تروي لنا القصّة حكاية قرد وُلد حديثًا، تفرح به أمه فتُدلّلـه و"تبالغ في تدليله" على حدّ قول الكاتبة. يكون هذا القرد مشاكسًا جدًا، يلعب بحُريّة مفرطة ولا يعرف الحدود بتاتًا؛ فتارة يصعد ليلعب على الطاولة وتارة يكسر الزجاج، ويزعج الجيران بضربه على أدوات الطعام... وأمّه من شدّة فرحها به لا تمنعه عن أفعاله لدرجة أنه في نهاية الأمر يسكب عليها ماءً ساخنًا ويحرق يدها. تشكيه الوالدة لأبيه فيكون ردّ الأب بأنّ أفعال القرد هذه بسبب دلالها، وبأنّ قول "القرد بعين إمّه غزال" ينطبق عليهما!
عند هذا المشهد أقف قليلا حيث أقرأ رسائلَ من وراء السطور، وكأنّ الكاتبة وعلى لسان الحيوانات أرادت أن تقول للأمهات: دلالك لولدك القرد مردود عليك، وأنتِ من "سيحترق" بالنهاية!
تستعمل الكاتبة اسلوب الاستهزاء وتوجيه اللوم للأمهات اللاتي لا يُجاملن أحدًا على حساب أولادهنّ، ولا يعاملنَ أولادهنّ بقسوة ولا يستخدمنَ أسلوب الصراخ والتوبيخ وحتى الضرب أمام الناس في تربية أولادهنّ، ليُثبتن للأخريات من جنسهنّ أنّهنّ يقُمنَ بالتربية. يُذكّرني هذا الأسلوب ببعض النساء المتقدّمات في السنّ اللاتي كنت أسمعهنّ في صغري يستهزئن بالنساء الأصغر منهنّ سنًّا، اللاتي لا يُربّينَ على طريقتهنّ، فيستخففنَ بهنّ بقولهنّ: "إحنا الي منعرف نربي جيل اليوم بعرفش يربي"! لأنهنّ يعتقدنَ أنّ الضرب والتوبيخ والصراخ في وجهه هي شروط لكي تكوني أمًّا ناجحة في تربية طفلك. هذه هي الرسالة التي وصلتني من هذه القصة، بل وتكرّرت في مشاهدَ مختلفة على مدار الحكاية.
لم يكن ذلك المشهد الوحيد الذي استوقفني، بل استوقفتني مشاهدُ عدّة أخرى في هذه القصّة، واحترتُ على أيّها أُعلّق. في بداية سرد الكاتبة للأحداث تذكر لنا بعض تصرّفات القرد، ومن خلال أسلوب السّرد والكلمات المستخدمة به نقرأ الكثير من الرسائل. فمثلًا تقول الكاتبة: "ضحكت الأم، عندما رأت قردَها الصغير، يلعب بكرته في الدار، ولم تغضب، عندما كسر زجاج النافذة، وجرّة الفخار". تتعجّب الكاتبة لأنّ الأم لم تغضب: فهل كانت ترى أنّ الحلّ الأنسب في هذه الحالة أن تغضب الأم وتبدأ بالصراخ؟!
ثم ننتقل إلى حدث آخر تضمّ به الأم قردها الصغير وهي منفرجة الأسارير عندما أشعل المكواة وتسبّب بإحراق السرير! تعرض الكاتبة هذا الحدث كأنّه شيء عجيب وغير منطقيّ! وبرأيي كان الأجدر بهذا المشهد أن يُعرَض كتصرّف جيد من الأم؛ فربما يكون القرد فعلًا بحاجة إلى الضمّة في مثل هذا الموقف ليشعر بالاطمئنان. فكونه تسبّب بالحريق لا يعني أنّه ليس خائفًا ممّا حصل!
وتستمرّ الكاتبة في عرض القرد الذي يمثل الطفل من بني البشر بمشاهد تحاول من خلالها إبراز كم هو ولد "مشاغب" و"مُدلّل". وكلمة مُدلّل في القصة تأتي بمعنى أنه ولد غير مؤدّب أو بالأحرى لم تتم تربيته، فهو لم يتلقَّ التوبيخ والصراخ والمنع ولم توضع له الحدود والقيود! وللأسف المشهد الذي اختارته الكاتبة للتعبير عن فكرتها عن الولد المشاغب المدلل كان مشهدًا له وهو يأكل الطعام أثناء زيارة الجارة ولا يبقي شيئا في الصحون!
كلّ هذه الأحداث التي تتعرّض للأم بشكل مباشر وتوجّه لها اللوم لم تكفِ الكاتبة، لتنهي لنا القصة بصورة لمعلم وكأنه كان يروي هذه القصّة لطلابه ويقول لهم بعد أن يُنهيها: "هل تصدّقون يا أولاد وبنات الإنسان، أنه يوجد بينكم الكثير مثل هذا الحيوان". نعم بكلّ بساطة تخبرنا الكاتبة على لسان المعلم بأنّ الطلاب كالحيوانات، ولا تكتفي بذلك فيقول المعلم بعد هذه الجملة: "فتعالوا: نتعلم من القرود، أن نضع لأنفسنا بعض الحدود.."، كلمات متناقضة لا أدري كيف نجحت الكاتبة في تركيبها مع بعضها في جملة أرادت أن تلخّص بها قصتها!
فبينما تقول للأطفال هناك بينكم أطفال مثل الحيوانات وتحديدًا القرود، تقصد بذلك أنهم "مشاغبون"، تقول لهم تعلموا منهم وضعوا لأنفسكم بعض الحدود بينما يتناقض النموذج الذي عرضته مع قولها، ما يخلق بلبلة عند الطفل المستمع لقصتها!
عدا عن ذلك كله، هذه القصة مُقدّمة كقصّة للصغار ومُصنّفة كأدب للأطفال، ولكنها تخاطب الأم بشكل مباشر وتوجّه لها الرسائل وكأنّ القصة كُتبت من أجلها، لا أدري لماذا! هذا اضافة الى تهمشيها لدور الأب في العملية التربوية كشريك، وعند ذكره في القصّة قامت بوصفه بـ "الجبار"، لا أعتقد أننا نريد أن نقدم هذه الصورة عن الأب والأمّ لأطفالنا. وعندما جاءت لتخاطب الصغار أظهرت لنا معلمًا وطلابًا يستمعون له ويوصيهم بألّا يكونوا مثل الحيوانات وتحديدًا القرود. أتخيل أُمًا تجلس لتقرأ هذه القصة لطفلها... أيّ رسالة سيحمل الطفل معه وأيّ عبرة سيُذوّت!
الحديث في هذه القصّة عن قرد ولد حديثًا، حيث من المعلوم أنّ الأطفال في هذا العمر بحاجة إلى الحركة، في رحلة اكتشاف العالم والتعرّف إليه، وهي من طبيعة نموّهم وتطوّرهم بشكل سليم وقد يكسرون وقد يحرقون، لكن ذلك لا يجعل منهم حيواناتٍ وقرودًا، ولا ينطبق عليهم ما ينطبق على الكبار، ولا يمكننا أن نكبّلهم بقيود وضعها الكبار لهم من المجتمع الذي يعيشون به.
استخدمت الكاتبة القرود كناية عن كثرة الحركة والشغب، ونسيت أنّ القرود كثيرة الحركة لأنها بحاجة إلى الحركة كي تستمر وتبقى على قيد الحياة ولولا هذه الصفة فيها ما استمرت، وحتى المثل الشعبي "القرد بعين إمّه غزال" الذي استخدمته كعنوان، كنا نستطيع أن نرى فيه جانبًا إيجابيًّا، حيث من الممكن أن نفهم منه أنّ الأم تحبّ أطفالها مهما فعلوا، وتراهم أجمل الأطفال، لكنّها وظفته بسياق سلبيّ.
ولد أدب الأطفال إثر التغيير الذي حصل في العالم بخصوص مفهوم مصطلح الطفولة، وبحسب رأيي فإنّ أدب الأطفال يعبّر عن ثقافة الشعوب. ولو كانت هذه ثقافة شعبنا التربويّة عن الطفل يومًا ما، فأنا أتمنى ألّا تستمر. ولو قارنّا بين أدب الأطفال العالميّ وبين الأدب المحليّ لَلاحظنا الفرق الكبير بين نظرتنا للأطفال ونظرة العالم الخارجيّ لهم.
في نهاية المطاف، أنا لا أنكر أنّ من واجب الكبير أن يوضح للصغير بعض الأمور عن الحياة، وأن يقدّم له بعض الآليات التي تساعده على حماية نفسه وعدم تعريضها للخطر، وأن يُعلّمه كيفية التعامل مع ذلك، بحيث لا يعرض نفسه أو الاخرين للأذى، ولكن هذا لا يعني أن يرسم له مربعًا من حدود وقيود ويسجنه فيه. الأساليب لذلك كثيرة وليس على الأمّ أن تكون قاسية وبغيضة، لا تدلل طفلها ولا تحبّه ولا تبتسم له، كي تحقّق هذه الغاية.
تعليقات (0)
إضافة تعليق