لا يُمكن الحديث عن القصص الموجّهة للأطفال بمعزلٍ عن التطرّق للرسومات كمادّة مرافقة لا تقلّ أهميّةً عن النّص والقصّة والسرد. هي عنصرُ جذب للطفل تتركّز فيها مساحة اهتمامه الأولى مع الكتاب، وتشكّل فنّ الصورة البصريّة لديه. وللحديث حول واقع رسوم الأطفال في البلاد، لا بدّ من التطرّق إلى نشأة وسيرورة الرسوم المقدّمة للأطفال والعوائق التي تشوبها اليوم في فلسطين بشكلٍ خاص.
أفاد الباحث في ثقافة الأطفال، لؤي وتد، بأنّ بحث تاريخ الرسم للأطفال يلزمنا بأن نتذكّر أنّ "أدب الأطفال المطبوع ما زال يُعتبر ظاهرة حديثة بدأت في القرن الثامن عشر، وفي العالم العربي بالأخصّ: في القرن التاسع عشر. عند الحديث والتعمق بأدب الأطفال الفلسطيني نشهد قفزة نحو القرن العشرين وبداية أدب مُمنهَج ومطبوع برعاية خليل السكاكيني ومحمد إسعاف النشاشيبي بالأخصّ. لهذا يصعب جداً التطرّق لتطوّر الرسم للأطفال قبلها، إذ لم تكن هناك حاجة إليه إلّا من أجل الرسم التوضيحي في كتب التعليم، والتي بدورها بدأت في القرن التاسع عشر".
ويرى وتد أنّه "لا يمكننا مناقشة موضوع الرسم للأطفال من غير ذكر الفنان التشكيليّ الفلسطينيّ كمال بُلاطة، مواليد القدس عام 1942، الذي ترك بصمة كبيرة في عالم الرسم للطفل العربيّ بواقع عمله كمشرف على وضع التصوّر والتصميم العام الفني لسلاسل "دار الفتى العربي" المختلفة، والإشراف على إخراجها وإصدارها عام 1974. فنان آخر لعب دورًا هاماً في بدايات الرسم للأطفال كان الفنان المصري محيي الدين اللبّاد، الذي عمل كذلك في دار الفتى العربي. وإضافة إليهما نذكر كذلك فنان الكاريكاتير ناجي العلي ببعض رسوماته لمجلة الحياة للأطفال".
من كتاب "كشكول الرسّام" لمحيي الدين اللّباد
وبسبب كون الرسم للأطفال في بداية طريقه في منتصف القرن العشرين، صدرت الكثير من الإصدارات من غير أسماء الرسامين، وكان التطرّق محصورًا فقط بأسماء المؤلفين أو المترجمين، كما حصل كثيرا في مجموعة المكتبة الخضراء مثلاً. ورُغم هذا، حدث التغيير المركزي في المجال، كما في أدب الأطفال بشكل عام في العالم، في ثمانينات القرن العشرين وبداية التسعينات نتيجة إعلان السنة العالمية للطفل، عام 1979، وتجديد وثيقة حقوق الطفل عام 1990. يمكن مشاهدة هذا التغيير بوضوح في النصوص التي صدرت في الداخل في تلك السنوات بإبداع ريشة الفنانة التشكيليّة إيرينا كركبي.
واعتبر وتد أنّ الانتفاضة الثانية في بداية الألفيّة "أدّت لفترة ركود في مجال أدب الأطفال المحليّ بشكل عام، وكذلك في مجال الرسم، فبقي في الخلفية فقط أدب الأطفال التهذيبيّ والوعظيّ برسوماته المجردة والبسيطة. أمّا في العقد الأخير، فنرى تغييرات جديدة وإيجابية جدًّا في الرسم لأدب الأطفال".
شارلوت شاما، رسامة لأدب الأطفال العربيّ المحليّ، فرنسيّة الأصل، ترى أنّ على النّص أن يكون حسن الجودة لترافقه رسومات جيّدة أيضًا: "فمن ناحية تقنيّة، هناك نقص جليّ وواضح في تعليم الفنّ البصريّ في البلاد، ورغم هذا هناك بوادر للتغيير بدأت تظهر منذ 3 سنوات في الفنون الفلسطينيّة. المشهد الفنيّ يتغيّر ولكن ما زلنا نرى أنّ القلّة فقط يرسمون مع تقنيات جيّدة ومتطوّرة، ذات خيال واسع، ويعطون للطفل مجالًا للتفكير، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق وجود نصّ يعطي للطفل مساحة تختلف عن مساحة الصورة... كلاهما- النص والصورة- لا يجب أن يقولا ذات الشيء، بل يشكلان شيئًا ثالثًا يحضّ الطفل على التفكير والخيال".
وتابعت شاما: "عندما تمعّنت بقصص الأطفال هنا استغربت لعدم تطوّر الشخصيات في بعض الكتب، وهذه الشخصيات التي تنقصها التقنية في الرسم، لا تمنح للطفل شعورًا وعاطفة. بعض الرسامين هنا تعلّموا من غيرهم من المحترفين ولكن عدم وجود تعليم أكاديميّ مختصّ برسم الشخصيات هو أحد أسباب هذه المشكلة الواضحة في بعض الكتب. مشكلة أخرى لاحظتها كرسّامة هي الاستخدام الخاطئ للألوان في قصص الأطفال بطريقة متعبة للنظر. فبعض الأطفال حسّاسون بصريًا ويفضلون الرسومات الجميلة والفنيّة على سواها، ما يؤدّي بنهاية المطاف إلى ابتعاد الطفل عن الكتاب، ومنهم أطفالي الّذين يفضلون الكتب الفرنسيّة والأوروبيّة على الكتب العربيّة".
تقول شاما إنّ على الرسومات أن تقدح زناد الخيال والمشاعر لدى الطفل، و"نحن نحتاج إلى رسومات بصريّة بمستوى عالٍ تترك وعيًا في عقل الطفل وتشجعه على الاستكشاف. لا يوجد تقنية واحدة جيّدة لرسوم الأطفال؛ فمثلاً الرسّامة الايطالية باتريس اليمانيا رسوماتها رائعة، رغم أنّ التقنية التي تستخدمها ليست عالية، ولكن عملها رائع لأنّه يقوم بتشغيل الخيال والشعور لدى الطفل وتخلق الرسمة علاقة جيّدة مع النّص".
تجربة شاما مع رسوم قصص الأطفال تباينت بين مكانين كما عبّرت لنا: "أثّر الأدب الفرنسيّ بي منذ الطفولة ولأهميّته حاولتُ تمرير الأدب والفنّ سويًا إلى أطفالي. فمذّ سكنتُ هنا أخذتُ أبحث عن كتب جيّدة لأطفالي ولكنني أحبطتُ بسبب الخيارات الضيّقة المتاحة. رسوم الأطفال في فرنسا تختلف كثيرًا عن رسوم الأطفال هنا والسبب يعود إلى أنّ الأهميّة التي يوليها الشعب الفرنسيّ للأدب هي أكبر؛ فهم شعب قارئ يقصّون الروايات على أبنائهم قبل نومهم، وفي المتاجر هناك كميات كبيرة من كتب الأطفال، إضافةً إلى عدد الكتّاب الكثر المختصين بالأطفال. النظرة اتجاه الكتب تختلف في فرنسا، ففي أعياد الميلاد يقوم الأطفال بإهداء بعضهم البعض قصصًا كهدية، على عكس الطفل العربيّ الذي يتعامل مع القصّة كأنها فرض عليه وهو مجبور على قراءتها".
شارلوت شاما
أما الاختصاصيّة في تربية الطفولة المبكرة، منى سروجي، فأجابت على سؤالنا حول رؤيتها لواقع الرسم للأطفال في المجتمع العربيّ، بأنّه "من المهم تسليط الضّوء على الفضاء والسّياق اللذين يعمل فيهما رسّامو ورسّامات كتب الأطفال؛ فالغالبيّة العظمى من الرّسامين الّذين نرى أعمالهم في السّوق لم يتلقّوا تأهيلاً أكاديميًّا مختصًّا في رسم كتب الأطفال، وطوّروا قدراتهم بجهدٍ ذاتيّ. أضف إلى ذلك غياب مؤسّسات رسميّة أو مجتمعية -وعلى مدى عقود- ترعى هؤلاء الرّسامّين بتوفير ورشات تدريبٍ مهنيّة، وفرص تعلّميّة أخرى تتيح لهم الانكشاف على هذا الفنّ في ثقافاتٍ أخرى".
وتوافق سروجي على ما قالته شاما بخصوص الرسومات في الكتب العربيّة: "إذا راجعنا رسومات كتب الأطفال العربيّة الصّادرة محلّيًا، نرى أنّ غالبيّتها ما زالت تفتقد لحرفيّة استخدام تقنيات رسمٍ متطوّرة ومتنوّعة. هناك حاجة أيضًا إلى تطوير مفهومٍ لعلاقات مختلفة بين النّص اللّغوي والنّص البصري، وهما نصّان منفصلان، لكنهما متحاوران. غالبيّة رسومات الكتب المشار إليها "تترجم" النّص اللّغوي ترجمة حرفيّة، ولا تجتهد في التّعبير عن علاقة مختلفة أكثر عمقًا وتحدّيًا لذهن القارئ الصّغير، لكن، يهمّني الإشارة إلى أنّه في الفترة الأخيرة نرى أعمالاً ملفتة وجميلة لرسّامين محلّيين جدد ومتمرّسين، يدركون أنّ رسم كتب الأطفال هو فنّ يتطلّب دراسة عميقة، واطّلاعًا واسعًا على مدارس رسم كتب الأطفال في العالم، وأنّ العمل المشترك بين كاتب النّص وبين الرّسّام أمرٌ أساسيّ وحيويّ في إنتاج أيّ كتاب".
منى سروجي
من المشاريع الفريدة في مجال رسوم الأطفال مؤخرًا الورشات التدريبية المهنية التي بدأ بها مركز الكتب والمكتبات عام 2016، وهي تعتمد على ورشات عملية ولقاءات نظرية وتثقيفية للمشاركات والمشاركين، في مجالي الكتابة والرسم للأطفال. وتأتي هذه المبادرة الطلائعيّة من مركز الكتب والمكتبات، ضمن مشروع دفيئة "حكايا" التي تضم تحت كنفها تشغيل وإنشاء موقع "حكايا" لأدب وثقافة الأطفال والفتيان، والورشات التدريبية وإصدار كتب الأطفال سنويًا.
ومن المشاريع المتميزة الأخرى، إنشاء مكتبة بلدية بيت فوريك بقضاء نابلس، وستوديو أنيميشن (تحريك) خاص بالأطفال، استطاع الأطفال من خلاله خطّ الرسوم المتحركة منذ 4 سنوات ضمن قصصٍ وأفلام ومعارض، بعد أن خاضوا ورشات عالية المستوى على يد رسامين محترفين. حول هذه التجربة التي وصفتها منسّقة مؤسّسة "تامر للتعليم المجتمعيّ" في مدينة نابلس، آلاء قرمان، بالمختلفة، قالت: "عرضتُ قصّة "الفزّاعة" على الأطفال وقاموا بدورهم بالرّسم للنّص وفقًا لخيالهم. لقد خرجوا بطرح فنيّ مختلف للفزاعة. ما يميّز هذا المشروع هو أنّ الأطفال هم من يناقشون النّص؛ فالفزاعة وحيدة وفخورة بعملها بتخويف الناس وهناك أرنب يبدي عدم خوفه منها ويعترف لها برقصها الجميل".
آلاء قرمان
ونوّهت بأنّ الرسم للقصّة يجب أن يجلب معه أجوبة لم يُجب عليها النّص، وما أتى به الأطفال هو أن يكون داخل الفزّاعة مكان فارغ يقوم الأرنب بتعبئته بطريقةٍ ما، فالأطفال نظروا للنّص بطريقة أخرى جديدة، فهذه وظيفة الرسومات أن تضيف معنىً جديدًا للنّص لا أن تفسّره فقط وتقول ما تقول الكلمات.
مشروع آخر، هو مكتبة الفانوس القطريّ في الداخل الفلسطينيّ، الهدف منه تشجيع الأهل على القراءة لطفلهم من عمر مبكر، والحوار معه حول مضامين الكتاب. يوزّع المشروع كلّ سنة 16 كتابًا نوعيًا (8 لأطفال الرّوضة، و8 لأطفال البستان) تختارهم لجنة مهنيّة. توزّع الكتب مجانًا على جميع الأطفال المنتظمين في روضات وبساتين الأطفال العربية الرّسميّة، وبتكلفة زهيدة في الأطر التّابعة لجمعيات ومدارس أهليّة.
وأوضحت سروجي، التي تعمل مركّزة عمل لجنة اختيار الكتب العربيّة في "مكتبة الفانوس"، أنّ المربية تقرأ الكتاب عدّة مرّات مع الأطفال خلال المشروع، وتعدّ أنشطة متنوّعة مع الأهل حول الكتاب، ثمّ يأخذ الطّفل نسخته الخاصّة إلى البيت. وقُبَيل دخول الطّفل إلى المدرسة، يكون قد أضاف إلى مكتبته البيتيّة الخاصّة 24 كتابًا نوعيًّا لا تتوفّر معظمها في الأسواق. ويُولي المشروع أهميّة خاصّة لرسومات الكتاب، من منطلق الإيمان بأنّ للطفل الحقّ في أن ينكشف على أعمالٍ فنّية تحترم عقله، وتساهم في تطوير ذائقته الجماليّة. "لذا يهمّنا أن نكشف الأطفال على تقنيات رسمٍ مختلفة، وعلى علاقاتٍ مختلفة بين النّص اللّغوي والنّص الفنّي. وفي سبيل ذلك، تختار اللّجنة من الكتب المحلّية والعالميّة ما يتماشى مع رؤيتنا هذه. وأنوّه إلى وجود رسّامين ورسّامات في العالم العربي على درجة عالية من الاحتراف، يهمّنا أن ينكشف أطفالنا على أعمالهم، أمثال هبة فرّان، ونادين صيداني وغيرهما".
وفقًا لتجربة سروجي في المجال التربويّ، فهي ترى أنّ كتاب "أرنوبيّة" الصّادر عن مكتبة الفانوس، والمترجم عن كتاب Rabbityness الإنكليزي، هو من أفضل الكتب رسمًا للأطفال. يتناول الكتاب موضوع التّفرّد -لكّل إنسان مساهمته الخاصّة والمتميّزة في هذا العالم- ويحتفي بالتّنوّع من خلال قصّة أرانب فقدوا صديقهم أرنوب الّذي كان يملأ الغابة بموسيقاه وألوانه. لكنّ فقدان أرنوب يشجّعهم على اكتشاف طاقاتهم الدّاخلية الجميلة الّتي تمكّنهم من إعادة الفرح إلى الغابة. تستخدم الكاتبة/ الرّسّامة جو إمبسون تقنيّة اللّعب بطيفٍ من بقع الألوان المتناثرة، هي أشبه بالنّفخ على بقع الألوان من أجل تشكيل لوحات رائعة تنقل للقارئ حسّ الإبداع الفطريّ والعشوائي الموجود في داخل كلّ منّا.
إضافةً لأرنوبيّة، اختارت سروجي كتاب "أين أختي" المترجم عن السّويدية، أصدرته دار "المنى" بالعربيّة. احتوى الكتاب بالأصل على رسوماتٍ فقط، أضاف إليها الرّسام/ الكاتب سفين نوردكفيست فيما بعد نصًّا، وهو مسار يختلف عمّا نألفه عادة في إصدار كتب الأطفال. يروي لنا الكتاب قصّة فأر صغير، تختفي أخته، فيستنجد بجدّه ليساعده في البحث عنها. ينطلق الاثنان في رحلة يزوران فيها أماكن خياليّة. المذهل في الكتاب كمّ التّفاصيل الصّغيرة في كلّ لوحة، تسحب القارئ إلى داخلها مسحورًا ليتجوّل ويضحك، وكأنّ في داخلها لوحاتٍ أخرى صغيرة، تصلح كلّ واحدة منها لحكاية جديدة. يحبّ الأطفال هذه التّفاصيل الصّغيرة ويلاحقونها، ويطوّرون من خلال ذلك مهارة التّفرّس ودقّة الملاحظة".
"الكتاب الثالث والأخير هو "سيسي ملاقط تلبس خروفًا ودودتين" وهو كتاب خياليّ يروي قصّة أصل الملابس الّتي نرتديها، قبل تصنيعها، ويلفت نظر الطفل إلى عناصر الطّبيعة الّتي يسخّرها الإنسان لسد حاجاته، وأهميّة أن نحافظ عليها. سيسي ملاقط تلبس في الصّباح خروفًا، وتنتعل شجرة مطّاطٍ وتضع على رأسها جملاً، لتتحوّل كلّها خلال صفحات الكتاب إلى ملابس وأحذية. ما يعجبني في رسومات الكتاب هو المرح واستخدام تقنيّة الكولاج بإدخال صور لأغراضٍ حقيقيّة من قطع ملابس وأثاث ومنشورات دعائيّة لأفلامٍ عربيّة"، تقول سروجي.
تعليقات (0)
إضافة تعليق