حكايا

ميكي ملك الفئران: شيطان أم طفل بريء؟


ميكي ملك الفئران: شيطان أم طفل بريء؟
دور وتمثيل الفئران في أدب الأطفال على مرّ العصور: من شياطين مُضرّة إلى ملائكة بريئة

أدب الأطفال يُكتب على يد البالغين والكبار، ويمثّل -بشكل عام- القيم التي يسعى إليها الكبار ويعتقدون أنّها الأفضل لتربية الأطفال من أجل إعدادهم لدخول المجتمع. أكثر من 60% من أدب الأطفال العالميّ هو عبارة عن نصوص لقصص عن الحيوانات. قصص الحيوانات –وهي بغالبيتها أمثال- تساعد الكبار على تبسيط قيمهم وتمريرها إلى الأطفال.

الفأر في النصوص الدينيّة

على مرّ العصور، اختلف دور الحيوانات في النصوص، وبعض الحيوانات كذلك اختلفت وجهة النظر إليها. فالحمار مثلاً كان في الماضي حيوانًا يمثّل القدرة على الصمود تحت العبء الثقيل، ليس أقلَّ من الجمل الذي امتاز بالصّبر، إلا أنّه أصبح اليوم رمزًا للغباء والجهل، كما جاء في النصّ القرآنيّ في سورة الجمعة في الآية الخامسة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ". ويأتي هذا مخالفًا تمامًا عمّا جاء مسبقًا في النصّ التوراتيّ، إذ ذُكر فيه الحمار كرمز للطبقة الغنيّة والطبقة الاجتماعيّة العالية كما جاء في سفر التكوين 24:35: "وَالرَّبُّ قَدْ بَارَكَ مَوْلاَيَ جِدًّا فَصَارَ عَظِيمًا، وَأَعْطَاهُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَفِضَّةً وَذَهَبًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً وَجِمَالاً وَحَمِيرًا".
حيوان آخر مرّ بتغيير جذريّ، ولربّما أكبر حتى من التغيير الذي مرّ به الحمار، هو الفأر. فالفأر كان في أدنى المنازل في الثقافة العالميّة وفي ثقافة الأطفال، وارتفع ليصبح أحد الرموز المركزيّة للطفولة في أدب الأطفال وثقافتهم. وقد اُعتبر الفأر في الماضي رمزًا للضرر بالذات على المزارعين، وحينما اعتمد الاقتصاد العالميّ بالذات على الزراعة، كان الفأر أحد أكثر الحيوانات المكروهة عند البشر.
في الإسلام أمرت الشريعة بقتل الفأر حيثما وجد، لما يترتب على وجوده من فساد. فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحل والْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" (رواه البخاري (3314) ومسلم (1198)). وقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بن القصار: "إنَّمَا سَمَّاهَا فَوَاسِقَ لِخُرُوجِهَا عَمَّا عَلَيْهِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَاوَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا".
في العهد القديم كان التوجه شبيهًا في سفر اللاويّين: "وَهذَا هُوَ النَّجِسُ لَكُمْ مِنَ الدَّبِيبِ الَّذِي يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ: اِبْنُ عِرْسٍ وَالْفَأْرُ وَالضَّبُّ عَلَى أَجْنَاسِهِ وَالْحِرْذَوْنُ وَالْوَرَلُ وَالْوَزَغَةُ وَالْعِظَايَةُ وَالْحِرْبَاءُ." وكذلك في التلمود اليهودي الذي وصفه بالحيوان المُضرّ النجس الذي قد يهدّد المحاصيل وينشر الأمراض، رغم صغر حجمه وضعفه المزعوم.

البالغون يتوقّعون من الأطفال أن يكونوا بريئين وساذجين كميكي ماوس، لكنّ الأطفال في الكثير من الأحيان أذكى من ذلك وذوو قدرة أكبر على التخطيط والتدبير على غرار جيري

الفأر في أدب الأطفال

في خرافات وأمثال أيسوب المعروفة للجميع، ذُكر الفأر كحيوان صغير وضعيف ولكن عند الحاجة يمكنه أن يتحايل على أقوى الحيوانات ويتغلب عليها، حتى لو كانت تلبس تاج ملك الغابة (قصة الأسد والفأر). في نص شارل بيرو لقصة المعفرة (سندريلا) من القرن السابع عشر، كانت الفئران صديقة سندريلا الأقرب عندما كانت معفّرة، ورمزت الفئران لطبقتها الاجتماعية الدنيا والحقيرة لكونها الصديق الوحيد الذي وجدته سندريلا في تلك الطبقة. حتى في نهاية القرن التاسع عشر في قصة روبرت براونينغ "زمار هاملين" ترمز الفئران إلى الفساد والشيطانيّة التي أكلت الأخضر واليابس في هاملين، سيطرت على كل أراضيه وأبقته خالي الوفاض حتى جاء الزمار لينقذه منها.
كما نرى حتى بداية القرن العشرين، تمثل الفئران كل ما هو مضر ومشاكس ومشاغب برغم حجمه الصغير، وهو ذكيّ ومحتال ومفاجئ دومًا، بالرغم من قلة التوقعات منه. كلها مميزات وصفات نجدها كذلك في الأطفال. كما شابه براونينغ بين الفئران والأطفال حين لحقه الأطفال بالضبط كما لحقته الفئران، ونرى ببساطة أن كيان الفأر في هذه النصوص يمثل كيان الطفل، على الأقل كما كان حتى القرن العشرين. كما ذكرنا في نصوص أخرى. وإلى حين مجيء التوجه النفسي للطفولة، كانت شخصية الطفل هي شخصية شيطانية مليئة بالخطايا يجب تربيتها وإعادة بلورتها من جديد من خلال التربية والتعليم، في التوجه التربوي للطفولة.

ميكي ماوس– ملك الفئران

وهكذا، كما تغير التوجه للأطفال، مع تطور علم النفس التحليلي، تغير كذلك التوجه للفئران في أدب الأطفال، وذلك مع تطور ملك الفئران- "ميكي ماوس" (الفأر ميكي). ميكي ماوس هو فأر أسود صغير يرتدي بنطلونًا أحمر، وحذاء أصفر وقفازين بيضاويْن. ميكي ماوس يعتبر الفأر الأشهر في العالم وأحد أبرز الرموز التسويقيّة في العالم. في سنة 1928 صمّمه مؤسّس شركة ديزني، والت ديزني، بمساعدة صديقه رسام الكرتون أب أيوركس، ومع مرّ الزمن أصبح ميكي ماوس رمزًا مركزيًّا لاستديوهات والت ديزني. في دراسات علم النفس حول الشخصية وسرّ نجاحها العالمي، نجد أنّ الدوائر الثلاث، رأس ميكي وأذنيه، تمثل النفس البشريّة في نظرية يونغ لعلم النفس التحليليّ. فالدائرة هي الشكل الذي يمثل شمولية النفس البشرية واحتواءها للخير والشر معًا. وفي دراسة أخرى نجد أنّ سر نجاح ميكي ماوس هو في شكله الذي يمثل الطفل الرضيع، إذ أنّ شخصية ميكي لم تتغير على مر السنين بالرغم من أن عمرها تعدى الثمانين، وبقيت شخصية ذات رأس كبير نسبة لجسدها، وخدّاها منفوخين، وعيناها كبيرتين، وأطرافها قصيرة- تمامًا كالرضيع الصغير. ميكي ماوس هو الرضيع الصغير غير المؤذي، البريء، اللطيف وممثل الطفولة المركزيّ في أيامنا، بالذات أنّ الكثير منا ترعرع على أفلام والت ديزني. فقد أصبحت شخصيته تذكّرنا بأنفسنا كأطفال وتعيدنا لذكريات الطفولة البريئة.

ميكي ماوس هو الرضيع الصغير غير المؤذي، البريء، اللطيف وممثل الطفولة المركزيّ في أيامنا، بالذات أنّ الكثير منا ترعرع على أفلام والت ديزني. فقد أصبحت شخصيته تذكّرنا بأنفسنا كأطفال وتعيدنا لذكريات الطفولة البريئة

توم وجيري

فأر آخر يذكّرنا بطفولتنا ويرسم الابتسامة على شفاهنا في الحال، هو جيري، الشيطان الصغير الذي يفقد القطّ توم صوابه على مدار السنوات، وكأنهما يتراكضان الواحد وراء الآخر منذ الأزل. توم وجيري هو المسلسل الكرتونيّ المعروف الذي قد أذهب النوم عن أعين الكبار والصغار، صدر للمرة الأولى سنة 1940 من انتاج المبدعين الأمريكييْن ويليام حنا ويوسف بربارة. حاز المسلسل على جوائز عديدة على مرّ السنين، منها سبعة جوائز أوسكار، وقد ذكر في مجلة الـ Time من ضمن أهم 100 مسلسل كرتونيّ على مرّ التاريخ. الفأر جيري، أو جينكس كما كان اسمه في البداية، يشبه ميكي كثيراً في مبنى جسده ولكنه يختلف عنه تماماً من باقي النواحي. أولاً جيري هو فأر عارٍ، لا يزعم كونه طفلًا بشريًّا، بل هو فأر يسكن في جحر فئران في أحد المنازل؛ ثانياً، جيري لا يمتاز بأيّ براءة ممّا تميّز به ميكي ماوس بل بالعكس تمامًا: فهو يتميّز بالحيلة والقدرة على التخطيط للايقاع بالقط توم.

الفرق بين ميكي ماوس وجيري، ليس إلا صورة أخرى للأطفال في العالم الواقعي

الخلاصة

هذا الفرق بين ميكي ماوس وجيري ليس إلا صورة أخرى للأطفال في العالم الواقعيّ. فالبالغون يتوقعون من الأطفال أن يكونوا بريئين وساذجين كميكي ماوس والأفلام التي يمثلها ذات نهاية سعيدة دائمًا، لكنّ الأطفال في الكثير من الأحيان، هم أذكى من ذلك وذوو قدرة أكبر على التخطيط والتدبير كما هو جيري. جيري هو الدليل على أنّ مفهوم الشيطانيّة الذي طوّر التوجه التربوي للطفولة، ما زال حياً فينا بجانب التوجه النفسيّ، ولم يتم تبديله بشكل مطلق بل أضيف اليه مفهومٌ جديدٌ.
نتيجة لهذه الازدواجية في التوجه الى الأطفال اليوم، قد نجد نوعيْن من الفئران في أدب الأطفال: الفئران اللطيفة والفئران الخبيثة. قد نجد قصصًا عن فرفور وفرفورة، أسماء الدلع للفأر والفأرة اللطيفين والصغيرين، وقد نجد قصصًا تصيغ القديمة من جديد، وتتحدّث عن ذكاء الفئران وقدرتها على التغلب على المصاعب، وحتى إتيانها بالضرر في الكثير من الأحيان. مثل هذه الازدواجية نجدها كذلك في مسلسل "بينكي وبرين" (1995): فأرا المختبر اللذان يحاولان السيطرة على العالم كلّ ليلة من جديد، إلا أنّ تخطيطات برين العبقرية تلقى الفشل بسبب اخفاقات بينكي الساذجة، كلّ ليلة من جديد!

تعليقات (0)

    إضافة تعليق