أذكر في طفولتي كم كانت برامج الأطفال تتداول بشكل كبير فكرة الأم؛ فالأم في معظم الأحيان غائبة والشخصيّة الرئيسة تبحث عنها أو تعيش معضلات نتيجة هذا الغياب، كما في "بيل وسبيستيان"، و"ساندي بيل"، و"ليدي ليدي"، و"أنا وأخي"، وغيرها. أمّا في قصص الأطفال فصورة الأم كانت بشكل كبير الحكيمة والرزينة التي تتخذ القرارات الصحيحة في حياة أطفالها وأولادها؛ على سبيل المثال قصة "أمي لا تحب الفتوش"، وكان دورها في القصص الشعبية يتوّج دائمًا بالتضحية والعطاء غير المحدوديْن، أو تناولت أحيانا صورة الأم "السيئة" التي لا تستحقّ أن تعتني بأولادها، وفي قصص شعبية عديدة كانت في انتظار الأمومة التي لم تأتِ بعد، والتفاحة السحرية التي ستجعلها تحبل وتنجب طفلا.
والمثير للاهتمام أيضًا استخدامنا لمصطلح "أمّنا الغولة"، وكأنه اعتراف صريح وواضح لرعب الأمومة، الذي قلّما تتناوله قصص الأطفال: العلاقة بين الأم ونفسها، بين لحظة الولادة والموت.
الأمومة في قصة الجلد المسروق
"الجلد المسروق" هي قصة شعبية من اسكتلندا صدرت ترجمة عربية لها عن مؤسّسة عبد المحسن القطان- برنامج البحث والتطوير التربويّ، كمشروع نشر مشترك مع دار الأهليّة للنشر والتوزيع، ترجمها وسيم الكردي ورسمتها ريما الكوسا. تُعرف القصّة أحيانا باسم "الزوجة الفقمة" the seal wife وتتحدّث في 24 صفحة عن ثلاث مراحل: الفتاة، الزوجة ومن ثم الأم وعن نوع واحد من السرقة: سرقة الحياة.
تحكي القصة في البداية عن صياد وحيد شاهد في أحد الأيام التي كان فيها مبحرًا للعودة إلى بيته نساءً يرقصن ويضحكن ويُغنين تحت ضوء القمر. وعندما اقترب أكثر شاهد جلدًا ناعمًا مثل جلد الفقمة فأخذه وخبّأه. سمعت النساء صوت خرخشة فلبسنَ جلدهن وعُدنَ مُجدّدًا إلى البحر كفقمات، إلا واحدة لم تجد جلدها، فتوسّلت للصياد بأن يرجعه لها ويدور هذا الحديث بينهما:
"من فضلك أيها السيد"،
توسلت له بصوت بدا كأنه موجات تتماوج على الرمال.
" أعد لي ما هو لي"
"تعالي معي إلى بيتي، عيشي معي، كوني زوجتي".
"دون جلدي لا يمكن لي أن أعود أبداً إلى بيتي وإلى عائلتي وإلى حياتي هناك في أعماق المحيط".
سأبقى أسيرة للشمس فوق هذه الأرض.
"أنت الآن جزء من عالمي".{1}
تبدأ السرقة من هنا، إذ يعودان معًا إلى البيت، ويقرّر لها البدء بحياة أخرى، ولكن شمس الأرض هنا لا ترمز للحرية؛ فالشمس هنا سلسة تقيد يديّ هذه المرأة وجسدها. تعيش المرأة مع الصياد لسبع سنوات كما تذكر القصة، تنجب خلالها ثلاثة أطفال، تعتني بهم وتقضي معهم كلّ وقتها، تنعزل عن حياة القرية الاجتماعيّة وتقرّر ألّا تختلط مع أحد. ولكن القصة تخبرنا أنّ جسد المرأة خلال تلك السنين "بدأ بالنحول وأصبح شاحبا ومخيفا، أمّا شعرها الأحمر الداكن الطويل فقد فقد لمعانه، كما فقدت عيناها تلألئهما.{2}
تبقى المرأة عالقة على الأرض وكأنها تعيش في جسد آخر، لذلك نراها في القصة تزور البحر دائما، وتحاول أن تتحدث مع زوجها الصياد على أنها تريد العودة إلى مكانها الأصلي.
"متى ستتوقفين عن التكلم في هذا الأمر، لقد مرت سنوات الآن".
"إنّ حياتي باتت تضيق، أنا بحاجة إلى جلدي! توسلت المرأة".
يقول الصياد: هل ستتركين عائلتك هكذا!؟ أيّ نوع من الأمهات أنتِ؟! أنت أم سيئة! هذا ما أعتقده.
"لا أعرف! ما أعرفه فقط هو أنه لا يمكنني الاستمرار في الحياة كشخص ليس هو أنا. إنني بحاجة لجلدي إنه جزء منّي!"
فيقول الصياد: "لا يهمك إلا نفسك فقط! وماذا عني؟"{3}
عند هذا المقطع تحديدًا يحاكم الصياد الأمومة بقوله للمرأة بشكل واضح أنت أم سيئة، والأم السيئة بمنظور المجتمع هي التي تتصرّف أو تتفوّه بأيّ كلام يتعارض مع الفكرة المثالية عن الأمومة. الأم بصفتها ملاكًا قادرًا على تحمل كل الظروف والصعاب، وتقديم التضحيات مقابل سعادة الأولاد. أيّ نوع من الأمهات أنتِ التي تفكر في التخلي عن أطفالها، فنوع الأمهات هو واحد ومعروف لدى الجميع. الصياد هنا يُنظر له كنموذج لخطاب يتداول حول الأمومة في "المتن العام" الذي تتحدّث عنه الشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بكثرة في كتاباتها، وبالأخصّ في مقالتها عن "الأمومة والعنف"{4}، فتطرح في مقالتها نوعين من الأمومة: "أمومة المتن العام، ومتن في الهامش"، فالصياد يتوقع أن الأمومة هي "عادةً عطاء، تماهٍ بين ذاتيْن، حبٌ غير محدود أو مشروط إلى حدٍّ كبير".{5}
وتقصد مرسال تحديدا بهاتين الأمومتين "ما تكون عبر الخطابات الدينية والفلسفات والأخلاق والقيم الاجتماعية المقبولة- حيث يُنظر إلى الأمومة كفطرة إنسانيّة محميّة بشكلٍ طبيعيّ من الصراعات والتوترات. وأمومة في الهامش قد تجد شظاياها السرديّة في بعض كتب الطبّ والنصوص الأدبيّة وقصص الجرائم الأسريّة، حيث هناك أصوات متفرّقة تحاول، عبر المرض النفسيّ أو الكتابة أو الجريمة، التعبير عن الرعب والصراع والتوتر داخل أمومتها".{6}
وتقتبس مرسال في بداية المقالة مقطعًا من قصيدة للشاعرة البولندية آنا سوير تقول فيها:
أقول: "أنتِ لن تهزميني
لن أكون بيضةً لتشرخيها
في هرولتكِ نحو العالم.
جسر مشاة تعبرينه
في الطريق إلى حياتِك
أنا سأدافع عن نفسي"
تقول مرسال إنّ سوير كتبت هذه القصيدة بعد حوالي ثلاثين عامًا على ولادتها لطفلتها وهي احتاجت لكلّ "هذه السنوات لتربي غضبا تجاه مولودتها".{7}
والمرأة في قصة الجلد المسروق احتاجت لسبع سنوات لتخرج وتتحدّى أمومتها في "المتن العام"؛ فعندما تجد الفراء المسروق في أحد الأيام بينما كان أولادها يلعبون، تقرّر أن تعود إلى البحر فورًا. يبكي الأطفال ويتوسّلون أمهم ألّا تذهب ولكنها تخبرهم بأنّ موعد عودتها إلى البيت قد حان، وتقول لهم:
"إذا بقيت هنا، فلا يمكن لي أن أحيا، أنا سجينة على هذه الأرض، وأنتم تعرفون ذلك، لقد أخبرتكم فيما مضى بأنّ بيتي الحقيقيّ هو البحر، إنني أحبكم... وسأكون معكم بقلبي دائمًا."{8}
إنها رسالة وداع مشابهة لرسالة الموت. فماذا يعني لأطفال صغار أن تكون معهم عبر قلبها وليس جسدها ورائحتها ولمساتها. الأم تموت ماديًّا ومجازيًّا هنا، ولكنها تشقّ طريقها للولادة من جديد لحياتها المفقودة.
"لقد ذهبت أمنا"
المرأة تتحدى أمومتها هنا أيضًا لأنها تتحدّى الشعور بالذنب الذي تقول عنه مرسال: "الشعور الذي يوحد الأمهات على اختلافاتهن... نتيجة المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين اخفاقاتها في الخبرة الشخصيّة. إنه شعورٌ جوهريّ حتى أنه يصلح كتعريف لممارسات الأم في حياتها اليوميّة: ابنك وزنه أقلّ من معدّل وزن من هم في عمره، لا بدّ أنك لا تطعمينه ما يكفي. لقد استيقظ فزعاً من كابوس لأنه لا يشعر بالأمان. أنتِ لم تحضنيه أمام باب المدرسة لأنك كنت متأخرة عن عملك. ولم تتعلمي التزحلق على الجليد ورغم أنكِ تذهبين معه وتقفين في طابور في درجة حرارة عدة عشرات تحت الصفر فلن تستطيعي مساعدته في لبس هذا الحذاء العجيب، وهو في النهاية سيذهب للتزحلق وحده بينما أنتِ تجلسين في المقهى تقرأين كتاباً في انتظاره. أنت امرأة متعكرة المزاج في الصباح ومشغولة البال في المساء. الأمهات الأخريات يستمتعن بلعب الشطرنج ويحفظن الكثير من أغاني الأطفال."{9}
تغادر الأم بكلّ هدوء وتقول لهم: "حينما تحتاجون إليّ استمعوا لصوتي عند حافة البحر". الأطفال سيحتاجونها، لن تحتاجهم هي، ستكتفي بهم في قلبها كفكرة. فتبدو الأم هنا مشابهة تمامًا لما وصفته مرسال: "الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاكٌ في لحظة الولادة وشقّ صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشرّ، حرّرها من هويّتها السابقة وشفاها من العدميّة أو الطموح، تمامًا كما يحدث مع الأنبياء في عمليّة تجهيزهم للنبوّة".{10}
الأم "النبيّة" تحرّرت من هويتها السابقة بالفعل، فهي منذ البداية عاشت سجينة على الأرض كزوجة، ومن ثم سجينة كأم مع ثلاثة أطفال، وقرّرت أن ترفض أن يكون أولادها بيضة ليشرخوها في هرولتهم نحو العالم. فعادت إلى البحر وعادت إليها عيناها المتلألئتان.
____________________________________
هوامش:
1 الجلد المسروق، ترجمة وسيم الكردي، منشورات مؤسسة عبد المحسن القطان برنامج البحث والتطوير التربوي ودار الأهلية للنشر والتوزيع- عمان/فلسطين 2016، ط2، صفحة 8.
2 نفس المرجع السابق، ص 11
3 نفس المرجع السابق، ص 14- 15
4 مرسال، إيمان، الأمومة والعنف، ترجمة آنا ستانون، مجلة مخزن، العدد 2، سبتمبر 2016 ، ص 1-10
5 نفس المصدر السابق
6 نفس المصدر السابق
7 نفس المرجع السابق، ص 11
8 الجلد المسروق، صفحة 23.
9 مرسال، إيمان، ص 1-10
10 نفس المصدر السابق
استعادة الحياة المسروقة في أدب الأطفال: الأم مثالاً
قراءة في كتاب الجلد المسروق في سياق الأمومة: "الأمّ المثالية في المتن العام مقابل الأم النبيّة التي تحرّرت من عقدة الذنب تجاه أطفالها"، وهي تتركهم لو شاءت للعودة إلى البحر...
لبنى طه
تعليقات (0)
إضافة تعليق