حكايا

الآخر: الاستشراق، الكولونياليّة وأدب الأطفال


الآخر: الاستشراق، الكولونياليّة وأدب الأطفال
إنّ كلمات إدوارد سعيد عن الاستشراق تُرغمنا على مواجهة النتيجة غير المُريحة التي تُفيد بأنّ محاولتنا التحدّث باسم الأطفال وعنهم بهذه الأساليب سوف تؤكّد دائمًا اختلافهم، ونظريًّا، نقصهم في إدراك أنفسهم كمفكّرين ومتحدّثين.
أ.د. بيري نودلمان، أحد أبرز الباحثين المعاصرين في ثقافة الأطفال

مرجع المقالة العلمية:
Nodelman, P. (1992). The other: Orientalism, colonialism, and children's literature. Children's Literature Association Quarterly, 17(1), 29-35.‏

مقالة علمية مترجمة بشكل حصري لموقع حكايا

مقدمة

"يمكننا أن نناقش ونحلل علم نفس الأطفال وأدبهم بوصفهما المؤسسة المشتركة للتعامل مع الطفولة – التعامل معها بإصدار تقريرات حولها، وإجازة الآراء فيها وإقرارها، وبوصفها، وتدريسها، والاستقرار فيها: وبإيجاز، علم نفس الأطفال وأدبهم كأسلوب بالغٍ للسيطرة على الطفولة، واستبنائها، وامتلاك السيادة عليها."
إنّ أيّ شخصٍ يشعر باليأس تجاه هذه الكلمات البالغة الأهميّة حول مؤسّساتنا التي تتعامل مع الأطفال، سيكون مسرورًا لمعرفة أنّني أنا من اخترع هذه الكلمات. أو، لأكون دقيقًا أكثر، أنا من استعار هذه الكلمات: كلّ ما فعلته كان إدخال عبارات متعلّقة بمؤسّسات الأطفال داخل اقتباساتٍ تُناقش، في الواقع، موضوعًا مختلفًا تمامًا:
"يمكننا أن نُناقش ونحلل الاستشراق بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق – التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه" (سعيد 3).

لقد صادفتُ الاقتباس من كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) الذي أعتبرُه تحقيقًا رائعًا في التوجّهات الأوروبيّة نحو العرب والآسيويّين. يعمل سعيد على كشف أنّ ما ندعوه "الشرق" يكاد يكون منفصلًا عن الظروف الفعليّة في الشرق – الذي يُعتبر، على نحوٍ أكثر أهميّة، ابتداعًا أوروبيًّا لطالما كان له التأثير البالغ على الطريقة التي يفكر فيها الأوروبيّون بالشرق وكيفية سلوكهم تجاهه، أيضًا.
عندما رحت أقرأ التوصيفات الرائعة التي استعملها سعيد لوصف تاريخ الاستشراق وبنيته، بهرَني بشكلٍ خاصّ عدد المرات التي اقترحت فيها هذه التوصيفات عليّ مضامين فِكريّة متوازية عن أكثر ما نفترضه شيوعًا عن الطفولة وأدب الأطفال. ربمّا لم يكن عليّ أن أنبهِرَ كلّ هذا الانبهار: ففي النهاية، إنّ المحاججة المؤثّرة لجاكلين روز "استحالة خيال الأطفال" تنطلق من الأساس الذي يقول إنّ أدب الأطفال عبارة عن شكلٍ من أشكال الكولونياليّة.1 بالفعل، إنّ إجراء بحثٍ في المتوازيات بين توصيفات سعيد حول الاستشراق وتصويراتنا للطفولة في عِلم نفس الأطفال وأدب الأطفال، يكشفُ عدّة أمورٍ مثيرةٍ للاهتمام.

1. النّقص المُتأصِّل
حسب الأوروبيّين، فإنّ على الأوروبيّين وصف وتحليل الشرق لأنّ الشرقيّين غير قادرين على وصف أو تحليل أنفسهم. فإنّ الاستشراق ليس مجالًا دراسيًّا يمكن تحصيله فقط من قبَل الأجانب الخارجيّين، ولكنّ ما يُعرّفهم بأنّهم خارج الموضوع هو، بالضبط، قدرتهم على دراسته: "الاستشراق خارج الشرق، كحقيقة وجوديّة وأخلاقيّة على حدٍّ سواء" (21).
الاستشراقُ، بالتالي، تأصّلًا وحتميًّا، هو دراسة لما يدعوه المنظّرون، عادةً، (الآخر) – ذاك الذي هو مقابل الشخص الذي يفعل أو يتكلّم أو يفكّر أو يدرس.2 بما أنّ مقابل الدراسة هو عدم القدرة على الدراسة، فإنّ الآخر يُصوَّر دائمًا عبر أولئك الذين يدرسونه ليكون عاجزًا عن دراسة نفسه، رؤية نفسه أو التحدّث باسمها. بذلك، فإنّ ما سترُكّز عليه الدراسة دائمًا هو كيف ولماذا يفتقرُ الآخر إلى قدراته الخاصّة.
من الواضح أنّ توصيفاتنا للطفولة تدّعي، بشكلٍ مشابه، الرؤية والتحدّث للأطفال، وأنّ ما نعتقد أنّهم عليه يُشبه الاعتقاد بعدم قدرتهم على التحدّث بأنفسهم. بالنسبة لنا، إنّ كُتّاب وقُرّاء (دوريّة أدب الأطفال) بالغون؛ الأطفال ليسوا هُم من يكتب النصوص التي نُعرّفها بأنها أدب أطفال أو النقد المُوجّه لهذه النصوص. إنّ كلمات سعيد تُرغمنا على مواجهة النتيجة غير المُريحة التي تُفيد بأنّ محاولتنا التحدّث باسم الأطفال وعنهم بهذه الأساليب سوف تؤكّد دائمًا اختلافهم، ونظريًّا، نقصهم في إدراك أنفسهم كمفكّرين ومتحدّثين.
بالطبع، يمكن أن ندّعي بأنّنا نعتقد بأنّ عجز الأطفال عن التحدّث عن أنفسهم ليس نقصًا أبدًا، بل هو حالةٌ مثاليّةٌ من البراءة الرائعة، تمامًا كما ادّعى الأوروبيّون عبر التاريخ الإعجاب بما فسّروه بأنّه نقصٌ في المنطق التحليليّ لدى الشرقيّين. على أنّ هذا الإعجاب المُفترَض للعجز عن الرؤية والتحدث تقطعه حقيقةُ أنّه مرتكزٌ – نظريًّا على الأقلّ – على المراقبة – الرؤية – ثمّ يتمّ التحدّث عنه – الذي هو في جوهره، ليس إنسانيًّا تمامًا. إننا نُحدّد إعجابنا بالعجز عن الكلام كما نفعل بأنفسنا عندما نتحدّث بحماسةٍ عن الأمر.

2. الأنوثة المتأصّلة
إنّ تصويرات أولئك الذين لا يرون ولا يتكلّمون عن أنفسهم يجب أن تكون دائمًا مُجَنسَنة من قبَل الخارجيّين – أولئك الذي يستطيعون الرؤية والتحدث. حسب نظريّة النظرة للاكان، كلّ تصويرات من هذا النوع تُلمّح إلى حقّ الشخص الذي يراقب ويُحلّل في المراقبة والتحليل؛ إنه هو الذي يستطيع تصحيح الآخرين بنظرته، وبالتالي يُعرّف مَن هُم دون أن يخرج ذلك عمّا يراه هو، فإنّه بذلك يُمارس سُلطةً عليهم. إنّ تصويرات الطفولة التي يمكن أن نجدها في عَلم نفس الأطفال وفي أدب الأطفال، بالتالي، تُلمّح إلى إيماننا بحقّنا في ممارسة سُلطتنا على الأطفال من منطلق أنّهم موجودون فحسب. إنّ هذه التصويرات والمَناهج التي تُنتجهم، تُعتبر استعماريّة في جوهرها.
بالإضافة إلى ذلك، قلتُ "هو الذي يستطيع تصحيح الآخرين بنظرته" متعمّدًا. في تاريخ الفنّ وفي التصوير الفوتوغرافيّ المُعاصر، لطالما كانت الإِناثُ، بشكلٍ تقليديّ، موضوع نظرة الذكور، ولذلك تُعرّف الإناث بأنّهن مواضيعُ ملائمة للنظر إليها – مُتاحة، خاملة وخاضعة لما يُريح النّاظرين المنفصلين.3 إذا كان الموضوع الأكثر بروزًا لنظرةٍ الذكر هو الأنثى، فإنّ الذكوريّة والأنثويّة يمكن بل يصبحان خصائص رمزيّة للنّاظرين والمَنظور إليهم الذين ليسوا فعليًّا ذكورًا أو إناثًا: بالفعل، حتّى المُضطهِدين الذين هُم إناث، يميلون إلى وصف أنفسهم بلُغةٍ تُلمّح إلى عدائيّتهم الذكوريّة، بينما يستعملون لغة الأنثى الخاملة للتلميح إلى المُضطهَدين، سواءٌ كانوا ذكورًا أو إناثًا.
بالنسبة للأوروبيّين الذين يروْن في الشرق موضوعَ نظرتهم، يُعتبر الشرق أنثى، على نحوْ رمزيّ – الأمر الذي يُتيح لأوروبا تصوير نفسها وسُلطتها بأنّها ذكر. يصفُ سعيد كيف أنّ "صوَر... الانجذاب الجنسيّ إلى الشرق قد تزايد بشكلٍ كبير" باعتبار أنّ "الباحثين، المديرين، الجغرافيّين، والوكلاء التجاريين صبّوا جُلّ نشاطهم الكبير في الشرق النسائيّ الخامل" (219-220).
الموازاة تنطبق هنا أيضًا. سواءٌ أكانوا ذكورًا أو إناثًا، فإنّ البالغين غالبًا ما يَصفون تعاملهم مع الأطفال بلغةٍ تستطيع أن تقترح شيئًا أنثويًّا، على نحوٍ تقليديّ، حول الطفولة، شيئًا ذكوريًّا، على نحوٍ تقليديّ، حول البلوغ، وشيئًا جنسيًّا حول تعامل البالغين مع الأطفال. باحثون، مُديرون، كّتابٌ ومعلمون – جميعنا نصبُّ نشاطاتنا الغزيرة في ما نفترض أنه (أو ما ينبغي أن يكون) أجسام الأطفال الغضّة. إننا ننظر إليهم ونتكلّم عن لطافتهم ورغبتهم الخاملة في أن يُنظَر إليهم، عن جمالهم اللطيف عندما يحاولون برغبةٍ عارمة أن يُمتّعوا أولئك الذين ينظرون إليهم. إننا نصفهم بأنّهم فَطِنون بدلًا من عقلانيّين، مُبدعون بدلًا من عمليّين. وفي هذه الأثناء، نتقرّب منهم بحسب قيَمنا. نقول لهم إنّ سعادتهم الحقيقيّة مِن إسعادنا نحن، الخضوع لرغبتنا نحن، فِعل ما نريده نحن. نزرعُ بذور حِكمتنا فيهم. ونغضب أشدّ الغضب عندما يجرؤون على النظر بعيدًا عنا.

3. التشويش المتأصِّل
من الواضح أنّ تصوير الطفولة بوصفها متلقّاةً عبر هذا النوع من النّظر يُعتبر تصويرًا مُشوّشًا. يقول سعيد إنّ المسألة في واقعها تتلخّص عمليًّا فيما إذا كان في الإمكان أن يكون تمثيل أيّ شيء حقيقيًّا، أو إذا كان أيّ تمثيل أو كلّ تمثيل مُجسّدًا في اللغة أوّل الأمرّ، لأنّه تمثيلٌ أساسًا، ثمّ في الثقافة، المؤسسات والمحيط السياسيّ الخاصّ بالجهة التي يتمّ تمثيلها. إذا كان البديل الأخير صحيحًا (كما أعتقد)، فإننا يجب أن نكون جاهزين لأن نقبل حقيقة أنّ التمثيل هو، حُكمًا، متأصّل، متداخل، متجسّد، ومتشابك مع عددٍ كبيرٍ من الأشياء إلى جانب "الحقيقة"، التي هي نفسها تمثيل" (272).
كما سبق واقترحتُ، إذًا، لا يمكن لأيّ تصويرٍ أن يكون موضوعيًّا؛ لعلّ من سخرية القدر أنّ أولئك الذين يدّعون الموضوعيّة أكثر من غيرهم لا بدّ أن يكونوا الأقلّ ثقةً بين غيرهم. "كشخصٍ يحكم على الشرق،" يؤكّد سعيد، "المُستشرق العصريّ لا يقف جانبًا، كما يؤمن ويصرّح، من الموضوعيّة. إنّ انعزاله الإنسانيّ يرزح بثقله مع كلّ التوجّهات، المنظورات، والأنماط التقليديّة للاستشراق الذي أصفه هنا" (104). مهما كانت الادّعاءات التي ندّعيها خلافًا، فإنّ توصيفاتنا الموضوعيّة افتراضًا للطفولة هي أيّ شيءٍ إلا موضوعيّةً، وإنها، على نحوٍ شبيه، تتخلّلها الافتراضات التي تطوّرت على مدار عددٍ من القرون من خلال تاريخٍ من المراقبة والمناقشة البالغة.
إنّ المعضلة هنا هي أننا نستطيع أن ندّعي الموضوعيّة بخصوص مراقباتنا فقط من خلال كوننا غيرَ الذي نراقبه، ولكننا بكوْننا آخر، ليس لدينا الخيار بل تفسير ما نراقبه من حيث أنفسنا وافتراضاتنا ذات التصوّر المسبق. وبذلك، يكون تفسير سلوك الأطفال، سواءٌ في الأدب أو علم النفس، ملوّثًا، دائمًا، بافتراضات سابقة التصوّر لدى البالغين عن الأطفال. إنّ هذه الافتراضات تنبع من الخطاب المتعلّق بتطوّر الأطفال عبر القرون بهدف دعم برامج تابعة لعدّة أنظمةٍ فلسفيّة وسياسيّة؛ إنها الآن مفهومةٌ ضمنًا، بكلّ بساطةً، بوصفها حقيقةً مُطبَقة، حتّى من قبَل أولئك الذين لا يدعمون هذه الأنظمة بعد.
تُعتبر عادة بياجيه السيئة السمعة – إجراء تفسير دائم لتجاربه في تطوّر الطفولة بطريقة قلّلت من تقدير قدرات المُشاركين في تجاربه – مثالًا ممتازًا.4 قد يكون أو لا يكون ذوّت مخاوفَ سياسيّة خاصّة أو تحيّزات فلسفيّة معيّنة قادت لوك إلى التأكيد بأنّ التفكير الطفوليّ كان مختلفًا وأقلّ من التفكير البالغ؛ لقد افترض بكلّ بساطة أنّه كان كذلك، ثمّ توصّل إلى نتائجه اعتمادًا على افتراضات موجودة فعلًا في ثقافته. استلزم الأمر تجارب لاحقة بافتراضات ثقافيّة مختلفة لكشف مدى الاختلاف البسيط في صيَغ التجارب المتشابهة، الأمر الذي يكشف القدرات العالية جدًّا للأطفال.

4. البلوغ بصفته مركزًا متأصِّلًا
لطالما اعتُبر الاستشراق – ولا يزال، غالبًا – دراسةً يُجريها الأوروبيّون؛ إنّ تصويره للشرق، بالتالي، يعود بفائدةٍ على المصالح الأوروبيّة. كما أنّ الاستشراق يُعتبر، أساسًا، لفائدة الأوروبيّين، فإنّ عِلم نفس الأطفال وأدب الأطفال، يَعود بالفائدة على البالغين. يمكن أن ندّعي دراسة أدب الأطفال لإفادة الأطفال، ولكننا عمليًّا نفعل ذلك لأننا نحنُ من يريد أن يعرف كيف نتعامل مع الأطفال؛ وبحسب اقتراح روز، نحن نكتب للأطفال لنوفّر لهم القيَم والصوَر التي تعبّر عنهم والتي نوافق عليها نحن أو نشعر بالارتياح تجاهها. عمومًا، نحنُ نُشجّع في الأطفال تلك القيَم والتصرفات التي تجعلهم أسهَل للتعامل من قبَلنا: أكثر خمولًا، أكثر انصياعًا، أكثر طاعةً – وبالتالي، أكثر بحاجةٍ إلى إرشادنا وأكثر رغبةً في قَبول الحاجة إلى ذلك. ليس من قبيل المصادفة أنّ الغالبية العظمى من قصَص الأطفال تحمل الرسالة نفسها، رغم نفور أحدنا من القيود التي يشعر بها حوله، يبقى البيت أفضل مكان وأكثر مكان آمِن للمرء.

5. إسكاتُ السّكوتِ المتأصّل
في عمليّة التحدّث عن الآخر، منحه صوتًا، فإننا نُسكته. طالما أننا نستمرّ في التحدّث عن الآخر، فإننا لن نسمع ما يقوله عن نفسه – وبالفعل، قد يكون ذلك بالضبط السبب في أننا نتحدّث أساسًا. يقول سعيد، "هناك ثقافات وأمم تقع في الشرق، وحياتها، تواريخها وعاداتها تنطوي على واقع جَلِف أعظم بشكلٍ واضحٍ من أيّ شيء يمكن أن يُقال عنها في الغرب" (5). على نحوٍ مشابه، إنّ خطابنا بشأن الطفولة، كثيرًا ما يحلّ محلّ، بل ويتفادى، تصوّرنا الحقيقيّ عن الواقع الطبيعيّ للطفولة.
على سبيل المثال: نحنُ نُنتج أدب أطفالٍ يتغاضى بالكامل، تقريبًا، عن موضوع الجنسانيّة، وذلك حتّى نتيح لأنفسنا، كما نفترض، الاعتقاد بأنّ الأطفال بريئون بقدر ما نظنّ أنهم بريئون – أنّ حياتهم خالية من الجنسانيّة. ولكن، بفعلنا ذلك، فإننا نجعل من الصعب على الأطفال التحدّث إلينا عن مخاوفهم الجنسيّة: صمتُنا حول الموضوع يؤكّد، بوضوحٍ، أننا لا نرغب أن نسمع عنه، أننا نعتقد بأنّ الأطفال الذين لديهم مخاوف من هذا النوع يُعتبرون غير طبيعيّين. وإذا أقنعنا أنفسنا بأنهم غير طبيعيّين فعلًا، فإننا نصوّر أنفسنا بأننا عاجزين عن سماع ما يقوله الأطفال حتّى إذا حاولوا التحدّث عن مواضيع بهذا الشأن.
النتيجة النهائيّة لإسكات الآخر هي أننا نجعل من الأمر غير مفهوم بالنسبة لنا نحن. حسب سعيد، العلاقة بين المُستشرِق والشرق كانت علاقة تفسيريّة في جوهرها: واقفًا أمام حضارة أو صرح ثقافيّ بعيد بالكاد يُعتبر ذكيًّا، قلّصَ الباحث المُستشرق الغُموض من خلال الترجمة، التصوير الُمتعاطف، الفهم الداخلي للشيءِ الذي يصعب الوصول إليه. مع ذلك، بقي المُستشرق خارج الشرق، الذي مهما صُوِّر على أنه ذكيّ، فإنّه يبقي بعيدًا عن الغرب. إنّ هذه المسافة الثقافيّة، المؤقّتة والجغرافيّة تمّ التعبير عنها من خلال مجازات العُمق، السريّة والوعد الجنسيّ: عبارات مثل "حُجب عروسٍ شرقيّة" أو "الشرق الغامض" انتقلت إلى اللغة العامّة (222).
بكلمات أخرى، كلما تحدّثنا عمّا نفهمه، فهمنا أننا لا نستطيع فهمه. كلّما ادّعينا أننا نعرف عن الطفولة، وجدنا أنفسنا مُصرّين على آخرويّتها الغامضة – صمتها إزاء نفسها – وكلّما شعرنا بالحاجة إلى المراقبة أكثر، فسّرنا أكثر وأكثر: أن نقول أكثر، وبالتالي، أن نخلق صمتًا أكبر لأنفسنا نقلق بشأنه ونتحدّث بشأنه. إنّ مراقبة البالغين للطفولة بوصفها آخرَ لا يراقب نفسه محكومةٌ دائمًا بفشل الفهم، وبالتالي، فإنها محكومةٌ باستمرار نسخ نفسها للأبد – أو على الأقلّ، حتّى تتوقّف مفترضةً أنّ موضوع مراقبتها هو آخرٌ فعلًا. ولكن طالما أنّ دراسة الطفولة تفترض ذلك، فإنّها تبقى ضروريّة (بل، لعلّي أقول، مُجزية؟) لعمل البالغين.

6. الخطر المتأصِّل
إنّ رغبتنا وفشلنا المتواصل في فهم الآخر تؤكّد شيئًا آخر كذلك – جاذبيّتها التناقضيّة وخطرها علينا. إنّ التناقض يتعلّق بشكلٍ واضحٍ بـ"الأنثويّة" – إنها جوهر خطابنا التقليديّ حول النساء. يتحدث سعيد عن "موتيف الشرق بوصفه خطرًا تلميحيًّا" (57). لأنّ الأوروبيّين يجدون أنفسهم منجذبين إلى "تجاوزات" الشرقيّين لدرجة أنهم يعملون على تعييبها؛ فإنّهم يجب أن يحاولوا أن يجعلوا الشرقيّين أكثر مثلهم حتّى لا يتمكّن الشرقيّون من جعل الأوربيّين مثلهم، الأمر الذي من شأنه إضعاف الأوروبيّين.
إنّ الموازاة في توجّهاتنا نحو الطفولة واضحةٌ للغاية. إنّ ما نختار فهمه على أنه لا-عقلانيّة، لا-قانونيّة أو لا-مبالاة طفوليّة يُعتبر رخوًا على نحوٍ جذّاب، إغواءٌ لأن نكون أقلّ مسؤوليّة، أقلّ نضجًا، أقلّ بلوغًا. إذا كانت للبالغين رغبةٌ سريّة في التصرّف كالأطفال، وإذا كانت تلك الرغبة الخطيرة تنشأ من خلال تصرّفات طفوليّة يقوم بها أطفال، فإنّنا يجب أن نحمي أنفسنا وعالمنا عبر جعل الأطفال أقلية طفوليّة. إنّ هيمنتنا على الأطفال تنبع من طيبَتنا وطيبتهم.

نحنُ نُنتج أدب أطفالٍ يتغاضى بالكامل، تقريبًا، عن موضوع الجنسانيّة، وذلك حتّى نتيح لأنفسنا، كما نفترض، الاعتقاد بأنّ الأطفال بريئون بقدر ما نظنّ أنهم بريئون – أنّ حياتهم خالية من الجنسانيّة. ولكن، بفعلنا ذلك، فإننا نجعل من الصعب على الأطفال التحدّث إلينا عن مخاوفهم الجنسيّة

7. استقرار الآخر
لقد رأينا للتوّ كيف أنّ مجرّد حقيقةِ تحدّثنا عمّا نعتبره مجموعةً صامتة، يؤكّد على الصمت المستمرّ لهذه المجموعة – تأكيدٌ تامّ بأنّ هذه المجموعة لطالما كانت، ولطالما ستكون آخرَ غيرَ ذواتنا المتحدّثة. إنّ إحدى أهمّ خصائص الاستشراق هي إصراره عبر القرون على أنّ هناك ما يُدعى "عقلٌ شرقيّ"، مجموعة خصائص أساسيّة التي تتجاوز ليس الأفراد وحدهم فحسب، وإنما الميزات الطفيفة كتلك التي بين العرب والآسيويّين، الهندوسيّة والإسلام، المصريّين والأتراك، وأنّ العقل الشرقيّ لا يتغيّر بشكلٍ ملموس مع مرور الوقت. يؤكّد سعيد بأنّ "في حين أنّه لم تعد هنالك إمكانية لكتابة خطابات مدروسة (أو حتى شعبية) عن "العقل الزنجي" أو "الشخصيّة اليهوديّة"، فإنّ في الإمكان، وبشكلٍ مثاليّ، المشاركة في بحثٍ من قبيل "العقل الإسلاميّ" أو "الشخصيّة العربيّة"" (262)؛ فعلًا، إحدى الرسائل التي ظهرت في جريدة محليّة كنت أقرأها وأنا أعمل على هذا البحث القصير، تقول إنّ "العرب لا يشاركوننا تفكيرنا العصريّ... إنّ سعيَ الإنسان المعاصر للتقدّم ورفاهية كلّ الناس غير موجود في الأنظمة الاجتماعيّة والحاكمة عند العرب" (Winnipeg Free Press، 26 أيّار، 1991)؛ أشكّ أنّ الجريدة كانت ستنشر تلك الرسالة إذا كانت استعملت كلمة "إسرائيلي" بدلًا من "عربيّ".
"الطفولة" مستقرّةٌ بشكلٍ متساوٍ في أعمال علماء نفس الأطفال، كتّاب قصص الأطفال الخياليّة، وأخصائيّي أدب الأطفال. تمامًا مثلما أنّ "الباحث الذي اتّخذ نوعًا يحمل الدمغة "استشراقيّ" للأمر نفسه الذي دعاه إلى اعتبار أيّ فرد يقابله استشراقيًّا" (230). افترض بياجيه أنّ العدد البسيط من الأطفال السويسريّين الذين درسهم يمكن أن يمثّلوا بشكلٍ دقيقٍ التطوّر الإدراكيّ المتأصِّل لدى جميع الأطفال في كلّ الأزمنة والثقافات. إنّ أدب الأطفال المعاصر مليءٌ بصوَر تجارب الطفولة التي تتلاءم مع رؤية وُوردزوُورث حول البراءة الطفوليّة المثاليّة أكثر منها مع الواقع المعاصر لحياة الأطفال، ودوريّات أدب الأطفال المعاصرة مليئة بنفس التعميمات المتعلّقة بمدى الانتباه المحدود (بخلاف الحال عند معظم البالغين). وإننا نفترض، بكلّ سرورٍ، أنّ الأمر لا بدّ وأن يكون أجزاء متخيّلة وردَت في أدب القرون الوسطى أو القرن الثامن عشر، بدلًا من كونها أجزاء من كتاباتٍ دينيّة أو أخلاقيّة – وكأن أطفال القرون الوسطى أو القرن التاسع عشر كانوا مختلفين على نحوٍ متأصِّلٍ عن آبائهم، وعلى نحوٍ متأصِّل هُم متآلفون مع أطفال الليبراليّين اللا-أدريّين المدنيّين المعاصرين.
إنّ وظيفة التأثير الكبير لهذه "الحقائق الأزليّة"، على نحوٍ واضح، هي تأكيد فروقاتنا الأزليّة. "إنّ ما يفعله المُستشرق" حسب سعيد "هو أنّه يؤكّد صورة الشرق لقرّائه"؛ إنه لا يحاول ولا يريد هَزّ صورةٍ راسخةٍ بشكلٍ ثابت" (65). لا هذا ولا ذاك، كما يبدو، معظم كتّاب الأطفال ومعظم الخبراء البالغين يفعلون ذلك في مجالات تتعلّق بالطفولة.

8. السُّلطة
ولكن لماذا؟ لماذا يجب علينا أن نؤكّد باستمرار افتراضاتنا المحدودة بهذه الطريقة؟ الإجابة بسيطة: السلطة.
المعرفةُ سلطة، حرفيًّا. عندما نتحدّث عن إتقان موضوع ما، فإننا لا نسمح لأنفسنا في العادة أن نرى الحقيقة الحرفيّة للمجاز: إنّ قيامنا بذلك يهدف، حقًّا، إلى إخضاع الموضوع لسُلطتنا. أن تعرف شيئًا يعني أن تكون منفصلًا عنه، فوقه، موضوعيًّا بشأنه، وبالتالي في موقع ترى (أو، ببساطة، تخترع) من خلاله الحقيقة حوله – أن تكون قادرًا، بكلمات أخرى، على الفعل وكأنّ ما "يعرفه" المرءُ في حقيقة الحال يكون حقيقيًّا. وعليه، فإنّ "معرفة" أنّ الشرقيّين يختلفون عن، وبالتالي هُم أدنى قيمةً من أنفسهم، أتاح للأوروبيّين أن يُبرّروا جهودهم في الهيمنة على الشرق – تمامًا كما أنّ أمريكا الشماليّة تواصل استعمال معرفتها بـ"العقل العربيّ" لتُبرّر بذلك جهودها في الهيمنة على العراق.
على نحوٍ مشابه، نستعمل نحنُ البالغون معرفتَنا في "الطفولة" لنهيمن على الأطفال. مُدرّسو أطفالي برّروا عدّة مرّاتٍ لجوءَهم إلى عقوبات قاسية جدًّا أو التلاعب بضغط المجموعة على الفرد ليقولوا لي إنّ الأطفال في هذه السنّ أو المرحلة لا يمكن أن يمتلكوا بأيّ حال من الأحوال وجهات نظر أخلاقيّة ثابتة، وبالتالي فإنّهم لا يشعرون بإساءةٍ فعليًّا. إنّ ما يُمكن أن يكون مؤلمًا لنا يُعتبر مَقبولًا لهم، ويُتيح لنا أن نتصرّف تجاههم كما لو أننا نتصرّف تجاه بعضنا البعض.
عمومًا، يميل أدب الأطفال لأن يكون صيغةً أكثر إتقانًا من الصيغة نفسها للسُّلطة التي يمارسُها البالغون. تحدّثت سابقًا عن صمت أدب الأطفال حيال موضوع الجنسانيّة؛ فعلًا، إننا تقريبًا دائمًا ما نصف الطفولة للأطفال على رجاء أن يقل الأطفال، بدون وعيٍ أو غير ذلك، صيغًتنا نحن عن حياتهم. بصيغةٍ شهيرة، تقترح جاكلين روز: "إذا كانت قصص الأطفال ترسم صورةً للطفل داخل الكتاب، فإنّها تفعل ذلك من أجل تأمين الطفل الذي هو خارج الكتاب، الطفل الذي لا يكون طوعًا في متناول اليد"(2). بكلمات أخرى، نحنُ نُظهر للأطفال ما "نعرفه" نحن عن الطفولة على رجاء أن يأخذوا كلامنا على محمل الجدّ وأن يكونوا مثل شخصيات الأطفال في القصص التي نخترعها – وبالتالي، أقلّ تهديدًا لنا.
الأمرُ يتعلّق، أساسًا، بتزويد الأطفال بقِصص تطلب منهم أن يروا أنفسهم فيها، وبالتالي، أن يقبلوا العِبَر الأخلاقيّة التي تتوصّل إليها شخصيّات الأطفال، أو – كما نقول – الطفل "يتماهى معهم". في الروايات الأكثر نضوجًا، كما يُبيّن روز، نزوّد القرّاء الصِّغار بتوصيفٍ "واقعيّ" للناس والأحداث التي تُصرّ على واقعيّة طريقة واحدة للنظر إلى العالم وإلى الذات – طريقتنا نحن.

9. الهيْمنة
يقول سعيد، "الشرق خضع للاستشراق ليس فقط لأنّه اكتُشِفَ على أنه "شرق" بكلّ تلك الطرق التي تُعتبر عامّة من قبَل أوروبيّي القرن التاسع عشر، ولكن أيضًا لأنّه يُمكن أن يكون – أي، ينبغي أن يكون – شرقيًّا كنتيجة" (5-6). الأطفال يفعلون الشيء نفسه لأفكارنا حول معنى الطفوليّ، ويُظهرون لنا هذا السّلوك الطفوليّ إذْ نُوضّح أننا نريد أن نراه، ببساطة لأنّهم نادرًا ما يملكون السُّلطة لفعل أيّ شيء آخر. إنّ ممارسة السُّلطة على الضعيف بهذه الطريقة، من شأنه أن يُعتبر تنمّرًا. إذا كان الأطفال ضِعافًا بما يكفي ليخضعوا كليًّا لسُلطتنا عليهم، فإنّهم ضعافٌ بما يكفي إذًا لكي نُمارس عليهم سُلطتنا التي لا يقتربُ منها الشكّ وجعلهم يتبعوننا بإيمانٍ أعمى مَفادُه أنّ ذلك يصبُّ في مصلحتهم، الأمر الذي يُلمّح إلى شيءٍ من الضعف الأخلاقيّ فينا نحن.

10. توصيف يؤكّد نفسه
حقيقةُ أنّ الشرقيّين يمكن أن يكونوا قد "جُعِلوا شرقيّين" – تمّ التلاعب بهم ليتصرّفوا وكأنهم فعليًّا ما يراه الخارجيّون فيهم - تقترحُ مدى كون خطاب الآخر نبوءةً تُحقّق ذاتها. كما يقول سعيد، "يمكن أن نتوقّع أنّ الطرق التي يتم من خلالها نُصح المرء بأنّ الأسد الشّرس الذي تتم محاولة السيطرة عليه سيزيد من شراستها حتمًا، أَجبره على أن يكون شَرسًا لأنّ ذلك يُعبر عن طبيعته، وهذا يكون ما نعرفه جوهريًّا أو يمكن أن نعرفه فقط عن الأسد" (94). إذا افترضنا أنّ للأطفال مساحات تركيز قصيرة، الأمر الذي لا يسمح لهم بمحاولة قراءة كتبٍ طويلة، فإنّهم في حقيقة الأمر لا يقرأون كُتبًا طويلة. سوف يَبدون لنا أنّهم عاجزون عن قراءة الكتب الطويلة – وسوف نرى أولئك الذين ينجحون في نقل تأثيرنا وقراءة كتب طويلة بوصفها أمرًا غير قياسيّ، وعلى نحوٍ متناقض، بأنّهم شواذّ لأنّهم يشبهوننا أكثر. قد يكون هذا هو السبب الذي يقود مجموعة كبيرة من الأطفال اليائسين إلى ما يبدو وكأنّهم متلائمون ضمن فئات بياجيه المتعلّقة بالسّلوك الطفوليّ، وأنّ مجموعة كبيرةً من الأطفال (الحجم نفسه) يبدو وكأنّهم يحبّون أنواع الكتب التي يدّعي الخبراء البالغون أنّها نوع الكتب التي تُعتبر مناسبة للأطفال. فعلًا، في سوق كتب الأطفال الحاليّ، الخاضع شيئًا فشيئًا لمتطلّبات تسويق بضعة سلاسل متاجر كتب ضخمة، لن نجد أيّ نوع كتب أخرى تُنشّر، وبالتالي، فإنّ عددًا قليلًا من الأطفال لديهم طرق معيّنة لاكتشاف ما إذا كانوا يحبّون أيّ نوع آخر أم لا. سواء أكان الأطفال الحقيقيّون يشتركون في هذه التوجّهات أم لا، فإننا لم نزوّد أنفسنا بأيّة طريقة لتلقّي تصرّفاتهم بوصفها ممثّلةً عن شيءٍ آخر.

11. النبوءة التي تحقق ذاتها
بالإضافة إلى ذلك، الأطفال الحقيقيّون كثيرًا ما يتصرّفون كما نعتقد أنّ عليهم أن يتصرّفوا. إنّ خطاب الآخر لا ينجح غالبًا في استيعاب الآخر لتصوّراته وآخرويّته. بتعاملنا مع الأطفال كأطفال، فإننا قد نكون حكمنا عليهم بالإدانة والعجز عن التعبير عن ضعفهم.

12. الآخر بوصفه معاكسًا
قبل قرنٍ من الزمن تقريبًا، لخّص المسؤول الكولونياليّ البريطانيّ، لورد كرومر، معرفته بالشّرق بقوله، "أنا أرضي نفسي بملاحظة حقيقة أنّه بطريقةٍ أو بأخرى، الشرق يتصرّف، يحكي، ويفكّر بطريقةٍ معاكسةٍ تمامًا للأوروبيّين" (سعيد 39). بكلمات أخرى: أنا أعرّف نفسي كأوروبيّ من خلال رؤيتي للشرقيّ بوصفه كلّ شيءٍ يناقضني. أحد الأهداف الرئيسيّة لخطاب الآخر هو دائمًا هذا النوع من التعريف الذاتيّ: إننا نوصّف الآخر بكونه الآخر لنعرّف أنفسنا. "الشرقيّ لاعقلانيّ، لئيم (ساقط)، طفوليّ، مختلف،" حسب سعيد؛ "بالتالي، يكون الأوروبيّ عقلانيًّا، كريمًا، ناضجًا، و"طبيعيًّا"" (40). على نحوٍ مشابه، نحن البالغين نرى أنفسنا عقلانيّين، خيِّرين، ناضجين، وطبيعيّين تمامًا لأننا غير عقلانيّين، غير خيِّرين (ساقطين)، طفوليّين، أطفالًا مختلفين نقارن أنفسنا بهم. إننا بحاجة إلى أن نكون طفوليّين لكي نفهم ما معنى البلوغ – مضادّ الطفوليّ.

يقترح سعيد نَمَطيْن متناقضيْن يعتمدهما الأوروبيّون نحو الشرقيّين. أحدهما هو السيرورة التطوّريّة لتعليمهم لكي يصبحوا مثل الأوروبيّين؛ والثاني هو السيرورة المؤكّدة لنفسها بتعليمهم ليصبحوا ما تصوّره الأوروبيّون دائمًا عنهم – تمثيل نموذجيّ لـ"العقل الشرقيّ". التناقض نفسه مركزيّ جدًّا في الخطاب عن الأطفال وأدب الأطفال بشكلٍ يمكن أن يكون بمثابة ميزتهم المُعرِّفة.

13. الآخر بوصفه متناقضًا على نحوٍ متأصِّل
"لعدّة أسبابٍ واضحة، لطالما كان الشرق في موقع الخارجيّ الذي يُعتبر شريكًا ضعيفًا للغرب" (سعيد 208). هذه العبارة تُلمّح إلى تناقض متأصِّل في خطاب الآخر كما وصفتُه حتّى الآن؛ خِطابٌ بالغ الأهميّة في مناقشات أدب الأطفال.
من جهةٍ، كما لاحظنا، الشرقيّون نقيض الأوروبيّين، وذلك بطُرق أساسيّةٍ وثابتة جدًّا بحيث أنّ العقل الشرقيّ يتجاوز الاختلافات المتعلّقة بالمكان والزمان والعينيّيْن، ولطالما كانت تلك الطرق تُعرّف التفوّق الأوروبيّ. لو لم تكن هناك فإنها تعني "ذاك المناقض الأبديّ الثابت لما هو إنسان".
من جهةٍ أخرى، وكما لاحظنا، أيضًا، فإنّ قسمًا من الإنسانيّة المتفوّقة لدى الأوروبيّ تنطوي على إحساسٍ أكثر تطوّرًا بالمسؤوليّة تجاه الآخرين الأقلّ تفوّقًا؛ القويّ يجب أن يستعمر الضعيف ليساعده على أن يصبح أقوى، وبالتالي، وبكلّ ما يحمله المفهوم من معنى، فإنّ "شرقيّ" تعني، "كائنٌ أقلّ تطوّرًا مع إمكانيّة جعله إنسانًا".
لا-إنسان في سيرورة تحوّله إلى كائن أقرب إلى الإنسان. ليست هناك من طريقة لحلّ هذا التناقض: الشرقيّون لا يمكن ان يكونوا مناقضين ثابتين وفي سيرورةِ تغيير لكيّ يصبحوا نحن. التناقض نفسه يظهر في خطابنا عن الأطفال وأدب الأطفال، وليست هناك طريقةٌ لحلّ هذا التناقض أيضًا. بدلًا من ذلك، نميل إلى التقلّب، حتّى ضمن النصوص الفرديّة، بين فكرتيْن متناقضتيْن حول الأطفال وأسباب كتابتنا لهم أو عنهم.
لقد عرفتُ عن هذا التناقض أثناء قراءتي كتاب A Horn Book الذي ظهر لدى تحضيري لهذا العمل (أيّار/حزيران 1991)، للبحث عن دليلٍ حول الوضع الرّاهن للفرضيّات التقليديّة المتعلّقة بالطفولة في الدوريّة التي من المرجّح أن تمثّله. من جهة، الكثير من الكتّاب والمُعلنين قالوا لي إنّ "قوّة مخيّلات الأطفال تكمن في أنهم يستطيعون فهم ما يشعر به الأطفال الآخرون" (261) وإنّ "مخيّلاتهم تُصوّر لهم أشياء متخيّلة سرعان ما تصبح واقعيّة على نحوٍ سحريّ" (275). ولكن، من جهة أخرى، الأطفال الذين يقرأون كتابًا جديدًا واحدًا "سيبدأون بالنظر إلى محيطهم من منظورٍ جديد" (داخل، أمام، تغطية) وكتابًا آخر "يُشجّع الأطفال على النظر إلى ما بعد وإلى ما داخله" (264). بكلمات أخرى، الأطفال في جوهرهم وفي أصلهم يحملون مخيّلة خصبة، وعلينا بالتالي أن نوفّر لهم كتبًا تُعلّمهم كيف يمارسون خيالهم.
بعبارة موجِزة لهذا التناقض، يتحدّث كاتب Horn Book عن كتاب يصفُ كيف أنّ بعض الأطفال يجدون استعمالًا مُبتكَرًا لموهبة غير عمليّة: "الرسالة من وراء احتفال اللعب هذا هي رسالة تفاؤليّة. تقترح الرسالة أنّ الأطفال يأخذون من محيطهم، مهما كان هذا المحيط غير ثابت أو غير ملائم، المادّة التي يصنعون منها خيالهم" (368). هل هذا اقتراح من حيث التوصيف الخياليّ، أو من حيث كونه توصية؟ يبدو أنّه كِلا الأمريْن معًا؛ الأطفال في حاجة إلى التعلّم من كتب يكتبها بالغون حول كيفيّة التصرّف كأطفال.

14.الأصل مقابل الانحدار
كيف نعرفُ نحنُ البالغون كيف يتصرّف الأطفال أفضل مما يعرف الأطفال ذلك؟ يعطينا سعيد الإجابة عن هذا السؤال، أيضًا، من خلال وصفه كيف يتوجّه الشرقيّون إلى موضوعهم: المعرفة الملائمة للشرق تُعالج من خلال دراسة النصوص الكلاسيكيّة، وفقط بعض ذلك تُطبَّق هذه النصوص على الشرق العصريّ. عبر مواجهة الضعف الواضح وعدم الكفاءة السياسيّ للشرق العصريّ، وجد المُستشرق الأوروبيّ أنّ من واجبه إنقاذ بعض الأجزاء من شرقٍ ضائع، ماضٍ كلاسيكيّ عظيم من أجل "تسهيل تحسينات" في الشرق المعاصر (79).
إنّ "النصوص الكلاسيكيّة" الطفوليّة الموازية تقع في فئتيْن. أولًا، هناك توصيفات مكتوبة لأطفال في جيلٍ مبكر، ليس فقط كتب أطفال "كلاسيكيّة" ولكن، أيضًا، نصوص كلاسيكيّة لعِلم نفس الأطفال – بياجيه، فيغوتسكي، كولبيرغ. ثانيًا، هناك رؤيتنا الشخصيّة لطفولتنا: ما نُعرّفه بأنّه ذكريات طفوليّة. إنّ الاعتقاد بأنّ هذه النصوص تصف طفولةً مثاليّة - طفولة كما ينبغي أن تكون - والحصول على اختلاف بين الطفولة المثاليّة والتصرّف الواقعيّ للأطفال الذين نعرفهم، نعمل في الأدب والحياة لجعل الأطفال أقرب ما يكون إلى المثاليّ – إرجاعهم إلى "طفولةٍ" يبدو أنّهم أضاعوها.
ولكن هل اختبرنا حقًّا طفولةً ندّعي أننا نتذكرها؟ أو هل صرنا نعتقد أننا نفعل ذلك لأننا – نحن أنفسنا – في طفولتنا وبلوغنا قرأنا، أيضًا، كُتبًا كتبها بالغون – وتفاعلنا معهم – كانوا قد عملوا على فرض رؤيتهم حول الطفولة علينا؟ ربما ما ندعوه "طفولةً" لطالما كان بناءً تخيّليًّا للعقل البالغ، لطالما كان تحرّك ليس باتجاه الخارج ليُعمينا عن تصوّراتنا الفعليّة للأطفال المعاصرين، ولكن باتجاه الداخل، إلى ماضينا، ليُعمينا عن ذكرياتنا حول تجاربنا الماضية الحقيقيّة. ربما لم تكن هناك يومًا طفولةٌ ببراءة، وخيال، وعفويّة يريد البالغون أن يتخيّلوها. ربما لطالما كان الأطفال أقرب إلى البالغين من البالغين أنفسهم، بشكلٍ يتعذّر على البالغين رؤيته.

15. الاستداريّة
الأطفال المقموعون تحت مفاهيم البالغين عن الطفولة يتحوّلون إلى بالغين يقمعون أطفالًا آخرين. يقترح سعيد استداريّة مشابهة في فِكر الأوروبيّين عن الشرقيّين. بما أنّ الشرق القديم الذي اخترعه باحثون أوروبيّون يُعتبر ماضي أوروبا والشرق المعاصر، فإنّ الأوروبيّين يستطيعون الافتراض بأنّهم كانوا الوَرَثة الحقيقيّين لذلك الشرق بماضيه المُتخيَّل. على سبيل المثال، افترض لُغَويّون أوروبيّون وجود لغة هندو-أوروبيّة من اختراعهم تتضمن كلًّا من اللغات الشرقيّة والأوروبيّة المعاصرة، ثمّ ادّعوا أنّ لغاتهم الأوروبيّة كانت بمثابة التطوّر الطبيعيّ للغة الهندو-أوروبيّة، بينما اللغات الشرقيّة ليست سوى نُسَخًا أقلّ أهميّة منها. إنّ هذه القناعة بصِلَتهم الخاصّة بطهارةٍ قديمة لا يسمح للأوروبيّين أن يُشيروا، فقط، إلى الطبيعة الدونيّة للشرق المعاصر، ولكن، أيضًا، العمل على استبداله بالقيَم الكلاسيكيّة الحقيقيّة التي يُمثّلونها هُم بأنفسهم بوصفها النُسَخة المُتطوِّرة. على نحوٍ مشابه، نفترضُ نحنُ البالغون طفولتَنا المُتخيَّلة بأنّها ما يجب علينا أن نعمل من أجل إقناع الأطفال المعاصرين بذلك.
ولكن في واقع الأمر، الشرقيّون لا يتحوّلون إلى أوروبيّين يقمعون جيلًا جديدًا من الشرقيّين. إنّ ما يُميّز تفكيرنا حول الطفولة عن خطابات أخرى بخصوص الآخرويّة هو أنّه في هذه الحال، الآخر لا يتحوّل حرفيًّا إلى أنفسنا. إنّ كلّ أولئك الذين يمرّون من الطفولة إلى البلوغ، هم بالغون يميلون إلى التفكير بالأطفال بوصفهم آخرَهم. حتّى أولئك البالغين الذين صادف أنّهم نسويّون يميلون إلى التحدث والتفكير عن الأطفال من الجنسين بشكلٍ مجازيّ مفعم بالتصوّرات التقليديّة المتعلّقة بالضعف والخمول الأنثويَّيْن؛ وأولئك الأعضاء الذين قمَعوا أقليّات تُعتبر أكثر عِنادًا بشأن حاجتهم الخاصّة للحريّة من الاضطهاد، يُعتبَرون في الغالب من ضمن أولئك الذين هُم أكثر صخبًا حول التحكّم بصورة العالم المُقدَّم في أدب الأطفال، محاولين بذلك أن يضمنوا قيام الأطفال بتبنّي توجّهاتهم الصحيحة. لعلّ السخرية في ذلك تكمن في أنّ ذلك يُعتبر واضحًا بقدر ما هو مُحبِط: إذا كان تفكيرنا حول الأطفال فِعلًا كولونياليًّا، فإنّنا في الحقيقة نستعمرُ أنفسَنا بأنفسِنا – وإن كان ذلك قادمًا من الآخر.

16. الثبات مقابل السيرورة
يقترح سعيد نَمَطيْن متناقضيْن يعتمدهما الأوروبيّون نحو الشرقيّين. أحدهما هو السيرورة التطوّريّة لتعليمهم لكي يصبحوا مثل الأوروبيّين؛ والثاني هو السيرورة المؤكّدة لنفسها بتعليمهم ليصبحوا ما تصوّره الأوروبيّون دائمًا عنهم – تمثيل نموذجيّ لـ"العقل الشرقيّ". التناقض نفسه مركزيّ جدًّا في الخطاب عن الأطفال وأدب الأطفال بشكلٍ يمكن أن يكون بمثابة ميزتهم المُعرِّفة.
من جهةٍ أخرى، نعتقدُ أنّ كُتب الأطفال الجيّدة تَصِفُ بدقّة ما يُعتبر غالبًا بأنّه دهشة أو عفويّة أو إبداع الطفولة. بكلمات أخرى، إنها جيّدة لأنّها تُعلّم الأطفال كيف يتصرّفون كأطفال من خلال تزويدهم بصوَر ملائمة للأطفال. ولكن، من جهة أخرى، إنّ مواضيعها أو رسائلها تكون دائمًا، تقريبًا، عن أن يكون الطفل أقلّ تركيزًا على ذاته، وأكثر عقلانيّةً، وما إلى ذلك. بكلمات أخرى، إنها تُعلّم الأطفال كيف يصبحون بالغين. وعليه، فإنّ كُتبًا مثل Anne of Green Gables وَHarriet the Spy تُعتبر كُتبًا جيّدة، أولًا، لأنّها تعرض متعة الطفولة، وثانيًا، لأنّها تنتهي بتأكيد المخاوف الأخلاقيّة لدى البالغين.
إنّ هذا التناقض المتأصّل، الذي يظهر في كلّ كُتب أدب الأطفال تقريبًا، ينبع آليًّا من كونه خطاب الآخر. من زاوية جهوده للاستعمار، فإنّ أدب الأطفال يُعتبر بشكلٍ جوهريّ وحتميّ محاولةً للحفاظ على الأطفال مناقضين لنا نحن وَمحاولةً لجعل الأطفال أقرب إلينا -–مثلنا. قد يكون هذا التناقض بالضبط وفي مضمونه هو الذي يُعتبر الخاصيّة الشاملة المُميِّزة.
حتّى الآن، أقنعتُ نفسي بأنّ عِلم نفس الأطفال وادب الأطفال هُما نشاطان إمبرياليّان؛ أرجو أن أكون قد أقنعتكم بذلك. ومعظمنا، على الأقلّ، يدّعي أنّه يكره الإمبرياليّة. إذًا، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ ماذا نستطيع ان نفعل بشأن ذلك؟
قد نحاول فعل ما يدعوه بيتر هانت نقدًا "طفوليًّا" – التفكير بالأطفال وقراءة أدب الأطفال من وجهة نظر الأطفال. ولكن في الواقع، ليس ذلك إلا تضليلًا – شكلٌ آخر من السماح لأنفسنا بالنظر والتحدث عنهم. القرّاء الذكور لا يستطيعون عمليًّا معرفة ما تشعر به النساء أثناء قراءة توصيفات ذات توجّه ذكريّ حول النساء، أكثر مما يستطيع الكُتّاب الذكور تفادي إنتاج توصيفات عن النساء تكون ذات توجّه ذكريّ في المقام الأوّل؛ وأكثر مما نستطيع نحن البالغون القراءة كأطفال، حتى لو كنا نقدر على ذلك في السابق.5 إنّ أفضل طريقة لفعل ذلك هو القراءة بالطريقة التي نتخيّل بها الأطفال – أي، من حيث تصوّراتنا البالغة. فعلًا، لأنّ محاولاتنا البالغة للنظر والتحدّث للأطفال هو الذي يخلق أدب الأطفال وعِلم نفس الأطفال في المقام الأوّل، فإنّ محاولاتنا لتحليل النصوص في هذه المجالات محكومةٌ بأن تكون جزءًا لا يتجزأ من الخطاب نفسه كما أنها ستدعي الكشف والنقد.
إذًا، مرّة أخرى: ماذا نستطيع أن نفعل؟ يمكننا ببساطة أن نقول إننا لا نستطيع أن نفعل شيئًا. تُعلّمنا النظرية أنّ كلّ الخطاب هو في حقيقة الحال خِطابٌ للآخر. حسب اللغويين، إنّ من المزايا المتأصّلة في اللغة أن تكون أي كلمة قادرة على منح معنًى، فقط في مجال الاختلافات – فقط من حيث كونها شيئًا آخر من كلمات أخرى. إنّ عمليّة تشكيل المعنى بحد ذاتها تتطلّب منا أن نستدعي الآخر (ذاك الذي لا نعنيه) وأن نُهمّشه (نجعله أقلّ أهميّة مما نودّ أن نقوله).
إذا كان خطابُنا حول الطفولة إمبرياليًّا، إذًا، فلا يمكن أن يكون أكثر إمبرياليّةً من أيّ نوعٍ آخر من الحديث الإنسانيّ. ولكنّ تلك الإمبرياليّة الحتميّة يمكن أن تكون أقلّ خطرًا إذا كنا على استعدادٍ للاعتراف بها و – على الأقلّ – أن نحاول أن نكون واعين لها. الاستشراق يمكن أن يقمع عددًا كبيرًا من الناس تحديدًا من خلال إنكار حقيقة كونه قمعيًّا – فعلًا، من خلال الإصرار على أنّه نقيض القمع، على أنّه ينطوي على مصلحة عُليا في مساعدة الآخرين الأقلّ حظًا من ذات المرء.
أن نكون واعين للقمع المحتمل تجاه هدفنا المحتمَل أو حتى تجاه حقائق وتصوّرات خيِّرة عن الطفولة لا يعني أن قمعهم المُحتمَل سيختفي. ولكننا نستطيع على الأقل العمل من أجل ذلك. يمكننا أن نحاول تجاوز التفكير بأطفال فرديّين وكأنهم يمثّلون فعليًّا آخرَ غريبًا. يمكن أن نصبح شَكوكين بالبالغين الذين يدّعون "حبّ الأطفال"، وكأنّهم يشاركونهم صفاتٍ جامِعة، ويمكننا التساؤل حول مدى أهليّة أولئك الذين يدّعون ذلك في أن يصبحوا معلّمين أو أخصائيّين نفسيّين للأطفال. يمكننا أن نحاول النظر إلى القمعيّة المتأصِّلة في استعمالنا مفاهيمَ مثل "البراءة الأبديّة للأطفال" أو مراحل إدراك أو تطوّر أخلاقي. يمكننا أن نحاول العمل وكأنّ أطفال البشريّة يشاركوننا مسائل أكثر من اختلافاتهم المفترَضة عنّا.
عليّ أن أعترف أنني وجدتُ من الصعوبة بمكان أن أتخيّل عالمًا يكون من حقّ الأطفال فيه أن يصوّتوا، أن يخدموا في المحكمة، وأن يتحكّموا بمصيرهم. ولكنني بعد ذلك تذكّرتُ كلّ أولئك الناس في التاريخ الحديث الذي وجدوا من الصعوبة بمكان أن يتخيّلوا عالمًا فيه النساءُ أو العرب قادرون على فعل هذه الأمور نفسها.
إنّ معاملة الأطفال وكأنهم كائنات بشريّة فحسب مثلنا يمكن أن ينطوي على نتائج غير جيّدة وعينيّة لقرّاء هذه الدوريّة: إنّ ذلك يمكن أن يعني نهاية شيءٍ مُعرَّف على نحوٍ مُحدّد بأنه أدب أطفال. يمكن أن يتركنا بلا عمل.
ولكنني لا أعتقد أن ذلك سيحدث. مهما كان صعبًا علينا أن نحاول، لن نهرب أبدًا من الميول الإمبرياليّة الكامنة في قلب الخطاب الإنسانيّ. سيكون هناك دائمًا شخصٌ ما يكتشفُ طريقةً جديدةً للتفكير حول الأطفال أو الكتابة عن الطفولة؛ والطرق الجديدة ستنجح دائمًا على نحوٍ حتميّ في فرض أفكار شخصٍ ما عن الطفولة على البالغين والأطفال. عمليًّا، هذا هو ما أحاول عمله هنا في هذا الموضوع. الفرق الوحيد هو أنني أحاول باجتهادٍ ألّا أسمح لنفسي أن أنسى ذلك.
فعلًا، عدم النسيان هو الأساس في النقد المفيد. أي أننا نحن نقّاد أدب الأطفال لا نزال نحتفظ بوظيفتنا، والوظيفة هي محاولة وقف نسيان أو إهمال أو إنكار الطرق التي يكون فيها أدب الأطفال إمبرياليًّا متأصِّلًا بقدر ما هو الأمر بالنسبة لكلّ تيّارات الخطاب الإنساني. إذا كان كذلك، فإننا نحتاج إلى استكشاف الطريقة. ما هي الادّعاءات التي تطرحها نصوص معيّنة حول الأطفال الذين يقرؤونها؟ كيف تُمثّل الطفولة للأطفال، ولماذا يمكن أن تمثّلها بهذه الطريقة؟ ما هي مصلحة البالغين في ما يخدمه التمثيل؟ ربما، وفوق ذلك كلّه، كيف يعمل؟ كيف يطرح أدب الأطفال ادّعاءاته حول القرّاء الأطفال؟ ما هي الإستراتيجيّات التي تعتمدها النصوص لتشجيع الأطفال على قبول تفسيرات البالغين لتصرّفاهم؟ وهل يمكننا أن ننصح بطرق لمساعدة الأطفال لأن يكونوا أكثر نوعيًا بهذه الإستراتيجيّات بأنفسهم، لحماية أنفسهم من قمع الآخر؟
بلى، وشيءٌ آخر: هل يمكننا دائمًا أن نتذكّر أن نسأل كلّ هذه الأسئلة حول كتابتنا عن الطفولة وأدب الأطفال؟ هل يمكنني، على سبيل المثال، أن أجيز لنفسي الإحراج المُتواضع بأن أدرك فجأة، كما أدركتُ عندما كتبت لأوّل مرّة آخر جملةٍ في الفقرة السابقة، ميولي الإمبرياليّة الخاصّة؟ أمّا الإمبرياليّة فهي موجودة: لمحاربة الكولونياليّة، أنصحُ بتوجّهٍ استعماريٍّ مُساعدٍ وخيِّر تجاه الأطفال.

إنّ كلمات سعيد عن الاستشراق تُرغمنا على مواجهة النتيجة غير المُريحة التي تُفيد بأنّ محاولتنا التحدّث باسم الأطفال وعنهم بهذه الأساليب سوف يؤكّد دائمًا اختلافهم عن، ونظريًّا، نقصهم في إدراك أنفسهم كمفكّرين ومتحدّثين.
ملاحظات

1. يُركّز روز على جهود لإقناع الأطفال بصيَغ البالغين عن الطفولة؛ بمعنًى ما، التفكير الذي أوردُه هنا هو محاولة لتوسيع جزئيّة الفكر الكولونياليّ في كلّ الخطابات المتعلّقة بالطفولة، وأيضًا، لربط ذلك بحركة هامّة أخرى ومقابلة لأدب الأطفال: محاولة جعل الأطفال يرفضون الصيَغ المقبولة عن الطفولة وتحويلهم إلى الصيَغ الصحيحة للبالغين.
2. مناقشة عن "الآخر" بوصفه ذلك الذي يسم لنا أن ننظر إلى أنفسنا بحجمٍ أكبر في عمل لاكان، دريدا وفوكو.
حسب لاكان، "اللاوعي هُو خطاب الآخر" (إكريت 172)؛ يستكشف لاكان كيف أنّ الآخر هو ما يُرّف من نحن، ليس فقط من خلال كونه نقيضًا للذات، ولكن أيضًا من خلال كونه ما ينقصه، وبالتالي، إنه ما يخافه وما يرغبه. الطريقة التي يميل البالغون بحسبها إلى رؤية الأطفال بدورهم بأنهم بريئون بشكلٍ رائع وجاهلون بشكلٍ مُحزن، مُختلفون عن رغبةٍ أو نفور، تكشف أن عمله لنا بوصفنا صورةً من صوَر الآخر اللاكانيّ؛ إننا نجعلهم ضمن لاوعينا الخاصّ، قبل وبعيدًا عن حياتنا الإنسانيّة.
يوفّر جاك دريدا نسخة مختلفة عن فكرة مشابهة: "يدعو الإنسانُ نفسَه إنسانًا فقط من خلال رسم حدودٍ تستثني آخرَهُ من الصورة التكميليّة: نقاء الطبيعة، الحيوانيّة، البدائيّة، الطفولة، الجنون، الألوهيّة" (244). الأطفال، بوصفهم ممثلين مثاليين لهذه القائمة من الصفات، فإنّهم يُعتبرون أنقى وأفضل من البالغين البشر، وبالتالي، وعلى نحوٍ ساخر، أقلّ شأنًا من الإنسان – بل ليسوا بشرًا أبدًا. إنّهم آخر.
العمل المفيد على نحوٍ عينيّ الذي كتبه ميشيل فوكو يُركّز على كيف أنّ الخطاب القمعيّ للآخر أدّى إلى، وتمثّل بتاريخ مؤسّسات مثل السّجن والحَجْر للانضباط مثل علم الاجتماع وعِلم التشخيص النفسي المُكرَّسيْن لجهودٍ لجعل الأشخاص "غير الطبيعيّين" طبيعيّين. ليس من الصعب ملاحظة كيف أنّ تحليل فوكو للمؤسّسات يمكن تطبيقه على المدارس، وكيف أنّ تحليله للانضباط ينطبق على عِلم نفس الأطفال وأدب الأطفال. فعلًا، يقترح فوكو أنّ التقنيات التي تعمل على تغيير الناس من أفراد مهتمّين بأنفسهم وغير طبيعيّين إلى أشخاص مِطواعين نموذجيّين ينبع بدايةً في المدارس قبل أن يتحوّلوا إلى مستشفيات، الجيش والحبس (138). إنّ أفكارنا عن الأطفال يمكن أن تكون الأساس لأفكارنا عن المجرمين والمختلّين.
3. يُنظر، على سبيل المثال، Jon Berger’s Ways of Seeing. في Vision and Painting حيث يوفّر نورمان برايسون تحليلًا مُفصَّلًا حول "منطق النظرة".
4. مجموعةٌ منوّعةٌ من الانتقادات النفسيّة لبياجيه ونظريّات تطوّريّة أخرى يمكن العثور عليها في كتُب من تأليف تشارلز ج. برانيرد، جان-كلاد بريف، ليندا س. سيغل وتشارلز ج. برانيرد، وسوزان شوغرمان. يمكن العثور على مزيد من النقد في أعمال روبرت كولز، كارول غيليغان، وغرايث ماثيوز.
5. وكما سبقت الإشارة، "ذكرياتنا" المفترضة عن الطفولة يمكن ألّا تكون، حقيقةً، ذكريات حقيقيّة أبدًا.

المصادر

Berger, John. Ways of Seeing. London: BBC, and Harmondsworth: Penguin, 1972.

Brainerd, Charles S., ed. Recent Advances in Cognitive Developmental Research. New York: Springer-Verlag, 1983.

Brief, Jean-Claude. Beyond Piaget: A Philosophical Psychology. New York: Teachers College, 1983.

Bryson, Norman. Vision and Painting: The Logic of the Gaze. New Haven: Yale UP, 1983.

Derrida, Jacques. Of Grammatology. Trans. Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore, Johns Hopkins UP, 1976.

Foucault, Michel. Discipline and Punish: The Birth of the Prison. Trans. Alan Sheridan. New York: Vintage, 1979·

Gilligan, Carol. In a Different Voice: Psychological Theories and Women's Development. Cambridge: Harvard UP, 1982.

Hunt, Peter. Criticism, Theory, and Children's Literature. Oxford, England, and Cambridge, MA: Basil Blackwell, 1991.

Lacan, Jacques. Ecrits. Trans. Alan Sheridan. New York: Norton, 1977.

Lacan, Jacques .The Four Fundamental Concepts of Psycho-analysis. Trans. Alan Sheridan. New York: Norton, 1978.

Matthews, Gareth. Philosophy and the Young Child. Cambridge: Harvard UP, 1980.

Rose, Jacqueline. The Case of Peter Pan: or the Impossibility of Children's Fiction. London: Macmillan, 1984.

Said, Edward. Orientalism. New York: Pantheon, 1978.

Siegel, Linda S., and Charles J. Brainerd, ed. Alternatives to Piaget: Critical Essays on the Theory. New York: Academic, 1978.

Sugarman, Susan. Piaget's Construction of the Child's Reality. Cambridge: Cambridge UP, 1987.

Perry Nodelman, former president of ChLA and editor of the Quarterly, has recently published lhe Pleasures of Children's Literature (Longman, 1992).

Coles, Robert. The Moral Life of Children. Boston: Houghton Mifflin Co., 1986.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق