المؤلف استبدال الرسام بآخر في منتصف الكتاب، بسبب عدم موافقته على التدقيق في التفاصيل التي يكتبها المؤلف. لكنّ الشخصيات في القصة تقرّر الاعتراض على استبدال الرسام وتتقدّم إلى المؤلف لمصالحته مع الرسام الأول للكتاب، حتى يتمكنوا من انهائه.
في هذه القصة أيضاً نرى الصراع يأخذ مجرى جديدًا وغير مألوف للقارئ التقليدي، حيث تقسم القصة إلى عدة أبعاد وتتلاشى الحواجز بين العالم الحقيقيّ والنصّ المكتوب أو المرسوم في الكتاب. إذًا، وكما هي عادة فلسفة ما بعد الحداثة، لم يعد المؤلف (أو الرسام) مقدسًا ومراقبًا خارجيًّا للنص، بل أصبح هو نفسه شخصية في النصّ، تحاور باقي الشخصيات وتعيش معها صراعًا لم يقابله أدب الأطفال حتى الآن. زعزعة مكانة المؤلف في نصّ أدبيّ للأطفال، تحوي كذلك مساءلة لمكانة الأهل في تربية الأطفال. هل لهذه القيم أهداف إيجابيّة أم أنها فقط تهدّد مكانة الأهل؟

زعزعة مكانة المؤلف في نصّ أدبيّ للأطفال، تحوي مساءلة لمكانة الأهل في تربية الأطفال

لكل من يرغب بتلقين أطفاله قيمة النقد والابتعاد عن الأخذ بالمسلّمات، هذه الطريقة وهذا النوع من الأدب قد يكونان مثالييْن، لأنهما يشجّعان الطفل على مساءلة هرميّة المجتمع من جهة، والتفكير فيها بطريقة عقلانية وليس كمسلّمة اجتماعية لا يمكن تغييرها- من جهة أخرى. إلّا أنّ هذا النوع من الأدب لا يناسب بتاتاً المجتمعات المحافظة التقليديّة، لأنه يعتمد على فكرة التغيير الاجتماعيّ كفكرة مركزيّة. هذا الأدب يناسب المجتمعات الديناميكيّة التي تعتمد بالأساس على تمكين الأطفال والشباب وتؤمن بأنّهم قياديّو المستقبل ولذلك تشاركهم في عملية اتخاذ القرارات الاجتماعيّة.

تعليقات (1)

  • قارئة (not verified)

    شيق
    الفكر البوست مودرنيستي قد يكون له الايجابيات والسلبيات كأي نوع فكر
    لكنه بدون شك خلاق ومبدع بكونه لا يتماشى مع قوانين معينة
    وهو قد يكون اكثر شمولي بكونه غير ناقد لأي طريقة تعبير او سرد.

إضافة تعليق