عندما كنت طفلاً، قضيت ساعات طويلة برفقة أخي في بيت جدي وجدتي عندما كان والداي في العمل. كانت تتلخص هذه الساعات بشكل عام بوجبة غداء أعدّتها جدتي، وقصة كانت تحكيها لنا بكلّ فرصة، كانت تسميها "خُرّفية".
كانت دائماً تبدأ هذه الخُرّفية عندما يقرّر جدي أنه حان وقت قيلولته. كنا نجلس أنا وأخي بجانب جدتي، وتبدأ هي بسرد خرّفيتها علينا. تجدّدت قصص جدتي كلّ مرة من جديد كتجدّد الأيام، إلا أنني وأخي أحببنا الاستماع للقصّة ذاتها كل مرة من جديد: قصة جبينة. في البداية ظننّا أنّ كل من نعرفه يعرف قصة جبينة الفلسطينية، لأن جدتي كبيرة في السن، فمن المؤكد أنها سردت القصة على مسمع الكثير من الأطفال والجدات الأخرى، كي تحكيها هي كذلك لأحفادها. مع الوقت تعلمنا أن قصة جبينة تختلف من صيغة إلى أخرى، ومن مستمع إلى آخر، إلا أنّ اسمها بقي دائمًا محفوظًا وثابتًا.
بعد أن بلغنا وتعرفنا على نصوص الأخوين غريم بمساعدة والدتنا، فهمنا أنّ جبينة لم تكن فلسطينيّة الأصل، بل تحمل جذورًا ألمانيّة غريمية بشكل ملحوظ؛ فهي ذاتها قصّة "فتاة الإوز" للأخوين غريم. توفي جدي أولاً وتبعته جدتي بعد عدة سنوات، إلا أنّ جبينة بقيت في مخيلتي ومخيلة أخي بطلة فلسطينيّة رغم اكتشاف جذورها الألمانية.
عندما فهمت أنّ غالبية القصص التي سمعتها (مثل جبينة، نص نصيص والشاطر حسن) لم تكن فلسطينية الأصل بل ألمانية، صُعقت وتزعزع إيماني بالتراث الفلسطيني. إلا أنّ إيمانيسرعان ما عاد خلال دراسة الأدب الشعبيّ، ما جعلني أتَفَهّم طبيعة القصص الشعبية. لم أعد أفاجَأ من وجود تلك النصوص التي سمعتها من جدتي في مجموعات قصص أكل عليها الدهر وشرب، تعود إلى الماضي قبل مئات السنين. وبقي التساؤل المركزي الذي يراودني: كيف وصلت هذه القصص إلى مسمع جدتي. كيف لها أن تعرف نصوصًا ألمانيّة قديمة بينما لم تعرف القراءة والكتابة في لغتها العربية.
تثبت دراسات الأدب الشعبيّ أنّ نصوص القصص الشعبية هي نصوص اجتماعيّة تتطوّر في مجتمعات مختلفة تبعًا لحاجات تلك المجتمعات. هذا ما يمثل السبب والمبرّر الأساسيّ لوجود التغييرات والاختلافات بين الصيغ المختلفة للقصص. فهي تمُر بملاءمات اجتماعية بحسب المجتمع الذي يحكي تلك القصة. تنتقل القصص بين مجتمع وآخر بمساعدة المسافرين والمتنقلين بين المجتمعات، إلا أنّها ليست الطريقة الوحيدة لانتقال القصص من شعب أو مجتمع إلى آخر؛ فالمجتمعات التي تمرّ بظروف مشابهة، تحكي قصصًا شعبية مشابهة في جوهرها.
لهذه الأسباب كلها، لا يمكن تحديد الكاتب الأول أو الراوي الأول لقصص الأدب الشعبيّ. قصة مثل "جبينة" لا يمكنها أن تكون فلسطينية الأصل أو ألمانية الأصل، بل هي قصة ذات صيغة ألمانية وصيغة فلسطينية، تختلفان وفقًا للاختلافات المجتمعيّة والظروف المعيشيّة في حياة كلّ من يحكيها.
في صيغة جبينة الفلسطينية التي سمعتها من جدتي، تولد جبينة بعد عناء والديْها الطويل بانتظار ولادتها، إلّا أنها تحقق أمانيهم كلها عندما تولد طفلة بيضاء الوجه، حمراء الوجنتين، شقراء وبعينيْن زرقاويْن. تمثيل نموذج الجمال الغربي وحلم الجمال الفلسطيني. نتيجة جمال وجهها الأبيض كـ "قرص الجبن" فإنّهم يسمونها جبينة، ويُذاع صيت جمالها في جميع أنحاء البلاد. يسمع عن جمالها أمير ابن سلطان بلدٍ بعيد فيأتي لخطبتها من والديها عندما تبلغ. عند موافقة والديها وأخوالها وأعمامها على تزويجها، تحضرها عائلتها لرحلة الرحيل إلى بيت زوجها الأمير، وتخرج جبينة مع "الفاردة". تعطيها أمها ثلاث خرزات زرقاء، لتحميها من عين الحُسّاد في الطريق. وللفاردة تصطحب جبينة خادمتها السمراء، "عبدة سودا، شحرة زي الفحم"، بكلمات جدتي.
في الطريق الطويلة إلى قصر الأمير، تركب جبينة فرسًا، وتمشي خادمتها السمراءعلى رجليها، فتطلب منها كلّ مرة أن يتبادلا الأدوار، لتمشي جبينة على الأقدام وتركب الخادمة على الفرس. جبينة ترفض هذا الطلب ثلاث مرات متتالية، وتنادي أمها بواسطة الخرزات لتدافع عنها وتمنع الخادمة من اتخاذ مكانها. في مرحلة معينة تتعب جبينة وتوقف الفاردة لتنزل عن الفرس لتشرب الماء من النهر المجاور. عند انحنائها لشرب الماء، تفقد الخرزات الثلاث، وبهذا تفقد حماية أمها من شرور الخادمة. في المرة الرابعة التي تطلب فيها الخادمة تبادل الأدوار في الفاردة، تنادي جبينة أمها، لكن ما من مجيب لندائها، فسرعان ما تتمكّن منها الخادمة وتركب الفرس مكانها. تكمل الفاردة الطريق حتى يصلوا إلى "مفحمة" أو "مشحرة" (مكان صنع الفحم)، وهناك تصرخ الخادمة بوجه جبينة أن "تشحّر" نفسها، أي أن تلطخ نفسها في الفحم وتصبح هي الخادمة. وبعد هنيهة يصلون إلى "مبيضة"، تقوم فيها الخادمة بتبييض وجهها وتصبح بيضاء كما كانت جبينة.
عندما تصل جبينة والخادمة إلى القصر، تتزوّج الخادمة المتنكرة لفتاة بيضاء بالأمير وتصبح جبينة التي أصبحت سمراء من الفحم، راعية غنم ونعاج. في كل يوم، تنطلق جبينة إلى الحقل لترعى الغنم والنعاج وتغني أغنيتها الشهيرة: "يا طيور طايرة ويا وحوش سايرة// قولي لإمي وأبوي، جبينة صارت راعية // ترعى غنم وترعى نوق// وتقيّل تحت الدالية".
في أحد الأيام يسمع الأغنية السلطان فيكتشف ما جرى مع جبينة وخادمتها. يعيد السلطان جبينة إلى القصر ليزوّجها لابنه ويحكم على الخادمة السمراء بالحرق. وكانت جدتيتنهي القصة دائمًا بـ "وهيك بتجوز ابن السطان جبينة والعبدة بحرقوها، وبعيشوا بثبات ونبات وبخلّفوا صبيان وبنات. وتوتا توتا يا لؤي ويا حمودة وبتخلص علينا الحدوتة".
في الصيغة الألمانيّة للقصّة، الواردة في نص الأخويْن غريم، قصة رقم 89 من سنة 1815، هناك اختلافات طفيفة في القصة، منها إضافة شخصيات: ففرس جبينة لم يكن مجرد فرس في النص الغريميّ، بل كان حصانًا متكلمًا يحمل اسم فالادا، وبسبب قدرته على الكلام، يهدد كشف مكيدة الخادمة، فتطلب قطع رأسه وتعليقه على مدخل القصر لكي لا يستمع أحد لترهاته. شخصية أخرى وردت في النص الألماني، هي شخصية الراعي كيرداخن الذي يصطحب فتاة الإوز لرعي الإوز في الحقول، ويستمع إلى قصتها وغنائها كل يوم.
تغيير آخر طرأ على النص الفلسطيني هو الخرزات الزرق الثلاث، التي كانت ثلاث نقاط دم على وشاح أبيض في النصّ الألماني. وهذا التغيير يدل على ملاءَمة النص الفلسطينيّ للأذن الفلسطينية، التي تميّز بين السحر الأبيض (المتمثل بالخرز) والسحر الأسود المتمثل بالخادمة.
اسم جبينة هو إضافة فلسطينية بحت على القصة، تضفي عليها الأمل والجمال والرونق الفلسطينيّ، بينما في النص الألماني هناك تسميات للحصان والراعي فقط. تبديل الاوز بغنم ونعاج هو تغيير فلسطيني بهدف الملاءمة الثقافية له.
أو النكبة في الذاكرة الجماعية
ما يزيد من سحر قصة جبينة ويجعلها تمثل التراث الفلسطيني، بالإضافة لهذه التغييرات، هو ملاءَمة الأحداث فيها للرواية الفلسطينية التاريخية والسياسية. في قصة جبينة هناك تمثيل لثلاثة حيّزات تحدث فيها القصة، الحيّز الأول هو بيت والديها، الذي يمثل الأمان والعيش بكرامة. جبينة تعيش في بيتها "معززة مكرّمة" عند والديها، حتى تضطرّ لترك البيت والانتقال لبيت آخر، كما هو اللاجئ الفلسطيني الذي عاش في موطنه "معززاً مكرّماً" حتى فُرِض عليه التهجير في النكبة. لم تقبل جبينة بالهجرة عن بيتها حتى سمعت رأي جميع أفراد عائلتها الكبار، وحين حصلت على موافقتهم لم تعد تتردّد بالهجرة إلى البيت الجديد. تبعاً للرواية الفلسطينية لم يقبل الفلسطيني ترك بيته سنة 1948، حتى فُرض عليه ذلك تحت تهديد السلاح أو وعودات العودة. تهم الخيانة وبيع الأراضي للمستوطن الصهيوني قد تكون مقابلة لموافقة أفراد عائلة جبينة على خوض هذه الرحلة منذ البداية.
الحيز الثاني في القصة هو الطريق الشائكة، حيث تنطلق جبينة في رحلة طويلة ومليئة بالمخاطر والتهديدات إلى موطنها الجديد، كما هو الفلسطيني المُهجر من بيته في رحلة ما زال يحلم بالعودة منها إلى بيته. الحدث المفصلي في رحلة جبينة هو تبديل الأدوار بينها وبين الخادمة، فقد يرمز هذا للفلسطيني الذي كان سيداً في أرضه وأصبح لاجئاً في بلاد الغُرب والأعجام.
في رحلة جبينة، تَمَثَّل الأمل منذ البداية بالخرزات الثلاث التي أنقذت جبينة من الخادمة مرة تلو الأخرى، وكذلك الفلسطيني الذي ما زال متشبثًا بـ "مفتاح العودة"، كرمز للأمل بعودته إلى بيته الذي لم يعد قائماً تحت الهدم والبناء من جديد.
في الحيّز الثالث، تبقى جبينة خادمة في القصر، ومَسودة تحت إمرة السلطان والخادمة "العبدة السوداء". هكذا تفقد جبينة كل ما كانت تملكه من عزة وكرامة وسيادة في أرض الملجأ، وتصبح راعية في أوطان غير وطنها. في الحيّز الثالث، هناك مرحلتان تمرّ بهما جبينة: أولاً تكون راعية، وثم تعود لتصبح ملكة بعد كشف المؤامرة ضدها. فقد تمثل هذه النهاية الأمل الفلسطيني بالعودة للسيادة، لكن جبينة لا تعود إلى بيت والديها، بل إلى منصبها الاجتماعي كسيدة حرّة وغير مَسودة، ما يمثل الحلم الفلسطيني بشكل واضح، وهو تغيير دوره وعنوانه الاجتماعي من لاجئ إلى مواطن وسيد.
الأدب الشعبي هو أدب اجتماعي يمثل الثقافة الاجتماعية للشعوب، ويحمل في طياته أحلام الشعب وآماله وآلامه. لا يختلف الشعب الفلسطيني عن باقي الشعوب في أدواته لمحاكاة الواقع الذي يعيشه. فعلى غرار الشعب الفلسطيني اليوم، كان الشعب الألماني تحت الحكم الفرنسي حين سرد قصة "فتاة الإوز". تحويل القصة إلى فلسطينية وسردها كتراث فلسطيني بامتياز له علاقة مباشرة بمحاولة سرد الألم الفلسطيني والمعاناة للأطفال.
لا أدعي بهذا أن كل من يحكي لأحفاده قصة جبينة، يقصد أن يحكي قصة النكبة بكلمات أخرى. بالذات أن جدتي لم تمُر بأيّ تهجير، بل ولدت في وطن وبقيت فيه، إلا أنّ الذاكرة الفلسطينية بحاجة ماسّة لأدوات لمحاكاة الواقع، والأدب الشعبي هو الأداة الأكثر انتشاراً في المجتمعات. عانت جدتي الكثير في بلادها وفي وطنها من سلب ونهب وتهديد، إلا أنها لم تجد الكلمات للتعبير عن هذا كله، فحفظت التراث الذي سمعته ونقلته لي ولأخي لنكمل سرده إلى الأجيال القادمة.
قد لا تكون "فتاة الإوز" قصة فلسطينيّة المصدر، إلا أنّ "جبينة" هي قصة فلسطينية بامتياز تعيش في الذاكرة الجماعيّة للفلسطينيين في جميع أنحاء المعمورة، وتحمل في طياتها آلام النكبة والتهجير.
تعليقات (0)
إضافة تعليق