حكايا

نُص نصيص لعبير الطاهر: حول تكرّر انتصار الرجولة


نُص نصيص لعبير الطاهر: حول تكرّر انتصار الرجولة
الرجولة دوما تنتصر وإن كان بطلها "نُص نصيص"
ابتهال حسن

تلعب القصص الشعبية دورًا هامًا بل ورئيسًا في نقل المفاهيم الثقافيّة والحضاريّة عبر الأجيال. وتتطوّر هذه القصص من جيل الى جيل، ومن شعب إلى شعب. لا سيما في حضارتنا العربية التي تزخر بالموروث الحضاريّ والأدب الشعبيّ الذي ينتقل من أفواه الجدّات إلى مسامع الأحفاد والأبناء. يساهم الادب الشعبيّ في الحفاظ على القيم الثقافيّة الخاصّة بالحضارة التي نشأ فيها، بل وأنّ القصص التي تُعاد صياغتها لتناسب قيم هذه الحضارة تكون بمثابة مرآة للواقع الاجتماعيّ والثقافيّ الذي تطوّرت فيه أحداث هذه القصّة لتطّلع الأجيال القادمة عليه، فيكون بمثابة مادّة زخمة للدراسة والبحث وكذلك أداة غير مباشرة في ترسيخ الموروث الحضاريّ والثقافيّ.
"نُص نصيص" قصّة من الأدب الشعبيّ، تختلف رواياتها باختلاف المجتمعات التي طوّرتها وأضافت إليها. ولكنّ الشيء الثابت هو شخصيّة الفتى النحيل القبيح في الغالب الذي لا يُتوقع منه أيّ خير يذكر، ولكنه في نهاية القصة يفاجئ الجميع بقدرته التي تحلّ عقدة القصّة المستعصية على الجميع. شخصية نُص نصيص تنتشر كثيرا في الأدب الشعبيّ العربيّ، إذ أصبحت جزءًا من الثقافة العربيّة مكونة بذلك مصدرًا لتأليف الأمثال الشعبية وإطلاق النكات، حتى أصبح يُطلق على الفتى الذي لا يُوحي شكله بشيء من الإنجاز أو التفوق والتحصيل "نص نصيص".
وإذا تطرّقنا للقصة التي بين يدينا للكاتبة عبير الطاهر، فإننا بإزاء سرد مختلف في ظاهره لأحداث القصّة وتوظيف لشخصيّة "نُصّ نصيص" في سياق مختلف عن السياق الذي اعتدناه. تبدأ القصة حين يكون نُص نصيص في جولة فيفاجَأ بالعجوز الذي يطلب مساعدته في إيصاله الى بيته، في حين نرى التردّد على ملامح وجهه إلا أنه لا يتردّد، ربما ظاهريا، بتقديم المساعدة لهذا الرجل العجوز. برغم صغر حجمه وبدانة العجوز يحمل نُص نصيص الرجل المُسنّ بجُهد ويسلك طريقا مخيفا وسط الغابة موصلا إياه الى بيته الذي يبدو معتما وكئيبا تحيط به طيور البوم والأشجار المخيفة. يبتسم نص نصيص حال وصوله الى بيت العجوز فرحًا بإنجازه وتصبح ابتسامته اكثر اتساعا حين يقول له العجوز إنه سيكافئه لقاء إحسانه بكيس مملوء بالذهب. لا يصدّق الفتى ما سمعته أذناه، ويتبع العجوز إلى الداخل ويطلب منه الرجل المُسنّ أن يرفع بلاطة ثقيلة يوجد تحتها كيس الذهب. تطغى كلمة الذهب على تفكير الفتى فينسى بذلك تحذير أمه له بألّا يدخل بيوت الغرباء. يُفاجأ نص نصيص بما لم يتوقع، إذ يلقي به العجوز داخل حفرة عميقة مُخبرًا إياه بأنه قد خدعه وبأنه هو "الغول".
يمضي الوقت حزينا وثقيلا على نص نصيص في داخل الحفرة ولكنه سرعان ما يسمع صوتا ناعما يكلمه ويقول له "لا تبك يا نص نصيص" يلتفت فيجد فأرة صغيرة تتحدث إليه فيصاب بعدها بالذعر ولكن الفأرة تسارع لطمأنته بأنها الأميرة بنت السلطان وأن الغول قد حولها الى فأرة صغيرة لأنها رفضت الزواج به. تدله الفأرة على طريقة يتخلصان بها من الغول الشرير، بأن يأخذا شعرة من شعره ويلقياها في النار فيموت العجوز فورًا. يفرح نص نصيص بما أخبرته به الفأرة ولكن فرحه يتبدد حين يزيح الغول البلاطة ويمدّ يده لتناول نص نصيص مُخبرًا إياه بأنه سيكون طبقا لعشائه هذه الليلة. يأخذ الفتى حفنة من التراب ويلقيها في عينيه فيصرخ الغول من الألم ويفلت نص نصيص هاربا مختبئا في مكان ما في البيت. ينجح نص نصيص في انتزاع الشعرة والقائها في النار فيموت العجوز وتعود الفأرة الى امرأة حسناء. يعجب بها نص نصيص ويطلب الزواج منها.
نستطيع أن نلاحظ أنّ الوان القصة والجو العام الكئيب للأحداث قد انقلبت الى ألوان زاهية بعد موافقة الأميرة على الزواج من نص نصيص. ومثل معظم الحكايات يتزوّجان وينجبان "صبيان وبنات ويعيشان في تبات ونبات".

إذا تناولنا هذه القصة من منظور إحياء الموروث الشعبي والحضاري فإننا بذلك نستطيع أن نقول إنّها قصة بأسلوب جديد وقديم في الوقت ذاته. الانسجام بين الرسومات الحديثة والجميلة والتي أدّت نصوص القصة حقها أغنى القصة وأكسبها بعدا شعبيا جميلا. يقرّب الطفل من هذا الأدب الذي لم يعد يسمعه من أحد في الغالب، إلّا من بعض الجدات اللاتي ما زلن يسردن هذه القصص. فوجود الأدب الشعبيّ بهذه الصورة أمر ضروريّ وخاصّة في عصر أصبحت ثقافة الأطفال الجيدة حكرًا على الإنتاج الغربيّ، الذي لا يخاطب ثقافتنا وحضارتنا. وبالتالي أصبح من واجبنا إعادة إحياء أدبنا الشعبيّ بصورة مقبولة ترقى إلى ذوق الطفل الذي أصبح يميّز الأدب الجيّد ويطلبه.
تحدث شخصية الأميرة بُعدًا وعلامة فارقة في القصّة؛ فهي المرأة التي تنتظر الرجل الذي يُخلّصها من ضنك العيش وسوء الحال. ومهما يكُن شكل ذلك الرجل -وسيمًا أم قبيحًا- فإنّ قدرته على تخليصها تطغى على كل سلبياته فيستطيع اثر ذلك الفوز بقلبها. يكرس ذلك برأيي مفهوم قصور المرأة وكونها كيانا غير مستقل أقصى همّها أن تتزوّج وتنجب الأطفال. ومع أنّني لا أقلل من ذلك، إلّا أنّ وظيفة المرأة لم تُحصر في ذلك، وإن كان دورها قد تم حصره في الادب الشعبي العربي في الغالب بأن تكون المنتظرة للمساعدة أو المتلقية وليست المبادرة. لا أستطيع هنا أن أحصر مفهوم عدم قدرة المرأة بأن تكون "بطلة نفسها" بالثقافة العربية. فلدينا الكثير من القصص الشعبية الغربية والأفلام التي تتحدّث عن الفكرة نفسها. وعلى ما يبدو فإنّ هذه الفكرة قديمة قدم الحضارة الإنسانية نفسها. وهنا يأتي دور الأهل أو الشخص الذي سيقصّ هذه القصة على مسامع الطفل: فهو إمّا أن يقصّها كمُلقٍ وسيتقبّلها الطفل كمادة صمّاء تزرع في دماغه من غير وعي منهما. وإمّا أن يتم نقاش الأفكار التي تغيب وراء السطور، وخلق تحدٍّ لدى الأطفال لفهم هذه الأفكار.
لماذا تكون المرأة هنا ضعيفة بحاجة الى مساعدة الرجل، حتى إن كان "نُص نصيص"؟

تعليقات (0)

    إضافة تعليق