كانت العنصرية والفكر الاستعماري من مميزات أدب الأطفال الأوروبي في القرن الثامن عشر حتى بداية القرن العشرين. الكنوز الأدبية التي صدرت في فترات الكولونياليّة الأوروبيّة في أفريقيا وفي فترات الحروب العالمية، ما زالت تصدر حتى يومنا هذا. نذكر منها طبعاً سلسلة "طرزان ملك القرود" التي تقدس كل من هو أبيض وترفعه على قمة الهرم الأرضي، فوق الحيوان والطبيعة والرجل الأسود، كذلك "تان تان" الذي صدر في بلجيكا، كما ذكرنا في مادة سابقة، ودكتور دوليتل الذي تعامل مع الرجل الأسود والرجل الشرقي على أنه عبد طيلة السلسلة، ولا ننسى "بينوكيو"، الكتاب المفعم بالفاشية الإيطالية.
كانت هذه الكتب كنوزًا أدبية مركزية في الثقافات الكولونياليّة العنصرية التي فرّقت بين المجتمعات معتمدةً على العرق ولون البشرة، ما جعل الرجل الأبيض الأوروبي على رأس الهرم البشري، فوق اليهودي والعربي والشرقي، وتحتهم جميعاً العرق الأقل "قيمة" – الرجل الأسود.
تغيّرت الفترات التاريخية وتغيّر عالم الأدب وجاء إدوارد سعيد وزرع بذور ثورة ما بعد كولونياليّة، ثم صفع العالم الأوروبي صفعة مدوية جعلته يفكّر مجدداً بجدوى ومعنى "كنوزه" وتنزيلها عن الكثير من رفوف المكاتب.
لكن صوت هذه الصفعة لم يصل بعد إلى مخازن بعض دور النشر المحلية في بلادنا. صوت هذه الصفعة لم يصل بعد إلى ممرات مكاتب قسم اللغة العربية في مركز التكنولوجيا التربويّة الاسرائيلي - مطاح.
في أحد متاجر القرطاسية المحلية، تلك التي تشمل ثلاثة رفوف عليها كتب وثلاثمئة رفٍ عليها أقلام، وجدت كتاباً على غلافه صورة ولد صغير أسمر البشرة، يقف أمام أسد، وعنوانه "ساني يعود إلى لونه". فاجأني العنوان جداً من اللحظة الأولى ولكنّني قررت أن أعطيه فرصة وأن افتحه:
"في يومٍ كان ساني في طريقه إلى الغابة،
ورأى بعض الأولاد البيض يلعبون.
فوقف يتفرج وقال:
من فضلكم، أحب أن ألعب معكم.
فقال له واحد منهم:
آسف. نحن لا نلعب مع ولد أسمر."
وهنا شعرت بصفعة إدوارد سعيد على وجهي أنا هذه المرة. ما هذا؟ هل حقاً هذا ما قرأته أم أنّ عينيّ تخدعانني؟ صُعقت من هذا المنظر وقرّرت مباشرة شراء الكتاب لئلا تجده صدفة طفلة تحبّ الأسُود وتقتنيه، ولئلا يجده صدفة طفل يحب قصص الغابات ويشتريه، ولئلا يجده أيّ طفل ويقتنيه.
عدت مسرعًا إلى البيت، أتخبط في التفكير: لعلي أخطأت في الحكم على الكتاب من صفحة واحدة. يجب أن أقرأه كاملاً لأتمكّن من الحكم عليه والتعامل معه. لعلّ هؤلاء "الأولاد البيض" هم تمثيل معيّن لكائنات شيطانية وشريرة في الكتاب، أو أنّ هناك من سيُعاقبهم على هذه العنصريّة الفظّة، أو أنّ ساني الولد الأسمر سيبرهن لهم أنّ لون بشرته ليس أقلّ قيمة من لون بشرتهم وأننا "أمة لا يُحكم فيها على الفرد من لون بشرته، إنما ممّا تحويه شخصيته". لكن لم يحصل أي شيء من هذا في الكتاب.
"ساني يعود إلى لونه" يحكي قصة طفل، أسود البشرة، اسمه ساني، يعيش في القرب من الغابة و"يُقدم لكل حيوان ما يحتاج إليه"، أو بكلمات أخرى، يخدمها. لهذا، تحبّ حيوانات الغابة ساني جدًّا وتعتبره صديقًا لها. بعد هذا الوصف، يأتي لقاء ساني مع "الأولاد البيض"، منه يخرج ساني حزينًا فيقرّر أن يدهن بشرته باللون الأبيض ليُصبح أبيضَ كذلك.
عندما يذهب ساني إلى الأولاد البيض يستقبلونه بحرارة: "ما أجمل لونك يا ساني! الآن يمكننا أن نصاحبك، ويمكننا أن نلعب معك". في قناعه الأبيض، "مشى ساني وهو منفوخ وفرحان... إنه لون أبيض جميل". لكن حيوانات الغابة لا تتقبل هذا التغيير وترسله ليغسل عن نفسه الطلاء الأبيض، وفقط عندها تعود للعب معه.
عندما دهن ساني نفسه باللون الأبيض، ذكّرني بقصة شاركتها تهاني أبو بلال، شابّة سمراء البشرة من كفر قاسم في دراسة أجرتها طالبات مدرسة راهبات الفرنسيسكان الثانوية، عام 2010: "لما كنت صغيرة، في جيل 5 سنين، بنت صفي بتقلي، تهاني طب ليش ما بتجربي تدهني حالك. أنا فكرت شوي وقلتلها، أدهن حالي؟ بس لما أدهن حالي آخر اشي الدهان بروح، وراح أرجع زي ما كنت أنا سمراء. صغار وبنفكر بهالطريقة، وكيف الكبار بفكروا هيك؟". (للاستماع إلى قصة تهاني)
قد تكون تجربة تهاني مؤلمة جداً، لكنها ليست تجربة نادرة في ظل أدب كهذا. لا شك أنه من أفظع ما قرأت في أدب الأطفال حول لون البشرة. ناهيك عن أنّ الكلمة جميل، لم تذكر إلا بالسياق الأبيض. ماذا يريد الناشر أن يعلم الأطفال؟ أنه عليك أن تصبح أبيض ليتقبّلك المجتمع الأبيض؟ أنه عليك أن تدهن بشرتك لتنتمي إلى العالم الأبيض؟ أنه ليس مكان للأسوَد في المجتمع البشريّ؟ أنّ الأسوَد مكانه بين الحيوانات وليس مع البشر؟ أنّ الأسوَد يمثّل الطبيعة والأبيض يمثّل الثقافة؟ حقاً؟
انتشرت في أوروبا في القرون الأخيرة حدائق حيوانات بشريّة، كانت آخرها في بروكسل عام 1958. حدائق الحيوانات البشرية كما جاء في ويكيبيديا هي: المعارض العرقية أو مستعمرات الزنوج فيها كان يتم عرض البشر على العامة. العرض دائما يكون للتأكيد على اختلاف الحضارة بين الأوربيين الغربين وغير الأوروبيين. حدائق الأنثولوجي (علم الرسم العرقي) تكون كثيراً مبنية على علم العنصرية والداروينية الإجتماعية. وكثيراً منها وضع السكان الأصليين (خاصة من الأصل الأفريقي) في موضع ما بين القردة العليا وجنس البشر الأوروبيّ. المعارض البشريّة تعرّضت لانتقادات كونها مهينة جداً وعنصرية للغاية.
أما في كتابنا هذا "ساني يعود إلى لونه"، فهناك تمجيد لهذه الفكرة التي تصنّف الرجل الأسود بين الحيوانات وليس بين البشر. لهذا، أتقدم بسؤال إلى كافة دور النشر المسؤولة عن إصدار وطباعة هذا الكتاب في بلادنا: هل تقبلون حقاً اصدار هذه المهزلة والعنصريّة؟ وأنادي كافة المتاجر والمكاتب التي تبيع هذا الكتاب على رفوفها، هل حقاً هذا ما تريدون بيعه في مكاتبكم؟ هل حقاً تقبلون بقراءة هذا الكتاب لأطفالكم؟
على الكتاب، ليس هناك أي تفاصيل حول الكاتب أو الرسام أو سنة الإصدار. ربما هذا أفضل، فقد يكون مجرد كتاب صدر في القرن الـ18 ووصل عن طريق الخطأ إلى المكتبات. على غلاف الكتاب الخلفي يُذكر أنه من إصدار "دار الهدى للطباعة والنشر". وفي مكتبة البيرة وجدتُ أنّ إصدار الكتاب جرى في القاهرة، في مكتبة مصر.
بالإضافة إلى هذا كله، وجدت في احدى صفحات موقع مركز التكنولوجيا التربويّة الاسرائيليّ- مطاح، المركز المسؤول عن إصدار الكتب التعليميّة لوزارة المعارف الاسرائيليّة، أنّ هناك تعاملًا مع الكتاب وكأنه مجرد قصّة أطفال يمكننا استعمالها لتعليم فهم المقروء (مرفق رابط). لا أعرف ما الهدف من هذا النشر، ولا من المسؤول عنه، ولكنه نشر غير مسؤول بتاتاً بالذات تحت اسم مركز تربوي يرفع راية التربية والتعليم.
لا أعرف من المسؤول حقاً عن الكتاب، ولا من الناشر أو الموزع وربما يكون مجرد كتاب "سقط سهوًا"، ولكن لا بدّ لنا من القيام بنشاط معيّن للتخلص منه، فليس هناك مكان في روضاتنا ولا في مدارسنا ولا في بيوتنا لكتب عنصرية وكولونياليّة.
مقالات متعلقة:
الآخر: الاستشراق، الكولونياليّة وأدب الأطفال
تين تين - بطل قومي، لكنه فاشيّ وعنصريّ
تعليقات (0)
إضافة تعليق